مقالات

الثورة السورية ومنسأة سليمان

محمد بشير الخلف

كاتب وسياسي
عرض مقالات الكاتب


تحاول الدول على اختلاف رؤاها الاستراتيجية ونُظُمِها الإدارية أن ترسم فضاء متماسكاً يستوعب كل إمكانياتها وطاقاتها لتنزيل هذا الفضاء الخرائطي عبر برامج سياسية، فالسياسة مرنة سيالة تستجيب لعوارض الاهتزازات والانقلابات في الرؤى والتصورات أمام الآخر الصديق أو الخصم.
حين قامت الانتفاضة الشعبية في سوريا وتصاعدت أهدافها؛ بحيث أصبحت ثورة على النظام الاستبدادي، وقفت الجارة تركيا مع مطالب الشعب السوري في التغيير الديمقراطي، وهو ما كان منسجماً مع رؤية حكومة العدالة والتنمية ذات البعد الإخواني في نظرتها إلى العالم العربي.
كانت سياستها متدرجة اتجاه الأوضاع المتفاقمة سواء لجهة النظام أم لسياقات الثورة، حتى وصلت إلى القطيعة السياسية مع النظام؛ لأن بقاء النظام من ناحية موضوعية مضر و معرقل للاستراتيجية التركية، وليس لجوانب عاطفية مررتها بعض الأطراف تضليلاً لجماهير الثورة أملاً في حصولها على الكأس المُعلّا حين نجاح الثورة.
بعد دخول داعش على خط الثورة و احتلالها للمشهد العام من حلب إلى تخوم بغداد، أخذت الدول تعيد رسم استراتيجياتها وفق المعطى الجديد الذي كان تحت أنظار الدول الكبرى صاحبة القرار الدولي بحيث جعلوا منها جسراً لتمرير استراتيجياتهم للمنطقة.
كانت مصالح الدول متضاربة حول تركة داعش بعد أن أخذ قراراً بتصفيتها بواسطة تحالف دولي قادته أمريكا ، والتي أخذت القسم الأكبر من الأرض التي كانوا يسيطرون عليها، و هي ما أصبحت تعرف بشرق الفرات بالمشاركة مع حليف محلي تغلب على تشكيلاته الأحزاب الكردية.
لم تكن الخطوة الأمريكية بتعزيز قوات شرق الفرات التي أخذت اسم قوات سوريا الديمقراطية بمرضية للجانب التركي؛ لأنها بحسب زعمهم تمس بأمنهم القومي ودخلوا بحوارات ومناكفات مع كل الأطراف المتشابكة في الأرض السورية علّهم يخففون من الخطر فاستطاعوا بالتوافق مع الروس من السيطرة على عفرين، ومن ثم بالتوافق مع الأمريكان أخذوا تل أبيض ورأس العين، وراهنوا على موقع تركيا وحاجة جميع الأطراف إليها ليطردوا قوات سوريا الديمقراطية من شرق الفرات، إلا أنهم فشلوا بسبب تمسك الأطراف الأخرى بعدم السماح بالمس بشرق الفرات.
هنا أدركت تركيا أن استرتيجيتها التي كانت تعمل برؤيتها وصلت إلى طريق مسدود.
فأخذت تعمل على استراتيجية جديدة تتوافق مع استراتيجية روسيا و إيران في نظرتهم لبقاء نظام الأسد وما التبدل في لغة التصريحات السياسية والتحركات الدبلوماسية الجديدة إلا ترجمة لانزياح الرؤيا التركية اتجاه النظام.
كان آخر تصريح لوزير الخارجية التركية بمثابة الشرارة التي ستحرق كل البيادر المتشارك في حصادها السياسي، فالناس محتقنة من سوء إدارة المناطق المحررة؛ فالفساد، والإقصاء، والتهميش، والتنمر، والفلتان الأمني كلها كان مسكوتاً عنها لقاء السير في العمل السياسي الداعم لحق السوريين في وطن حر عزيز.
من غير المفاجئ هبّة الثوار في أغلب بلدات الشمال السوري فهي احتضنت كل الرافضين للمصالحات من درعا إلى الغوطة إلى حمص إلى المهجرين من باقي المحافظات ، فهؤلاء يعتبرون صفوة الثوار و هم يشعرون بأنهم قد خسروا كل شيء في سبيل حريتهم و كرامتهم.
أيقن هؤلاء القابضون على الجمر أن مؤسسات الثورة انحرفت عن سياقاتها ، و نخرها الفساد و أضرت بها التبعية من أصغر مؤسسة فيها إلى الحكومة إلى الائتلاف (و على الثوار تشكيل أجسام سياسية جديدة تعبّر عن مصالح الثورة) ، رغم معرفة الناس بالحالة السياسية الراهنة فهم يدركون أن الروسي وإيران يتربصون بهم، و يتحينون الفرص للانقضاض عليهم إلا أنهم فضّلوا مواجهة المصير على الاستسلام المذل المهين.
و هنا مكمن التفارق في الرؤيا فتركيا ليس سهلاً عليها أن تقوم بهذا الدور ، و لكن مصلحتها الاستراتيجية وتكتيكها السياسي نابع من ضرورات المرحلة و الثورة، والثوار ما زالت بوصلتهم موجهة باتجاه إسقاط النظام وتحالفاتهم مفتوحة مع من يتقاطع معهم.
يحتاج الثوار و حلفاؤهم الأتراك لحظة هدوء لإبعاد الهواجس والظنون لتصويب المسار والوقوف على ما هو متفق عليه وما هو مختلف عليه من جهة مصلحة كل طرف من الأطراف وهذه حالة صحية في سياق السياسات الدولية، فقد تتفق دولتان بنقاط و تختلف بنقاط بحسب مصالح كل طرف مع الاحتفاظ بعلاقات التواصل و خدمة مصالح الشعوب.
ليس ببعيد أن يكون لسياق العراق السياسي منعكس على السياق السوري، ففيه كثير من نقاط التشابه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى