بحوث ودراسات

التنمية المستدامة في التعليم بين المفهوم الوضعي والمفهوم الإسلامي تعريفاً وتأصيلاً

د. محمد القطاونة

أستاذ العقيدة والفلسفة
عرض مقالات الكاتب


مصطلح التنمية المستدامة مصطلح معاصر وحداثي نشأ نتيجة تطور الوعي البشري في البحث عن حلول مشاكل أو في وضع خطط للمستقبل لتفادي المشاكل الممكنة، وهو مصطلح شمولي يشمل مجالات كثيرة، فمن الناحية الاصطلاحية يراد بالتنمية زيادة الموارد والقدرات الإنتاجية، وهذا المصطلح بالرغم من حداثته يستعمل للدلالة على أنماط مختلفة، مثل التنمية الاقتصادية، والتنمية الثقافية، والتنمية في السياسة والتنمية الاجتماعية. فيراد مثلا بالتنمية الاقتصادية الاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية والبشرية، لغرض تحقيق زيادات مستمرة في الدخل تفوق معدلات النمو السكاني، وتأتي التنمية الثقافية بمعنى تحسين المستوى الفكري للجماعات البشرية من خلال تعميم التعليم ومحاربة الأمية والنهوض بالفنون ووسائل الإعلام والتواصل.
لذلك وجدنا من يدمج كل هذه المصطلحات والمفاهيم تحت مسمى التنمية المتكاملة، إلا أن هذا المصطلح تطور مع الوقت وطور نفسه من خلال الالتفات الى أن هذا المناهج تقف على إشكاليات الحاضر وحل مشكلات المجتمعات الحاضرة وتنميتها دون الالتفات الى ما يمكن تسببه للأجيال القادمة، فقد قام كاتبوا تقرير لجنة (برونتلاند) المعنون (مستقبلنا المشترك) عام 1987م بوضع مصطلح (التنمية المستدامة) للدلالة على التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر دون أن تؤثر على في قدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتهم، كذلك تأتي بمعنى التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحالي دون المساس باحتياجات الأجيال القادمة.
التنمية المستدامة في التعليم وتأصيل المصطلح: نظراً لما سبق نستطيع القول بأن التنمية المستدامة لها مجالات متعددة منها المادي ومنها النظري، لأن الهاجس التنموي مثلاً يدور حول قياس مستوى الفقر فكانت المقاييس تعكس الفقر البشري بأبعاده المختلفة (الفقر الفسيولوجي والفقر المعرفي والصحي … الخ) فكانت هذه التصنيفات بمثابة تطور في منظومة التنمية المستدامة الشاملة وصولاً نحو استخدام مفهوم التنمية البشرية المستدامة الذي تم تطوير مقاييسه ومؤشراته بما ينسجم وروح المفهوم.
لذلك نجد مقاييس التنمية البشرية المستدامة تتشكل في ثلاث مؤشرات: هي (طول العمر وهو المؤشر المتعلق بالجانب الطبي) (التحصيل العلمي ومقاساً بمؤشرات فرعية هي أ- نسبة البالغين الذين يقرأون ويكتبون ب- معدل المستفيد الإجمالي في المراحل الدراسية المتعددة و(مستوى المعيشة مقاساً بنصيب الفرد الحقيقي في الناتج المحلي). نلاحظ هنا ما أشرنا إليه سابقاً من التقسيم: بأن التنمية المستدامة تؤكد على جوانب مادية وجوانب معرفية نظرية ويأتي التعليم تحت تصنيف الجانب المعرفي الذي تؤكد عليه التنمية المستدامة.
كذلك يمكننا التعمق أكثر في مصطلح التعليم في التنمية وعلاقته بالتنمية المستدامة وتقسيمه الى قسمين:
الأول: التعليم من أجل التنمية المستدامة وهذا المصطلح يعتبر كون التعليم أداة لرفع مستوى التنمية المستدامة
وهذا ما جاء في أحد التعريفات التي ذكرتها (اليونسكو) بأنه التعليم الذي يمكّن التنمية المستدامة
(ESD) المتعلمين من المعرفة والمهارات والقيم والمواقف لاتخاذ قرارات مستنيرة واتخاذ اجراءات مسؤولة.
الثاني: التعليم في التنمية المستدامة وهذا المصطلح يعتبر كون التعليم جزء من منظومة التنمية المستدامة الداخلية والشاملة، وهو : التعليم الجيد الذي يعزز الابعاد المعرفية والاجتماعية والعاطفية والسلوكية للتعليم، وتشمل محتوى التعليم ومخرجاته وطرق التعليم وبيئته. ومن جانب آخر نجد تعريفات قريبه من مجال التنمية المستدامة في التعليم، كمصطلح مجتمع المعرفة الذي ظهر في نهاية الستينات من القرن العشرين، والذي يعتبر من أقدم التعريفات المتعلقة بالتنمية المستدامة والتعليم، ويؤكد هذا المصطلح على أن الثروة الحقيقية للدول تتوقف على طاقاتها في انتاج المعارف وتبادلها وتحويلها الى ثروات طبيعية. وقد ظهر هذا المصطلح للتميز بين (مجتمع المعلومات) (ومجتمع المعرفة) لنجد المصطلح الأول يؤكد على الجانب التقني وينحاز له متمثلاً بصورة أساسية في شبكات الاتصال. والمصطلح الثاني يشير الى استخدام المعرفة كأهم مورد للتنمية ويتمحور حول بناء القدرات لاستغلال موارد المعلومات بصورة فعّالة .
مصطلح التعليم والتنمية المستدامة الإسلامي وخصوصيته: عند الحديث عن مصطلح التنمية المستدامة في التعليم من زاوية التفكير الإسلامي يتبادر الى الذهن لماذا التنمية الإسلامية في التعليم؟ ولماذا لا تنطوي الأمم والشعوب على رؤية واحده في نظرتها للتنمية في التعليم والتنمية المستدامة تحديداً؟ لذلك نرى بأن الإجابة على هذا التساؤل من جانبين: أولاً: التأكيد على دور الإسلام الحضاري في التنمية واستدامتها الشاملة، لأن عقيدة الإسلام هي منهج شمولي لا يتجزأ، وللامة تجربة قديمة انطلاقا من عقيدتها، إذ نقلتها ونمتها من حياة البداوة والسبات الى حياة الحضارة والتنمية والحركة، وقد صيغت هذه الحضارة في ضل عقيدة وشريعة صياغة جديدة وتحولت بفضلها الى واقع التنمية الحضارية في خدمة الإنسانية جمعاء التي شهد لها العصر الوسيط . ويأتي هذا انطلاقا من القاعدة الفقهية “حيثما كانت مصلحة المسلمين فثمة شرع الله” ثانياً: أن التنمية عملية متكاملة في الإسلام فعلى سبيل المثال “تطبيق الاقتصاد الإسلام بوحده دون أخذه ضمن إطار المنظومة الإسلامية، لا يؤدي الى النتائج التي أوجد من أجلها” لذلك حرص الإسلام على شمولية الرؤية في التأسيس والتطوير والتنمية كذلك، لذلك حرص الإسلام على تتبع أسباب التنمية وحركة العمران والتغير الحضاري من خلال الوحي.
وللإجابة على السؤال الذي طرحناه في المقدمة بقولنا لماذا نحتاج تنمية مستدامة منطلقة من الوحي وخصوصيته الاسلامية نقول بأن العالم وتطوره ضمن حضارات متعددة، كل واحدة من هذه الحضارات كان ينطلق من أسس معرفية وقيمية خاصة به ولم يؤثر هذا على التقدم والتنمية الحضارية العالمية، اذ لا يوجد بما يسمى المسار الواحد للحضارة كما يقول الدكتور محسن عبدالحميد، وأن العالم تطور ضمن مقولات خاصة، يعدها قانونا وتخضع لها الحضارات كلها في حين أن الاستقراء العلمي ينتهي بنا الى أن كل حضارة أو مجموعة حضارية لها خصوصية معينة على الرغم من الجسور المشتركة بينها وبين سائر الحضارات. لذلك كانت قراءة الحضارة الإسلامية من خلال الحضارة الغربية ومنظومتها خطأ كبيراً وقع فيه مخططو التنمية التعليمية في العالم الإسلامي وذلك لتباين الثقافة والبيئة، وقد طبق المفكر الإسلامي مالك بن نبي هذه النظرية في الجانب الاقتصادي على المجتمع الاندونيسي، وأثبت أن الخطط الاقتصادية الذكية التي طبقها الاقتصادي الألماني “شاخت” والتي دفعت ألمانيا الى نشاط تنمي كبير، أخفقت في اندونيسيا عند تطبيقها من لدن الدكتور “شاخت” نفسه إخفاقاً كبيراً، ولم يكن لها أثر في التنمية. لأن كل مجتمع ينتمي الى منظومة حضارية مختلفة .
أما مصطلح التنمية المستدامة الإسلامية في التعليم: فنجد قله تحدثوا حول هذا المفهوم، او نجد بعض التعاريف التي تخلط بين تعريف التنمية المستدامة في التعليم مع مفهوم الجودة، وهذا فيه نوع من العموم، إذ تعتبر الجودة الشاملة في التعليم كمفهوم أوسع من التنمية المستدامة تحديداً التي تعنينا في هذه الدراسة. على سبيل المثال يقول الدكتور الخطيب: “هي ترجمة احتياجات وتوقعات المستفيدين من العملية التعليمية الى مجموعة خصائص محدده تكون أساساً في تصميم الخدمات التعليمية وطريقة أداء العمل من أجل تلبية احتياجات وتوقعات المستفيدين وتحقيق رضى الله عز وجل” وعرفه الشافعي بقوله: قدرة الإدارة التعليمية في مستوياتها ومواقعها المختلفة على أداء أعمالها بالدرجة التي تمكنها من أعداد خريجين يمتلكون من المواصفات ما يمكنهم من تلبية احتياجات التنمية في مجتمعاتهم طبقا لما تم تحديده من أهداف ومواصفات لهؤلاء الخريجين”
ومن يدقق يجد أن التعريفات للتنمية المستدامة في المفهوم الإسلامي في التعليم قاصره عن الكثير من المفاهيم الضرورية، ليعبر هذا المصطلح عن أصالته علينا أولاً أن نحرر المفاهيم من سياقها الفلسفي الذي نشأت فيه، فنلاحظ من خلال التعريفات السابقة خلوها من مضمون الرؤية الإسلامية في التنمية، كذلك مصدرية هذه التنمية المستدامة التي يعبر عنها الإسلام، وكذلك الآليات التي وضوابطها للتنمية المستدامة.
لذلك يرى الباحثان بأن التنمية المستدامة في المفهوم الاسلامي هي: تعبير عن رؤى الإسلام المادية والروحية في العملية التعليمية وتنميتها في ضوء مقاصد الشريعة والفكر الإسلامي، للوقف على إشكاليات التعليم بما يحقق التنمية المستدامة للواقع الإسلامي ورؤاها المستقبلية “.
وقد بنى الباحثان هذا التعريف على عدد من المسائل، منها التأكيد على مصدرية هذه التنمية الراجعة الى مصادر الإسلام الأصيلة من الوحي ومصادر الإسلام وقواعده المنبثقة منها، لأننا بحاجة الى تأصيل المفهوم تأصيلاً اسلامياً لنستطيع البناء عليه بعد ذلك، من جانب آخر يؤكد هذا التعريف على الآليات التي تستخدمها التنمية المستدامة في التعليمية وعلاقتها بالقيم الإسلامية وانسجامه معها، بذلك يعالج هذا التعريف ويشمل المادة العلمية ذاتها وتنميتها أفكارها، وكذلك المناهج والآليات التي تستخدم لنقل هذه المادة العالمية ضمن أسس الوحي وقواعده .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى