بحوث ودراسات

الملابسات الحقيقيَّة للفتنة الكبرى بين الحقيقة وافتراء “حروب الرُّحماء” 1من 9

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

يقدّم الدَّاعية الإسلامي المصري، الشَّيخ محمَّد حسَّان، في كتابه الفتنة بين الصَّحابة (2007م) قراءة منصفة لوقائع الفتن الَّتي حدثت بين صحابة نبيّنا مُحمَّد (ﷺ) بهدف “استخراج الحقّ من بين ركام الباطل”، كما يذكر العنوان الفرعي للكتاب. يردُّ المؤلَّف على الأباطيل الَّتي أشاعتها كتابات معمَّمي الشِّيعة الرَّوافض، المليئة بالطَّعن في الصَّحابة وبعض أمَّهات المؤمنين، إحقاقًا للحقّ، ونفيًا للفريات الَّتي لوَّثت سمعة الحلقة المحيطة بالنَّبيّ (ﷺ)، مخصّصًا فصولًا من كتابه لتعديد فضائل أمّ المؤمنين عائشة، والصَّحابة عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري ومعاوية بن أبي سفيان. يستهلُّ حسَّان كتابه بالنُّصح بتقوى الله ونبْذ الافتراء على “أشهر وأطهر الخَلْق بعد الرُّسل والأنبياء”، ألا وهم الصَّحابة الأطهار (صــ8). ويختصُّ الدَّاعية بالإدانة أولئك الَّذين استغلُّوا الفتنة في أواخر عهد عثمان بن عفَّان لتشويه صورة أصحاب النَّبيّ الكريم وبعض أزواجه؛ كون هؤلاء هم “الَّذين نقلوا إلينا القرآن والسُّنَّة”، في إشارة ضمنيَّة منه إلى الرَّوافض(صــ8). ومع كثرة الكتابات عن الفتنة الكبرى بين الصَّحابة، واحتواء تلك الكتابات على كثير من اللغط والأكاذيب، أراد حسَّان تمييز الحقّ عن الباطل، ساعيًا إلى دحْض لم يصح عن الصَّحابة الأطهار.

نبوءة فتنة مقتل عثمان ودور ابن سبأ في تأجيجها

يشير الشَّيخ محمَّد حسَّان إلى نبوءة رسول الله (ﷺ) عن وقوع فتنة يُقتل فيها عثمان مظلومًا، حيث ورد في صحيح التّرمذي (3708) ومُسند أحمد (5953) أنَّ عبد الله بن عمر (رضي الله عنهما) روى أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) ذَكَر فتنة فقال “يُقْتَلُ فيها هذا مظلومًا لعثمانَ بنِ عفانَ”. بدأت الفتنة على يد طائفة من دعاة الشَّرّ، انطلقت من مصر إلى العراق، لتأليب النَّاس على ثالث الخلفاء الرَّاشدين؛ وقد أبان الَّذي لا ينطق عن الهوى(ﷺ) أنَّ الفتنة الَّتي تودي بحياة عثمان، صهره الَّذي استأمنه على اثنين من بناته، كان تنطوي على بلاء يصيب عثمان، وإن بُشّر بالجنَّة بعد مقتله. فقد روى الصَّحابي أبو موسى الأشعري أنَّ عثمان استأذن في الدَّخول على النَّبيّ، فقال (ﷺ) “ائْذَنْ له وبَشِّرْهُ بالجَنَّةِ، علَى بَلْوَى تُصِيبُهُ”، كما جاء في صحيح البخاري (3674). ويعتبر حسَّان أنَّ النَّبيَّ (ﷺ) اختصَّ عثمان بذكر بلائه، برغم أنَّه تنبَّأ لعُمر هو الآخر بالقتل والشَّهادة؛ لأنَّ دولة الإسلام في عهد عُمر كان في أوج قوَّتها، ولم يحاول أصحاب الفتنة خلْعه. ارتبط مقتل عثمان بفتنة خدعت العامَّة، أشعلها فئة من النَّاس، ادَّعوا الطُّهر والزُّهد والصَّلاح، وهو أهل مكر وبهتان، ولم يحرّكهم سوى مؤامرة من تدبير “اليهودي الخبيث” عبد الله بن سبأ، مؤسّس المذهب الباطني المحسوب على الإسلام زورًا الَّذي قامت عليه عقيدة الشِّيعة (صــ101).

وتعتبر فتنة مقتل عثمان أوَّل فتنة تعصف ببنيان دولة الإسلام منذ نشأتها، وكانت سببًا في انحراف عقائدي نتج عن إدخال العقائد الباطنيَّة على صحيح الإسلام، وصار لاحقًا خنجرًا سامًّا طالما طعن الأمَّة المسلمة في ظهرها. لم تستقر الأمور سريعًا بعد مقتل عثمان، كما حدث عند مقتل عُمر؛ فقد انقسم العامَّة، وبدأت الفتن والأهواء تشعل الصّراعات بينهم، حتَّى وصل الأمر إلى اقتتال الصَّحابة. وقد تنبَّأ النَّبيُّ (ﷺ) بوقوع فتن كثيرة يشهدها الصَّحابة من بعده، كما جاء في حديث ورد في صحيح البخاري (1878) وصحيح مسلم (2885)، عن أسامة بن زيد، الَّذي يقول “أشْرَفَ النبيُّ ﷺ علَى أُطُمٍ مِن آطامِ المَدِينَةِ، فقالَ: هلْ تَرَوْنَ ما أرَى قالوا: لا، قالَ: فإنِّي لَأَرَى الفِتَنَ تَقَعُ خِلالَ بُيُوتِكُمْ كَوَقْعِ القَطْرِ”. وقد تعرَّض الصَّحابة جلُّهم إلى الفتنة الكبرى، وشارك كثيرون منهم في موقعتي الجمل وصفِّين، ومات كثيرون بسبب التَّنافس على السُّلطة والمال.

بدأت الفتنة بمحاولة اليهودي عبد الله بن سبأ، الَّذي ادَّعى الإسلام وهو يبطن المجوسيَّة ويعتنق ملَّة اليهود، إشاعة السَّخط بين الصَّحابة من سكَّان المدينة، مدَّعيًا تنامي نفوذ أقارب عثمان من بني أميَّة، واستيلائهم على أموال المسلمين دون وجْه حقّ. ولمَّا لم يجد اليهودي مؤيّدين في المدينة المنوَّرة، انطلق إلى مصر، وإلى العراق للتَّحريض على عثمان في الولايات الإسلاميَّة، مدَّعيًا أنَّ في الخروج على عثمان نُصرة للإسلام. أشاع اليهودي الخبيث أنَّ عليَّ بن أبي طالب هو وصيُّ النَّبيّ مُحمَّد (ﷺ)، كما كان للأنبياء السَّابقين أوصياء. أمَّا عن الَّذين استجابوا إلى هرطقة ابن سبأ، فهم فئة من المنافقين، ممَّن لا يخلو منهم زمان أو مكان؛ وكانت وسيلتهم لإغواء العامَّة هي التَّظاهر بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، سعيًا إلى كسْب ثقة العامَّة وتكوين سمعة طيّبة بينهم. وفي المرحلة التَّالية، ألقى ابن سبأ وجماعة شبهة أحقيَّة الإمام عليّ في الخلافة من عثمان، الَّذي اتُّهم بمحاباة أقاربه من بني أميَّة وتسهيل استيلائهم على المال العامّ. وبعد أن كسبت جماعة السُّوء تلك ثقة الكثيرين، أصبح من السَّهل انقسام العامَّة إلى فرقتين، وتأييد فرقة منهما ادّعاءات جماعة ابن سبأ عن أمراء المسلمين من صحابة النَّبيّ (ﷺ)؛ ومن ثمَّ، بدأت الفتنة تمارس تأثيرها الخبيث، وبدأ أناس يتذمَّرون على خلافة عثمان ويتّهمونه بخيانة الأمانة.

وكما يوضح حسَّان (2007م)، كانت حيلة جماعة ابن سبأ هي القدوم إلى مكَّة بلباس الإحرام، مدَّعين مجيئهم للحجّ، ورغبتهم في زيارة مسجد النَّبيّ (ﷺ)؛ حتَّى لا يثيروا الشُّكوك. غير أنَّ أمير المؤمنين عثمان عرف بكيدهم؛ فأرسل رجلين يندسَّان بينهم للتَّأكُّد من نيَّتهم في المجيء إلى مقرّ الخلافة الرَّاشدة. ولمَّا تأكَّد عثمان من صدْق ما وصله عن هؤلاء، ارتقى منبر المسجد النَّبوي، وأطلع جماعة المسلمين على ما بلغه عن مخطَّط تلك العصابة. وعلى الفور، طالَب المسلمين خليفتهم بقتل هؤلاء، عملًا بقول النَّبيّ (ﷺ)، الوارد في صحيح مسلم (1852) “مَن أتاكُمْ وأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ علَى رَجُلٍ واحِدٍ، يُرِيدُ أنْ يَشُقَّ عَصاكُمْ، أوْ يُفَرِّقَ جَماعَتَكُمْ، فاقْتُلُوهُ”. غير أنَّ عثمان أبى تلطيخ يديه بالدّماء، ولو كان المقتولين من المارقين المتمرّدين؛ فكان قراره هو استتابة هؤلاء، والعفو عنهم، وإقامة الحدّ عليهم إذا خالفوا الشَّريعة. ويحذّر الدَّاعية من الرُّوايات المكذوبة الَّتي تناقلها المؤرّخون منذ القِدم، مضيفًا أنَّ بعض غير المتمرّسين من مدوّني التَّاريخ خاضوا غمار التَّدوين، دون احترافيَّة وإتقان؛ ممَّا أسفر عن خلْط التَّاريخ الصَّحيح بروايات زائفة لا يجوز الاستناد إليها. يُضاف إلى ذلك أنَّ فئة من المنتفعين دخلوا مجال التَّأريخ؛ فتعمَّدوا تشويه سيرة أمراء بني أميَّة، إرضاءً لبني العبَّاس، الَّذين بدأ التَّدوين في عهدهم. لا يمكن كذلك الإغفال عن دور مؤرّخي الرَّوافض، الَّذين “كتبوا تاريخًا جديدًا، رفعوا فيه عليًّا (رضي الله عنه) إلى مرتبة الألوهيَّة، ونسفوا تاريخ الخلفاء-رضوان الله عليهم-بل وأساؤوا إساءة بالغة إلى بيوت النُّبوَّة، لا سيّما إلى بيت عائشة (رضي الله عنها)” (صــ132).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى