مقالات

التصريح الأخير للأستاذ إبراهيم منير، كيف نفهمه؟

د. عطية عدلان

مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
عرض مقالات الكاتب

في تصريحٍ لَهُ أُذيعَ مؤخرًا أَعْلَنَ الإستاذ إبراهيم منير رفْضَه للصراع على السلطة في مصر، وبرر ذلك بأنّ هذا الصراع إنْ وَقَعَ على أي وجه وبأيّ صورة سَيُفضي حتما إلى ضياع الحقيقة وتبدد الرؤية الصحيحة، واستطرد موضحًا أنّ مثل هذا الصراع مرفوض ولو كان عبر القنوات الدستورية كتشكيل الأحزاب وخوض الانتخابات، أمّا الصراع المسلح فهو أولى بالرفض؛ لمخالفته لما تؤمن به الجماعة وما تعتقده.

    وقد تباينت ردود الأفعال؛ ما بين مؤيدٍ تأييدًا مطلقًا ومزايدٍ مزايدةً فَجَّة، وتفاوتت التقديرات بتفاوت الثقافات، فَمِنْ قائلٍ بأنّ هذا التصريح لا يعدو أن يكون مخاتلة كتلك التي مارستها الجماعة من قبل، وواصفٍ للتصريح بالعقلانية لكونه يسقط ثنائية “عسكر وإخوان”، وداعمٍ للفكرة بزعم أنّها تُسْقِطُ حجة النظام التي يبرر بها استمراره في القمع ومصادرة الحريات، ومستنكرٍ يَلعَنُ الخنوعَ ويَسُبُّ الاستكانة.

    وقبل أن أخوض في تقييم التصريح وما أثير حوله من ردود أَوَدُّ أن أبادر إلى بلورة بعض الحقائق التي لا أعتبرها من قبيل الرأي، أول هذه الحقائق أنّ هزيمة الإخوان المسلمين لم يكن سببها عدم قدرتهم على إدارة الدولة، وإنّما السبب الحقيقيّ في فشل وهزيمة الإخوان خصوصًا والإسلاميين عموما هو عدم القدرة على إدارة الصراع – وشتان بين الأمرين – بسبب الجهل بأبسط قواعد إدارة الصراع، أو عدم الاستعداد لالتزامها، تلك القواعد التي بُسِطَتْ في كتاب الله بسطا لا يدع لمتهاون فيها تَعِلَّةً ولا ذريعة([1]).

    ثاني هذه الحقائق أنّ الصراع على السلطة والتنافس على الحكم شيء والعمل من أجل استعادة الخلافة بوصفها غاية للمشروع الإسلاميّ شي آخر، فالأولى آلية ووسيلة تختلف باختلاف الزمان والمكان والحال، ويختلف حكمها شرعا بحسب هذا الاختلاف، ومن ثم فهي مما يقال فيه: “لا ينكر اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان”؛ وعليه فلا يصح اعتبار الصراع على السلطة أو عدمه مبدأً من المبادئ التي تقوم عليها جماعة، أمّا الثانية فهي – بالنسبة لكل عمل ينتمي للإسلام – مبدأٌ لا يقبل المساومة، ولا أحسب أنَّ أحدا ينازع فيه، حتى الأستاذ إبراهيم منير نفسه صاحب تلك التصريحات، وإنّما تختلف الوسائل والأدوات ومناهج الوصول لهذه الغاية من جماعة لأخرى ومن مكون لآخر.

    الحقيقة الثالثة هي أنّ النظام العسكري في مصر وعلى رأسه (عبفتاح) لن يمنعه من مواصلة عسفه وجوره واستبداده تراجع الإخوان أو غيرهم عن الصراع السياسي، مهما بلغت درجة هذا التراجع؛ لأكثر من سبب لا وقت للخوض فيها، أمّا كيف نضطره للتراجع عن كثير من العسف والجور؟ وكيف نلجئه إلجاءً إلى أن يولي وَجْهه لمن ولاهم من قبل قفاه؟ وكيف نفتح الطريق لحوار يؤدي لنتائج عملية كإخراج المعتقلين؟ فذلك أمر له من الوسائل والأدوات ما يحققه؛ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.

    أمّا الحقيقة الرابعة فهي أنّ تَبَنِّي قائد معين أو جماعة معينة لاستراتيجية تقوم على الصراع على السلطة أو تقوم – بالعكس – على تجنب الصراع على السلطة لا علاقة له بالحكم الشرعي ولا بوجهة النظر الإسلامية، إن هي إلا خيارات تختارها القيادات أو الجماعات لنفسها، ولا تملك الادعاء بأنّ هذا الذي اختارته هو المعبر عن الإسلام والموافق للشريعة، ولكنها تملك فقط التسويغ لموقفها والتبير لخيارها، كأن تقول: إنّ دورنا محصور فقط في التربية والدعوة وإصلاح المجتمع، وهذا ما نستطيعه.

    وأختم جملة الحقائق بالتأكيد على أنّ المراجعات التي صدرت ولا تزال تصدر عن كثير من المكونات الإسلامية ليست مراجعات على الحقيقة، إن هي إلا تراجعات أو توجعات، تعكس حال الهزيمة وتؤكد روح الفرار من تحمل المسئولية([2])؛ إنّ المراجعة مكاشفة و مصارحة، وإنَّ التجافي عن المكاشفة الجماعية والمصارحة الشورية يوقع في معضلات أقلها ضرراً أن يحل محل المكاشفة والمصارحة فضح وتشويه وتبادل للتهم وتقاذف بالمناكر، وأخطرها تَغْيّيبُ الحقائق وتضليل الجيل وإطالة أمد الغفوة التي يحياها الناس، وليست هذه المفاسد الجمة مقابلة بمصالح إلا تلك الأوهام التي تتعلق بما يسمى بمصلحة الجماعة أو الحزب، وما هي إلا مصالح شخصية تختبئ خلف أستار ناعمة أكثر تدليسا من جلد الثعبان.

    وفي ضوء تلك الحقائق أستطيع أن أقول إنّ الأستاذ إبراهيم منير عندما أصدر هذا التصريح كان صادقا مع نفسه، ومعبرا عمّا يدور بخلد أغلب قيادات الخارج بما فيهم الجبهة الأخرى التي قد تركب متن المكابرة والمزايدة، وهذا حقه بوصفه قائدا لجماعة، ومن حق جماعته أن تراجعه في ذلك فتقره أو ترفضه، وليس في ذلك مأثم، مادام يقول ذلك في سياق اختيار ما يناسبه ويناسب جماعته من التخصصات وفروض الكفايات، فكم من جماعة اختارت لنفسها طريق الدعوة والتزكية دون أن يثرب عليها أحد.

    لكن الذي لا نرضاه منه ولا نققره عليه – ولا نحسبه يعنيه ويقصده – أمران، الأول: أن يجعل ذلك الذي يؤمن به ويعتقده دينًا واجب الاتباع، ومعقدا من معاقد الولاء والبراء، لأنّ دين الله تعالى يفرض على الأمّة في مجموعها فروض كفايات متعددة، فمن قام ببعضها فقد امتنع عليه أن يحجر على الآخرين القيام بسائرها أو الحديث عن وجوب القيام بها، الأمر الثاني: أنْ يزعم أنّ هذا هو منهج جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها الإمام البنا وأنّ هذا هو فكره الذي تربّت عليه الجماعة من أول يوم.

    إنّ أفئدة شباب الجماعة – وهذا ما نعرفه عنهم بطول العشرة – معلقة بالمشروع الإسلاميّ الكبير، بشموله وعمومه وعمقه واتساعه، المشروع الإسلاميّ الذي يعنى بالفرد والأسرة والمجتمع والدولة، المشروع الإسلاميّ الذي يبدأ بالدعوة وينتهي بالدولة، ويضع نصب عينية أمل استعادة الخلافة وتحقيق سيادة الشريعة، فمن خالفني في ذلك فليس عليه إلا أن يواجهنا بأدبيات الجماعة بدءا من الإمام الشهيد حسن البنا ومرورا بالشهيد سيد قطب وانتهاء بالرئيس الشهيد محمد مرسي رحمهم الله جميعا رحمة واسعة.

    وهذا الذي تربى عليه شباب الإخوان هو ذاته الذي تربى عليه شباب الصحوة الإسلامية من كافّة الاتجاهات؛ فلا أدري ما هذا الذي تفعله القيادات؟! ولا أحد يدري إلى أي مدى ستستمر القيادات في توسيع الهوة بينها وبين الأجيال؟! إنّنا معشرَ الشيوخ – من حيث ندري أو لا ندري – نهدر أعظم مقومين من مقومات البناء والتغيير دفعة واحدة: الفكرة والنواة الصلبة التي تحمل الفكرة؛ فكيف يمكن أن نحقق لدين الله مكسبا وسط هذا العالم المزدحم بالصراعات على المكاسب الاستراتيجية؟!


([1])  راجع مقال: مقومات إدارة الصراع فيي كتاب الله، للكاتب، بموقع عربي21 ومقال: قواعد إدارة الصراع من قصة داود وسليمان عليهما السلام بموقع ترك برس للكاتب أيضا.

([2])  راجع للكاتب: مقال:  (المراجعات التراجعة) بموقع الجزييرة مباشر – ومقال: (المراجعات بين الهروب وجلد الذات) بنفس الموقع،  ومقال (المراجعات بين المجاملات وجلد الذات) بموقع نور سورية وغيره ومقال (الخطوة الأولى المنسية) بموقع منتدى العلماء

مقالات ذات صلة

‫8 تعليقات

  1. أخي ذكرتَ: [أنّ الصراع على السلطة والتنافس على الحكم شيء، والعمل من أجل استعادة الخلافة بوصفها غاية للمشروع الإسلاميّ شي آخر، فالأولى آلية ووسيلة تختلف باختلاف الزمان والمكان والحال، ويختلف حكمها شرعا بحسب هذا الاختلاف، ومن ثم فهي مما يقال فيه: “لا ينكر اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان”؛ وعليه فلا يصح اعتبار الصراع على السلطة أو عدمه مبدأً من المبادئ التي تقوم عليها جماعة، أمّا الثانية فهي – بالنسبة لكل عمل ينتمي للإسلام – مبدأٌ لا يقبل المساومة] (ا.هـ)
    لا أفهم التفريق بين طلب السلطة وإقامة خلافة؟ ولا أجد دليلا من القرآن أو السنة يفرق بينها، فطلب السلطة لا يكون إلا لإقامة شرع الله، ولا يجوز طلبها للحكم بغير ما أنزل الله، وليس هناك في الإسلام ما يقر االحكم “مرحليا” بغير ما أنزل الله، بنية إقامة شرع الله بعد حين (بعد سنة أو عشر أو مائة سنة أو ألف سنة، الخ).
    كما أن شروط طلب السلطة ليس من الآليات والوسائل التي تختلف باختلاف الزمان والمكان والحال، بل هي من الثوابت الشرعية. فإنه وإن اختلفت وسائل القوة مثلا (أسلحة نارية مثلا بدلا من السيف، وجيوش نظامية بدلا من قبائل، الخ)، إلا أن شروط طلب السلطة لا تتغير، فأنت تشترط على من تطلب نصرته (ينصرك بقوة السلاح) نفس الذي شرطه الرسول على من طلب نصرتهم.

    كلامك ضبابي أخي الكريم. فهل كلامك هذا يا دكتور يسوع مثلا دخول الإخوان انتخابات ما بعد انتفاضة 2011م في مصر، ودخولهم البرلمان، وتولي الرئاسة، وإصدار دستور 2012 العلماني؟ وهل يسوغ دخول الجماعات الاسلامية البرلمانات العلمانية في العالم الإسلامي وتولي الحكم تحت مظلة العلمانية وقواها العسكرية والأمنية والمخابراتية، وإقرار المعاهدات والاتفاقيات الدولية الأمنية والتشريعية والمالية المخالفة للشرع، كالبقاء في الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي؟

    لو تفضلت أخي الكريم بالإجابة على هذه الأسئلة المحورية ورفع الضبابية عن كلامك.
    وبارك الله فيك

    1. د. هشام الحبيب
      سوف أرد على أسئلتك عندما اتماثل للشفاء .. معي دور انفلونزا شديد

    1. الأخ الحبيب د. هشام
      السلام عليكم ورحمة الله
      في واحدة من الحقائق الخمسة التي ذكرتها فرقت بين مسألتين مختلفتين تمام الاختلاف، الأولى مسألة السعي لإقامة النظام الإسلامة واستعادة دور الخلافة على منهاج النبوة كذروة للمشروع الإسلامي، ومسألة التنافس على السلطة والمشاركة فيها بوجه ما في ظل الأنظظمة الوضعية، فأمّا الأولى فلا يسوغ تجاهلها لدى أحد من العاملين للإسلام، والسعي إليها له طريقه وهو جزء من المشروع الإسلامي بوسائله ومراحله، وأما الثانية فهي وسيلة مقتة من وسائل تحصيل المكاسب ودفع المفاسد، وليست هي طريق التمكين أو الوصول للخلافة على الصحيح، وقد اختلف المعاصرون في مدى جواز فعل ذلك في ظل أننظمة علمانية، فقال الأكثرون بالجواز؛ لتحصيل ما يمكن تحصيله من المصالح ودفع ما يمكن دفعه من المفاسد، وقال آخرون بعدم الجواز لغلبة الظظن بأن المصالح موهومة وهي مقابلة بمافسد حقيقية، وتوسط البعض – وأنا منهم في كتابي الأحكام الشرعية للنوازل السياسية – فقالوا إنّ الأصل الامتناع لكون الأصل غلة المفاسد، إلا إذا غلب العلم الظن لتغير الظروف أن المصالح راجحة، وذلك مثلما وقع بعد الثورة، فلو لم يرتكب الإسلاميون ما ارتكبوه من الأخطاء لكان وصولهم للحكم ممهدا للقضاء على فتنة الحكم الطاغوتي، فامسألة من مسائل الاجتهاد التي تدور مع ميزان المصالح والمفاسد .. والله أعلم ..

      1. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته الأخ الكريم د. عطية، وأتمنى أن تكون صحتك بخير، ويحفظك الله من كل سوء.
        أشكرك على توضيح موقفك ورأيك.
        سأطلع إن شاء الله على الأدلة التي استندت إليها في كتابك الذي أشرت إليه، وبعدها سأرد عليك إن كان عندي اعتراض أو استفسار

  2. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    ألا ترى معي ، أخي العزيز، أن “المشروع الإسلامي” هي عبارة فضفاضة ضبابية ينقصها الكثير من التوضيح و الجلاء؟؟ حين يسرع وفد الإخوان ملبين “موافقة” نظام الهالك مبارك على إستقبالهم و اجتماع عمر سليمان معهم ، حيث قدموا مطالبات من النظام إذا تحققت يتم وقف الاعتصام في ميدان التحرير، ويتم “التجديد” للنظام البائد ، ثم تناقضهم في مواقفهم لجهة عدم المشاركة في الانتخابات الرئاسية، وفصلهم للدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح فرج الله عنه وعن سائر إخوانه، ثم قبولهم بوصول مرسي رحمه الله الى قصر الاتحادية بينما يستحكم العسكر، رجال أمريكا، في كل مفاصل الحكم والدولة…فما هو مشروع الإخوان؟؟ وحتى لو رجعنا قبل انتفاضة يناير(وليس ثورة) 2011 ماذا كانت معالم “المشروع الإسلامي” عند الإخوان؟ بل هذا السؤال ينطبق على مشروعهم في الاردن و تونس وسوريا والجزائر؟؟ الجواب، عندي على الأقل، أنك لا تسمع جوابا إلا طروحات متهافتة تضر ولا تنفع من قبيل “الدولة المدينة ذات المرجعية الإسلامية” ….
    ما أريد قوله : إنه في غياب وضوح معالم المشروع الإسلامي فلا معنى للبحث عن سبل الصراع واداوته و منهجه وإدارته…
    جماعة الدعوة والتبليغ مثلا صرحوا باعتزالهم السياسة، ولا يوجد في قاموسهم فكرة السلطة و الحكم والدولة، حتى جماعات السلفية المتعددة على أشكالهم و أجنحتهم، لم تقدم إلى الان “مشروعا لصياغة الدولة والمجتمع، إلا ما يسمى بالسلفية العلمية القاضية بطاعة أولي الأمر….
    بعبارة أخرى قبل البحث في الصراع و شجونه لا بد بداية من رسم معالم المشروع الذي يحدد بطبيعته المنطلقات الشرعية وبالتالي الأهداف الشرعية ومن ثم الطريقة الشرعية المواكبة لتحديات الواقع…والله الهادي إلى سواء السبيل. مع تحياتي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى