بحوث ودراسات

الملابسات الحقيقيَّة للفتنة الكبرى بين الحقيقة وافتراء “حروب الرُّحماء” 2 من 9

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

الرَّد على فرية تعدُّد المصاحف واختلافها في زمن عثمان

ويردُّ الشَّيخ محمَّد حسَّان (2007م) على الفرية الَّتي أتى بها إبراهيم عيسى في سلسلته “القتلة الأولى”، وبخاصَّة في الجزء الأوَّل (2016م)، وهي وجود نُسخ متعدّدة ومختلفة من المصحف الشَّريف. كما جاء في تاريخ الطَّبري (جـ 2، صـ652)، وتاريخ الإسلام (جـ 1، صـ442)، كان القرآن الكريم مدوَّنًا في عدَّة مخطوطات متفرّقة، أمَر الخليفة عثمان بن عفَّان بجمعها في كتاب واحد، خشية أن تختلف الأمَّة الإسلاميَّة حول كتاب الله تعالى، كما فعل أهل الكتاب، وذلك بعد اختلاف الصَّحابة في أعقاب غزو أرمينيا وأذربيجان. ويرد في كتاب فضائل القرآن، في صحيح البخاري (4987)، أنَّ الصَّحابي زيد بن ثابت كَتَب القرآن الكريم بلغة قريش، وأعدَّ مُصحفًا جامعًا أُرسلت نُسخ منه إلى مختلف الأمصار. يُذكر أنَّ جمْع القرآن بدأ في عهد أبي بكر الصّدّيق في صُحُف احتفظ بها، ثمَّ انتقلت إلى خليفته عُمر بن الخطَّاب، الَّذي استأمن عليها ابنته، أمَّ المؤمنين حفصة، الَّتي أعطتها إلى عثمان بعد وفاة أبيها. في النّهاية، أُعدَّ المصحف الشَّريف “لتجتمع الأمَّة على اللفظ والحرف الَّذي قرأ به القرآن نبيُّنا ﷺ” (صــ136).

لم ييأس ابن سبأ وجماعته بعد إحباط مخطّطهم السَّابق لعزْل عثمان؛ فعادوا إلى المدينة لحصار بيته وتهديده بالقتل، إن لم يتنازل عن الخلافة. أمَّا عن حيلتهم للعودة، فكانت ادّعاءهم أنَّهم قبضوا على رسول للخليفة إلى عبد الله بن أبي السَّرح، والي مصر، يأمر فيها عثمان واليه بقتل جماعة ابن سبأ. توجَّه جماعة الشَّر إلى الإمام عليّ ليشكوا من مكيدة عثمان لهم، بعد أن عفا عنهم، لكنَّ الإمام لم يطاوع هؤلاء، بل وكذَّبهم في ادّعائهم أنَّه أرسل في طلبهم. غير أنَّ جماعة ابن سبأ أعدَّت خطَّة مُحكمة تلك المرَّة، بتأليب أهل مصر وأهل الشَّام وأهل العراق في وقت واحد، بتبليغهم جميعًا بأمر الكتاب المكذوب؛ هذا إلى جانب تزوير كتاب آخر نُسب إلى أمّ المؤمنين عائشة تحرّض فيه النَّاس على قتْل عثمان. وكما أورد ابن أبي شيبة الكوفي في المصنَّف (جـ6، صـ363)، نفت أمُّ المؤمنين أمر ذلك الكتاب بأن قالت “أقسم بالله الَّذي آمن به المؤمنون، وكفر به الكافرون، ما كتبتُ إليهم سوداء في بيضاء”. ويعلّق والحافظ بن كثير، الَّذي يورد القصَّة ذاتها في البداية والنّهاية، بقوله “وفي هذا دلالة على أنَّ هؤلاء الخوارج، قبَّحهم الله، زوَّروا كتبًا على لسان الصَّحابة إلى الآفاق يحرّضونهم على قتال عثمان” (جـ7، صـ195). من جانبه، يقول حسَّان (صــ152):

فاللعبة كلُّها لتشويه تاريخ أطهَر الخلْق بعد الأنبياء، ولتزوير الحقائق، ولتأليب الخلَف على السَّلَف، ولتشويه حبقة من أحرج أوقات التَّاريخ الإسلامي حتَّى لا تصل إلينا ناصعة البياض.

وينفي الدَّاعية الشَّهير فرية تخاذُل الصَّحابة عن نُصرة عثمان، عن حصار جماعة الخوارج بيته. فكما جاء في تاريخ ابن عساكر (جـ 39، صـ391)، وتاريخ الإسلام للذَّهبي (جـ1، صـ447)، حاول الحسن والحسين وابن الزُّبير وابن عمرو ومروان بن الحَكم حماية عثمان بالسِّلاح، لكنَّه آثر أن يلزموا بيوتهم ورفَض بقاءهم إلى جانبه. وهناك روايات متعدّدة تكشف عن سعي عبد الله بن الزُّبير وأبي هريرة وزيد بن ثابت، وغيرهم، إلى نُصرة عثمان، لكنَّ الخليفة الرَّاشد آثر حقْن الدّماء، قائلًا “لا أكون أوَّل مَن خلَف رسول الله ﷺ في أمَّته بسفك الدّماء”، كما يذكر حسَّان (صــ156). وجاء في البداية والنّهاية (جـ7، صـ167) وفي تاريخ الإسلام للذَّهبي (جـ1، صـ441)، أنَّ عثمان رفَض عرضًا من معاوية بن أبي سفيان للانتقال إلى الشَّام، بعيدًا عن ملاحقة جماعة الخوارج؛ لأنَّه كره البعد عن جوار رسول الله (ﷺ). وهناك إشارة نبويَّة إلى أنَّ محنة عثمان بن عفَّان فتنة شديدة تمرُّ على أمَّة الإسلام، جعلها في المرتبة بعد فتنة الدَّجَّال؛ حيث روي عن عبد الله بن حوالة، أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) قال “مَنْ نَجَا مِنْ ثَلَاثٍ فَقَدْ نَجَا: مَوْتِي، وَالْدَّجَّالِ، وَقَتْلِ خَلِيْفَةٍ مُصْطَبَرٍ بِالْحَقِّ مُعْطِيْهِ”، كما ورد في مُسند أحمد (جـ4، صـ109).

يسوق حسَّان رواية أوردها الإمام أحمد بن حنبل في فضائل الصَّحابة (جـ1، صـ473)، عن إقناع عبد الله بن عمر لعثمان بألَّا يقبل أن يُعزل من الخلافة؛ وإلَّا أصبحت سُنَّة متَّبعة في شتَّى الأزمنة أن يحاصر الغوغاء خليفتهم لخلْعه، إن لم يرضهم. وقد روت عائشة، أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) قال لعثمان “يا عُثمانُ، إنَّهُ لعلَّ اللَّهَ يقمِّصُكَ قميصًا، فإن أرادوكَ على خَلعِهِ فلا تخلعْهُ لَهُم”، كما جاء في صحيح التّرمذي (3705)، ومُسند أحمد (24566). يُفهم ممَّا سبق أنَّ عثمان كان يعلم أنَّه سيتعرَّض إلى تلك المحنة الَّتي نهايتها قتْله؛ فامتثل إلى أمْر النَّبيّ الكريم، ورفَض التَّنازل عن خلافته، وآثر الموت وهو صائم ويقرأ كتاب الله تعالى. انقضَّ الخوارج على عثمان بعد انصراف الصَّحابة من بيته، وقتلوه وهو جالس يقرأ القرآن الكريم. وينفي حسَّان أن يكون القتلة من الصَّحابة؛ فقد كانوا “غوغاء من الأمصار”، كقول الزُّبير بن العوَّام؛ أو “نزَّاع القبائل” و “حثالة النَّاس”، كقول أمّ المؤمنين عائشة (صــ168).

بيعة الإمام عليٍّ وموقف الصَّحابة منها

بعيدًا عن مزاعم الشِّيعة عن ترقُّب الإمام عليّ أن يُبايع خليفة بعد موت النَّبيّ (ﷺ)، وبعد موت أبي بكر ثمَّ موت عُمر، يتَّفق مؤرّخو السُّنَّة على أنَّ الخلافة صارت من نصيب عليّ بعد أن مات مَن تجاوزوه علمًا وتقوى ودينًا وورَعًا. ويذكر القاضي ابن العربي في مؤلَّفه العواصم في القواصم أنَّ عامَّة المسلمين، من المهاجرين والأنصار، قصدوا عليًّا لمَّا وجدوا أنفسهم في حاجة ماسَّة إلى إمام، أملًا في وضْع حدٍ لفتنة مقتل عثمان ودحْر جماعة الخوارج؛ فوافق عليٌّ لمَّا وجَد الأمر يستدعي ذلك. وعلى عكس ما يشيعه إبراهيم عيسى في “حروب الرُّحماء”، كان طلحة بن عبيد الله أوَّل مبايعي الإمام عليّ، ومعه سعد بن أبي وقَّاص والزُّبير بن العوَّام، وفق ما يورده محمَّد بن سعد البصري في الطَّبقات الكبرى. وكما جاء في البداية والنّهاية (جـ7، صـ202)، سُمع عليٌّ يوم موقعة الجمل يقول “اللهمَّ إني أبرأُ إليك من دمِ عثمانَ، ولقد طاش عقلي يومَ قُتِلَ عثمانُ، وأنكرتُ نفسي، وجاءوني للبيعةِ؛ فقلتُ: واللهِ إني لَأستحْي من اللهِ أن أبايعَ قومًا قتلوا رجلًا قال فيه رسولُ اللهِ ﷺ إني لأستحْيي ممن تستحْيي منه الملائكةُ، وإني لأَستحْيي من اللهِ أن أبايعَ وعثمانُ قتيلٌ في الأرضِ لم يُدفنْ بعدُ”.

وكان عليٌّ يُدرك أنَّ الخلافة أمانة ومسؤوليَّة كبيرة، وأنَّ الحاكم من أشدّ النّاس عذابًا، إذا فرَّط في أمانته؛ ممَّا يعني أنَّه لم يكن مقبلًا على الخلافة. وقد جاء في تاريخ الطَّبري أنَّ عليًّا توجَّه إلى طلحة بن عبيد الله ليبايعه بعد موت عثمان، لكنَّ طلحة فضَّله على نفسه؛ لقرابته من النَّبيّ الكريم، وتقواه، وأسبقيَّته في دخول الإسلام (جـ 2، صـ700). ولقد ظلَّت المدينة أسبوعًا كاملًا تحت حُكم الغافقي، قاتل عثمان، الَّذي كان لديه من الجرأة أن يؤمَّ المسلمين في المسجد النَّبوي في الصَّلاة، بينما آثر عليٌّ الابتعاد عن الفتنة، خشية أن تُراق دماءٌ يُسأل عنها أمام الله يوم القيامة. وقد روي أنَّ عليًّا قد قال حينها “ما أحب أن ألقى الله وفي عنقي قطرة دم امرئ مسلم”، بعد أن حشَد الخوارج جيشًا من عشرة آلاف جندي. يُفهم ممَّا سبق أنَّ الإمام عليًّا آثر حقْن الدّماء على قتال الخوارج، لكنَّه اضطرَّ إلى قبول البيعة بعد إلحاح طلحة والزُّبير. في حين رفَض معاوية مبايعة عليّ إلَّا بعد الثَّأر لقتلة عثمان، بعد أن أرسلت إليه أرملة الخليفة قميصه المتشرّب لدمائه وأناملها الَّتي بُترت وهي تحميه من قتلته. وكما يعلّق حسَّان (2007م)، “فإنَّ معاوية ما طلب الخلافة لنفسه قط، وما طلب البيعة لنفسه، وإنَّما أخَّر البيعة لعليِّ حتَّى يقيم الحدّ على قتلة عثمان، أو يسلّمهم إليه” (صــ205).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى