مقالات

“صناعة التجهيل”.. الموت الأسود للمجتمع

أسعد المبارك_ كاتب عراقي|

عملية التجهيل تتم باتباع سياسة النفس الطويل؛ من خلال ضخ المعلومات المغلوطة، وإشاعة ثقافة التبجيل والتمجيد، فضلاً عن إرباك عقول الناس بإغراقهم بالمعلومات المتضاربة، والإشاعات المصنوعة بعناية لتؤدي أغراضاً محددة، وتشتت الانتباه عن القضايا المصيرية؛ عبر اختلاق قضايا هامشية وتضخيمها وفرضها على الساحة، لينصرف إليها الاهتمام والتركيز، وتغيب بين ثناياها القضايا المصيرية للمواطن، وكل ذلك يجري وفق خطوات وإجراءات ممنهجة تكون حصيلتها النهائية تجهيلاً للعقول وتزييفاً للوعي.

علم التجهيل واحد من أبرز الظواهر الاجتماعية والعلمية والثقافية، فأساس التجهيل هو الكذب والخداع والتزييف والمغالطات ، وهذه الصفة لازمت على مدى قرون عدة وحتى يومنا هذا برغم تبدل المفاهيم في القرن الحادي والعشرين.

وهناك مؤسسات بحثية أميركية ومنها مؤسسة راند البحثية Rand Corporation بالإضافة الى مؤسسات من هذا القبيل في بلدان غربية كبرى، متخصصة في هندسة الجهل وصناعته وتغليفه بأرقى الأشكال، ثم تسويقه على نطاقٍ واسع لغاية تحقيق المردودات المالية. فهناك طرق ومبررات للتعامل مع علم الجهل منها:

1-التجهيل الربحي: وهو ما يتعلق بتجهيل الناس في تصنيع البضاعة أو السلعة بطرق أنيقة لترغيب الناس بها وتحقيق الفائدة الربحية والمالية منها، على سبيل المثال تصنيع علب السكائر بعيدا عن مخاطرها أو زجاج الكحول أو الأشكال الأنيقة التي توضع فيها المخدرات وحتى مسمياتها .

2-التجهيل الحضاري: وهو الجهد الفكري المبذول من المؤسسات الفكرية والدينية التي تندرج في إطار صراع الحضارات وتشويه سمعة الديانات والثقافة الحضارية.

3- التجهيل السياسي: وهو التجهيل الذي يجعل هذه الجهة الحزبية أو الدولة ضد الدولة والجهة الحزبية الـأخرى.

الجهات المستهلكة لثقافة الجهل

توجد ثلاث فئات في كل مجتمع يمكن أن تكون عناصر أساسية يفترسها علم التجهيل بسهولة وتصنف وفق ما يأتي:

(1) الفقراء في المجتمع: الفقر يولد ثقافة الانحطاط لدى المجتمع وهذه الطبقة المعدمة تشكل مادة أساسية في علم التجهيل، تنطلي عليهم كل الأفكار الكاذبة والمخادعة.

(2) المتدينون: الناس الذين يتملكهم شعور العاطفة لدين أو معتقد ولا يمتلكون ثقافة ووعي في التفسير للقضايا الدينية بكل الأديان، فهؤلاء يشكلون الجمهور المهم في علم التجهيل لخداعهم .

(3) المغفلون: المغفل هو الطرف الذي لا يدرك الحقائق بشكل صحيح وتمارس عليها في إطار علم التجهيل قضايا التحريف أو ما نسميه بالتضليل الفكري والإعلامي والخداع.

إن المجتمعات البشرية بدخولها إلى عالم الانترنت وديمقراطية الرأي الحر والفضاء المفتوح،لم تعد هناك من إمكانية تجهيل العقول للإنسان في أبعد مكان بالعالم، سيما إذا توافرت لها فرص تحقيق التعليم المناسب لضمان الارتقاء بالمستوى الى الوعي الحقيقي، ومع هذا فأن القادم من عمليات التجهيل المستقبلية التي سوف تكون من متبنيات الجهات المعنية من منظمات الدعاية والعلاقات العامة وحتى مؤسسات الإعلان وأجهزة المخابرات والجهات السياسية الدعائية وغيرها،ستتحقق من خلال إثارة النقاش في خانات الدردشة في منصات الانترنت وأيضا عبر حلقات نقاشية ببرامج تلفازية وإذاعية واستغلال ضعف الوعي لدى المشاركين أو المتلقين للآراء، وأيضا في التفنن بطرق التعامل بالتصميم الأنيق للبضاعة أو للجهة البشرية المعنية أو في تنميط الأفكار وتسطيح العقول وتشكيل الرأي العام المتخلف عبر ما يطرح في منصات التواصل الاجتماعي.
إن الوعي نقيض الجهل، ويأتي عبر التعليم المناسب والبيئة المستقرة والمستوى المعاشي المناسب بعيدا عن الفقر، فضلا عن توفر المؤسسات التعليمية والتربوية والتشريعية والتنفيذية التي تساهم في تحصين أفراد المجتمع من الضياع الفكري، وقياس مستوى الوعي والثقافة لدى أي مجتمع يؤخذ من نسبة عدد قراء الكتب الفكرية والعلمية، وقد يعيدنا هذا الى طرح واحدة من سلبيات وتأثيرات الانترنت على مستوى عدد القراء الذين تضاءلت أعدادهم بسبب انغماسهم في المجتمع الافتراضي الالكتروني وانحدارهم من مستوى المعلومات العلمية المتقدمة في الكتاب الى مستوى هابط في كثير من الحالات التي تطرحها منصات التواصل الاجتماعي.

وساهمت هي الأخرى شركات الدعاية والإعلان المتخصصة بصناعة الديكور والتصميم المنمق في تعميق الجهل الاجتماعي، وصناعة ما يسمى ب” العادة “أو تقليد الآخرين مثل تعاطي المخدرات والسكائر والمشروبات الكحولية، وهذا يفرض من ثلاث اتجاهات هي:

الاتجاه الأول: يتعلق بالتأثر بالتصميم الخاص بعلب السكائر والخمور والمخدرات وأيضا بالإعلانات التي يشارك بها مشاهير عالميين.

الاتجاه الثاني: تقليد الكبار والأصدقاء في المجتمعات الضيقة بحجة اكتمال الشخصية أوسد ثغرة قد تكون ناجمة عن الفقر والحرمان من التعليم.

الاتجاه الثالث: الهروب من الواقع المرير والحرمان الذي يعيشه الإنسان سيما الشباب.

تزداد قابلية الوقوع في شرك التضليل والتجهيل عندما يكون الجمهور المستهدف قابعاً تحت نظام قمعي، حيث الحرمان من التعبير الذي يؤدي إلى ضمور في التفكير، واليأس من التغيير، فتتولد الرغبة في تصديق كل ما يصدر من إعلام النظام، وتتطبع العقول على ذلك.
من مصلحة أي نظام متسلط أن يبقى الجمهور معتل التفكير، مشوشاً في رؤيته، ضائعاً في أولوياته؛ لأن المحاكمات العقلية السليمة، ووضوح الرؤية، تقود لاكتشاف مواضع الخلل، والتركيز عليها والسعي لمعالجتها، وذلك يشكل خطورة على أي نظام، ولهذا يلجأ إلى أساليب المشاغلة السياسية، وتشتيت الانتباه وخلط الأوراق، لإرباك العقول وتشويش التفكير.
ربما يتصور البعض أن تلك الهيمنة لم تعد كما كانت في السابق، فوسائل التواصل الحديثة، والانفجار المعلوماتي الرهيب، وإمكانية الوصول للمعلومة أصبحت أسهل من أي وقت مضى، وأصبح الناس يتمتعون بقدر من التحرر المعرفي، وذلك صحيح إلى حد ما، لكن ما ينبغي التنبه له أنه بقدر ما منحتنا تلك الوسائل من أدوات للمعرفة والتوثيق والتحقق، إلا أنها في الجانب الآخر ضاعفت من القدرة على التضليل والتشويش، وصناعة الدعاية السوداء، وضاعفت من سرعة نشر الشائعات والأخبار والمعلومات والصور المضللة، مع تطور وسائل التلاعب والتركيب والفبركة وهذا يعني أنها أعطتنا المعرفة والعلم في يد، وفي اليد الأخرى سهلت عملية التجهيل والتضليل.

وبما أن مستوى التراجع في التعليم سمة العصر فأن أعداد الجهلة والبسطاء والمتواضعين يفوق بكثير أعداد المفكرين والمثقفين لكنهم أصبحوا في واقع افتراضي واحد، وهذه واحدة من مخاطر التجهيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى