بحوث ودراسات

الملابسات الحقيقيَّة للفتنة الكبرى بين الحقيقة وافتراء “حروب الرُّحماء” 3من 9

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

الأسباب الحقيقيَّة لموقعة الجمل

يكرّر حسَّان (2007م) أنَّ تاريخ نشأة دولة الإسلام وسيرة الصَّحابة وأخبار المعارك لم يبدأ تدوينها إلَّا بعد سقوط دولة بني أميَّة، وفي عهد دولة العبَّاسيين، الَّذين ناصبوا بني أميَّة العداء. لن ننسى أنَّ نفوذ الفُرس كان كبيرًا في عهد الدَّولة العبَّاسيَّة، لا سيّما في فترة حُكم الخليفة المأمون، الَّذي وُلد لأمّ فارسيَّة؛ فعمل الفُرس على التَّنفيس عن حقدهم تجاه أبي بكر وعمر، الَّلذين أسقطا دولة المجوس. وقد تعمَّد مؤرّخو تلك الفترة غضَّ الطَّرف عن الرّوايات الصَّحيحة عن الصَّحابة، وبخاصَّة ما ورد عن عائشة وأبي هريرة وعُمر وابن عُمر. أمَّا عن الظُّروف الَّتي أدَّت إلى اقتتال الصَّحابة في موقعة الجمل، فكانت بمنتهى البساطة إصرار طلحة والزُّبير، أوَّل مَن دفعا عليًّا إلى الخلافة وبايعاه أميرًا للمؤمنين، على وأد فتنة الخوارج الباطنيين، أسلاف الرَّوافض المتآمرين على أهل السُّنَّة، بينما أراد عليٌّ التَّمهُّل حقنًا للدّماء. توجَّه طلحة والزُّبير إلى مكَّة، حيث كانت تقيم أمُّ المؤمنين عائشة بعد أدائها مناسك الحجّ، وطلبا منها حثّ العامَّة على مواجهة الفتنة والمطالبة بدم عثمان. وكما يرد في تاريخ الطَّبري (جـ3، صـ12)، قالت عائشة “إنَّ عثمان قُتل مظلومًا، والله لأطالبنَّ بدمه”. نصح طلحة والزُّبير عائشة بالذّهاب إلى البصرة لتحميس أهلها على قتال الخوارج؛ فوافقت أمُّ المؤمنين، دون أن يكون لها هدف سوى الإصلاح. غير أنَّ إبراهيم عيسى يدَّعي في رحلة الدَّم أنَّ عائشة كانت من أكبر المحرّضين على قتْل عثمان؛ واختلق واقعة عن مواجهتها بذلك لمَّا وقفت أمام الكعبة تدعو إلى الاقتصاص من قتلة عثمان (صــ43).

هذا، وقد أخبر النَّبيُّ (ﷺ) عن واقعة خروج إحدى نسائه على جمل في موقعة يهلك فيها كثيرون، كما أورد الألباني في السّلسلة الصَّحيحة (1/852)، عن عبد الله بن عبَّاس أنَّه(ﷺ) قال لنسائه “ليت شِعري أيُّتكنَّ صاحبةُ الجملِ الأدبَبِ تخرج فينبحُها كلابُ الحوْأَبُ يقتلُ عن يمينِها وعن يسارِها قتلى كثيرٌ ثم تنجو بعدما كادتْ”. أرادت عائشة العودة بعد أن حدثت نبوءة الَّذي لا ينطق عن الهوى، لكنَّها أُقنعت بالمضي في طريقها، أملًا في وأد الفتنة واستئصال شأفة الخوارج. وسُمّيت الموقعة موقعة الجمل نسبة إلى الجمل الَّذي ركبته عائشة، وكان من إهداء يزيد بن أميَّة، وقُتل ذلك الجمل في الموقعة، وكادت عائشة أن تُقتل. وقد أرسلت عائشة إلى أبي موسى الأشعري، والي الإمام عليّ على الكوفة، رسالة توضح فيها سبب خروجها إلى البصرة، ملتمسةً دعمه ومدده، كما يورد ابن حبَّان في الثّقات (جـ2، صـ282):

بِسم اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم، من عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ إِلَى عَبْد اللَّه بْن قيس الْأَشْعَرِيّ، سَلام عَلَيْك فَإِنِّي أَحْمَد إِلَيْك اللَّه الَّذي لَا إِلَه إِلَّا هُوَ أما بعد فَإِنَّهُ قد كَانَ من قتل عُثْمَان مَا قد علمت وَقد خرجتُ مُصْلِحَةً بَين النَّاس، فَمر من قبلك بالقرار فِي مَنَازِلهمْ وَالرِّضَا بالعافية حَتَّى يَأْتِيهم مَا يحبونَ من صَلَاح أَمر الْمُسلمين فَإِن قتلة عُثْمَان فارقوا الْجَمَاعَة وَأَحلُّوا بِأَنْفسِهِم الْبَوَار.

تجدر الإشارة في هذا السّياق إلى تدليس إبراهيم عيسى في حروب الرُّحماء، من خلال سرده مثل تلك الرُّوايات وروايتها على لسان عائشة، متظاهرًا بالحياديَّة في نقْل الأحداث التَّاريخيَّة، ولكنَّه مع ذلك يدَّعي أنَّ عائشة كانت تقول خلاف ما تبطن، وأنَّها لم تخرج إلَّا طلبًا للإمارة لابن أختها، عبد الله بن الزُّبير. ويعلّق ابن العربي في العواصم في القواصم على خروج عائشة في موقعة الجمل، بقوله إنَّها لم تخرج إلَّا للحيلولة دون سفْك المسلمين دماء بعضهم بعض، وعملًا بقول الله تعالى ﴿لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ﴾ [سورة النّساء: 114]. ولم يختلف سبب خروج الإمام عليّ نفسه إلى البصرة عن سبب خروج عائشة وطلحة والزُّبير؛ فقد جاء في تاريخ الطَّبري أنَّ الحسن بن عليّ أراد أن يمنع أباه من الخروج، لكنَّ عليًّا قال “والله ما خرجتُ إلَّا وأنا أريد الإصلاح”. ومن الملفت أنَّ الصَّحابي عبد الله بن سلام، الَّذي دخل الإسلام بعد أن كان حبرًا يهوديًّا، أراد أن يمنع عليًّا من الذّهاب إلى البصرة، متنبّئًا بأنَّ المدينة ستفقد سلطانها إن خرج منها؛ وبالفعل، لم تعد مدينة النَّبيّ (ﷺ) دارًا للخلافة منذ ذلك الحين.

وافق كلٌّ عائشة وطلحة والزُّبير على وساطة القعقاع بن عمرو، رسول الإمام عليّ إليهم، وأرادوا أن ينهوا النّزاع ويتصالحوا مع خليفتهم، الَّذي آثر تأجيل القصاص من قتلة عثمان حتَّى يقضي على الفتنة من جذورها. وكما يورد حسَّان (2007م)، لمَّا وصلت أنباء الصُّلح بين الفرقتين المتخاصمتين إلى مسامع جماعة عبد الله بن سبأ، همَّ الأخير بتدبير حيلة لشقّ الصَّف وتأجيج الصّراع الدّامي؛ فأمر رجاله بالاندساس في صفوف المعسكرين المتخاصمين، ثمَّ الاقتتال بالسِّلاح. وقبل لقاء الصُّلح، فعلت جماعة ابن سبأ ما دبَّره زعيمها؛ فظنَّت كلُّ فرقة أنَّ الأخرى خانتها. يعني ذلك أنَّ إيقاع ابن سبأ بين الصَّحابة كان السَّبب في تأجيج نار الفتنة بينهم وسفْك دماء بعضهم بعض. وقع من القتلى إلى جانب هودج أمّ المؤمنين عائشة كثيرون؛ فتحقَّقت نبوءة سيد الخلْق (ﷺ). وقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنَّف (37791)، إنَّ الإمام عليًّا وقف في قلب المعركة يقول “اللهمَّ ليس هذا ما أردتُّ…اللهمَّ ليس هذا ما أردتُ”، كما قال “لوددتُّ أنّي متُّ قبل هذا بعشرين سنة” (37821).

أمَّا عن موقف الإمام عليّ من عائشة وطلحة والزُّبير، فلم يكن سوى الإشفاق والصَّفح. دعا طلحة المقاتلين إلى أن وقْف القتال والاستماع إليه، لكنَّهم رجموه بالحجارة، كما جاء في تاريخ ابن عساكر (جـ 25، صـ109)، والعواصم في القواصم (صــ158). وينقل حسَّان أنَّ عليًّا لمَّا مرَّ بجانب طلحة بعد أن سقط قتيلًا، مسَح التُّراب عن وجهه، وقال “عزيز عليَّ أبا محمَّد أن أراك مجندلًا في التُّراب تحت نجوم السَّماء” (صــ223). وما يثبت أنَّ طلحة مات على الحقّ نيله الشَّهادة في سبيل الله، كما تنبَّأ له الصَّادق المصدوق (ﷺ)، في حديثه الَّذي أورده الألباني في السّلسلة الصَّحيحة، وأخرجه التّرمذي (3739) وابن ماجه (125) “من سرَّه أن ينظُرَ إلى شهيدٍ يمشي على وجهِ الأرضِ فلينظُرْ إلى طلحةَ بنِ عُبَيدِ اللهِ”. ولمَّا دخَل ابن جرموز، قاتل الزُّبير على عليّ، معتقدًا أنَّه سيجد الثَّناء والتَّأييد من الخليفة، قال عليٌّ “بَشِّرْ قَاتِلَ ابْنَ صَفِيَّةَ بِالنَّارِ”، كما يورد الإمام أحمد في فضائل الصَّحابة (1272، 1273)، وجاء في المستدرك على الصَّحيحين للحاكم (جـ 3، صـ367).

ومن الملفت أنَّ معمَّمي الشِّيعة يعترفون بصحَّة الحديث، لكنَّهم يرون أنَّه لا ينفي الرّدَّة عن الزُّبير، حواريّ النَّبيّ (ﷺ) وابن عمَّته وعمَّة عليّ، صفيَّة بنت عبد المطَّلب. في حين جلست عائشة تبكي في هودجها حتَّى ابتلَّ خمارها، وقالت “وددتُّ لو كنتُ غصنًا رطبًا، ولم أسِر مسيري هذا”، كما أخرجه محمَّد بن سعد البصري في الطَّبقات الكبرى (جـ 8، صـ81). ويورد حسَّان رواية ضعيفة الإسناد، أخرجها الإمام أحمد في المُسند (جـ 6، صـ393)، وجاءت في مُسند البزَّار (كشْف 3272)، وهي أنَّ “رسول الله ﷺ قال لعليٍّ سيَكونُ بينَكَ وبينَ عائشةَ أمرٌ قالَ: أَنا يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ: نعَم قالَ: فأَنا أشقاهم؟ قالَ: لا، ولَكِن إذا كانَ ذلِكَ فأردُدْها إلى مأمَنِها”. وجاء في تاريخ الطَّبري (جـ 2، صـ60)، إنَّ الإمام عليًّا هرع إلى عائشة للاطمئنان عليها، وأمدَّها بما تحتاج إليه في رحلتها إلى مكَّة، مرسلًا معها أخاها، محمَّد بن أبي بكر، الَّذي عيَّنه واليًا على مصر. ويعلّق حسَّان (2007م) على موقعة الجمل بقوله (صــ226):

ويتَّضح لنا…الأصابع الَّتي دبَّرت هذه الفتنة الحالكة المظلمة. وأنَّ فتنة موقعة الجمل قد وقعت على غير اختيار من الصَّحابة-رضي الله عنهم جميعًا-وإنَّما أشعل نارها السَّبئيون المجرمون، والحرب إذا تأجَّجت نيرانها لا يستطيع العقلاء إطفاءها؛ بل لقد حاول عليٌّ والزُّبير وطلحة وعائشة أن يوقفوا القتال! لكن لم يفلحوا.

يلقي ابن العربي في العواصم من القواصم اللوم على أصحاب الأهواء من مثيري الفتن في إشعال نار الحرب، مشيرًا إلى أصابع قتلة عثمان الَّتي أعملت السَّيف لأوَّل مرَّة في موقعة الجمل، لتنطلق شرارة القتال العنيف. ولا يختلف رأي الإمام ابن حزم الأندلسي عن ذلك؛ حيث قال في الفصل بين الملل والأهواء والنّحل (جـ4، صـ157-158)، إنَّ صحابة النَّبيّ (ﷺ)، بعد وساطة القعقاع بن عمرو، تعاهدوا على التَّصالح، لكنَّ “الفسقة من قتلة عثمان” والمندسّين في صفّ جيش عليّ، تعمَّدوا استفزاز جُند طلحة والزُّبير؛ فبدأ الاقتتال، وكلُّ فرقة تظنُّ أنَّ الأخرى هي الَّتي بادرت بالإغارة وتنصَّلت من اتِّفاق الصُّلح. في حين قال الذَّهبي في تاريخ الإسلام ووفيَّات المشاهير والأعلام (جـ1، ص15) “إنَّ الفريقين اصطلحا، وليس لعليّ ولا لطلحة قصْد القتال، بل ليتكلَّموا في اجتماع الكلمة، فترامى أوباش الطَّائفتين بالنّبل، وشبَّت الحرب، وثارت النُّفوس”.

يُذكر أنَّ لفيفًا من كبار الصَّحابة عملوا على اعتزال تلك الفتنة، ولم يشاركوا في القتال، ومنهم سعد بن أبي وقَّاص، ومحمَّد بن مسلمة، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عُمر، وعمران بن حصين، وصهيب الرُّومي، وأبو أيُّوب الأنصاري؛ أمَّا عبد الله بن عمرو بن العاص، فأتى إلى ميدان المعركة طاعةً لأمر أبيه، لكنَّه لم يشارك في القتال. يعني ذلك أنَّ معسكر طلحة والزُّبير لم يستفز معسكر عليّ، كما يدَّعي إبراهيم عيسى (2018م) في حروب الرُّحماء، كما لم يلقِ عليٌّ، في بداية الاقتتال، اللوم على طلحة والزُّبير في تأليب العامَّة عليه، كما ألَّباهم من قبل على عثمان (صــ239). بل إنَّ تاريخ الطَّبري (جـ3، صـ33) يشير إلى أنَّ عليًّا أقرَّ بحقّ طلحة والزُّبير وعائشة في الخروج إلى البصرة، طالما كان الإصلاح هدفهم. وجاء في الفصل بين الملل والأهواء والنّحل (جـ3، صـ83) أنَّ طلحة والزُّبير وعائشة لم يفدوا إلى العراق بهدف إشعال الفتنة، إنَّما وأدها؛ أي أنَّهم “لم يمضوا إلى البصرة لحرب عليّ ولا خلافًا عليه، ولا نقضًا لبيعته، ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى