ثقافة وأدب

نصف كغ “وطن”

صالح موسى الحمزة

محام وكاتب سوري
عرض مقالات الكاتب

في غابات الضياع حيث يعتلي الخوف عرشه يأتيك صوت المهرب اللاهث مخترقًا صوت المطر:
أسرعوا ياشباب إنهم خلفنا مباشرة
أركضوا أركضوا.. إن أمسكوا بنا لن يرحمونا هذه المرة.
ألقوا تلك الحقائب إنها تعيقكم أنجوا بأرواحكم.
رأيت “عمر” يخرج علبة معدنية أمسكها بقوة وألقى حقيبته بما فيها حتى لا تعيق هروبه من عساكر الحدود ضم العلبة إلى صدره وانطلق مسرعًا بقوة والوحل يتطاير من بقايا حذائه المهترىء.

في الغابة الكئيبة أنهكنا التعب والجوع وبصعوبة وجدنا مكانًا آمنًا نلوذ به عسى أن يحالفنا الحظ وننجو هذه المرة، إنها المحاولة الثالثة خلال عشرة أيام، ومع كل محاولة هناك مخاطرة بالروح، والجسد، والمال.

ياشباب أمامنا نهر وبعده مسيرة نصف يوم ثم نصبح على مشارف الحدود النمساوية، عندها نصل إلى منطقة الأمان. هكذا قال المهرب وهو بالكاد يسحب أنفاسه.
كل الرحلة كان “عمر” يتمسك بتلك الجرة المعدنية بحرص مبالغ وكأنما وضعت روحه فيها.
بعد شهرين من التعب والجوع والمطاردة بين الغابات والجبال وصلنا إلى داخل النمسا.. سلمنا أنفسنا لأقرب مركز شرطة، قاموا بفحص كل الموجودات بعناية كانت عينا “عمر” تتابعان علبته المعدنية مما أثار فضول الشرطة.

بخوف وارتباك واضح أخبر المترجم أنها تهمه كثيرًا إنها غالية جدا على قلبه، أوصهم أن يحافظوا عليها، هكذا قال “عمر”.
نظر إليه المترجم باستغراب وترجم جملته للشرطة.
بعد أربع ساعات تم نقلنا إلى مركز الإيواء الأول وصديقي”عمر” مضطرب مشدوه التفكير, كأنما فقد أهله ولكم كانت فرحته عظيمة عندما أعادوا له علبته المعدنية مع ورقة تحليل كتب فيها:
مجرد تراب عادي قادم من سوريا!

في المخيم فتح “عمر” علبته وشمها بعمق ودمعت عيناه، أغلقها بعناية ثم احتضنها إلى صدره وغفى كما يغفو طفل على صدر أمه.

في الصباح استيقظ الجميع ما عدا “عمر ” كان جثة هامدة، مبتسمًا مشرق الوجه وكأنما حظي بشيئ جميل أفتقده زمناً.
وقفنا في جنازته مذهولين وشاركنا بإهاله التراب على قبره، طلبنا من القائمين على دفنه أن تدفن جرة التراب معه.

جلسنا حول قبره نبكيه كان رفيقا طيبا رقيقا قليل الكلام كثير الصمت لم نعرف عنه سوى أنه من قرية صغيرة في ريف حلب الجنوبي، وهو الأخير المتبقي من عائلة قتل الشبيحة كل أفرادها ورموهم في بئر القرية.
ودعناه بحرقة والألم يعتصر قلوبنا وكتبنا على شاهدة قبره بخط عربي:
هنا مات “عمر”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى