بحوث ودراسات

مصادر الشَّرعيَّة لأنظمة الحُكم في الدُّول الإسلاميَّة 7 من 8

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

تطوُّر الفكر الدِّيموقراطي في إيران

ستأتي الإشارة بكامل التفاصيل في استعراض كتابيّ تطوُّر الفكر السِّياسي الشِّيعي (1998م) والمهدي المنتظر فرضيَّة فلسفيَّة أم حقيقة تاريخيَّة (2008م) إلى تطوُّر الفكر السِّياسي في إيران، وتدخُل نظريَّات الإمامة والغيبة والانتظار في تكوين المشهد السِّياسي، حتَّى تطوُّر نظريَّة النِّيابة العامَّة للإمام، ثمَّ ولاية الفقيه، وتحديثها لتجعل من الولي صورة من النَّبي (ﷺ) والأئمة من آل بيته، له ما لهم من صلاحيَّات لا يمكن تحجيمها. يعيد الكاتب التعليق على هذا التطوُّر لنظريَّة الإمامة، والتغيُّر الجذري في تأثيرها على السِّياسة العامَّة، بأن نقلت الولي من مجرَّد نائب يتواصل مع الإمام وينقل عنه، إلى صورة عنه لها ما له لدى العامَّة. وبرغم اجتهاد الإيرانيين في سبيل تطبيع حُكم ديموقراطي، فقد سيطر الملالي على الحُكم، استنادًا إلى نظريَّات دينيَّة، ليؤسسوا بذلك دولة ثيوقراطيَّة، بدلًا من دولة دستوريَّة. مع ذلك، فالكاتب يعتبر أنَّ استناد النِّظام الإيراني إلى دستور يحجِّم سلطات الحاكم بعض الشيء ويسمح بمحاسبته، وإن كانت هناك ثغرات أضعفت السُّلطة الشَّعبيَّة.

سُبُل التطوُّر الدُّستوري في السَّعوديَّة

بدءً بالسَّعوديَّة، أدَّى تعنُّت فقهاء الوهَّابيَّة في مواجهة دعوات الإصلاح الدِّيموقراطي إلى ظهور تيَّار سياسي معارض، دعا إلى العلمانيَّة، والتحرُّر من تطبيق الشَّرع الإسلامي في سنِّ القوانين، لكنَّ الدَّعوة إلى العلمنة أدَّت إلى اشتداد معارضة الَّتيار السَّلفي، وكانت نتيجة ذلك حادثة جهيمان العتيبي، وتعيين خليفة للمسلمين، اعتقد جماعة العتيبي أنَّه المهديُّ، فبايعوه مطلع القرن الهجري الخامس عشر، أوَّل محرَّم من عام 1400ه. اهتزت الشَّرعيَّة الدِّينيَّة للنظام الحاكم من جديد، لمَّا استعان بالأمريكيين في حرب الخليج مطلع التِّسعينات من القرن الماضي، برغم مخالفة ذلك للشريعة. قاد علماء الدِّين الإسلامي، من أستاذة الفقه الإسلامي في أكبر الجامعات السَّعوديَّة، حملة استهدفت “استعادة الشَّرعيَّة”، كما ينقل الكاتب (2012م)، بتحكيم الشَّريعة عند اتِّخاذ القرارات السِّياسيَّة، فيما عُرف بالصَّحوة الإسلاميَّة (صـ150). تقدَّمت حركة الإصلاح، الَّتي قادها المشايخ سفر الحوالي وسلمان العودة وناصر العمر وعوض القرني وغيرهم-جميعهم في معتقلات النِّظام الحاكم في السَّعوديَّة حاليًا-بمذكِّرة إلى الملك فهد بن عبد العزيز في مايو من عام 1991م، تطالب بالانتصار للشَّرعيَّة الدِّينيَّة، بعد تضرُّرها نتيجة الاستعانة بأمريكيين في حرب الخليج الأولى. يتناول الكاتب استجابة الملك السَّعودي، وتطوُّر الوضع كما يلي (صـ150-151):

فقام الملِك بالإعلان عن نيَّته للقيام بإصلاحات سياسيَّة من بينها إنشاء مجلس الشُّورى. ثمَّ قام بالإعلان عن (النِّظام الأساسي والأنظمة الثَّلاثة) الَّذي يشبه الدُّستور سنة 1992 ولكنَّ هذا الإعلان لم يملأ الفراغ الدُّستور ولم يُعِد الشَّرعيَّة الدِّينيَّة إلى النِّظام السَّعودي كما كانت سابقًا، حيث واصَل الَّتيار الصَّحوي المعارِض أعماله، وقام الشَّيخ سلمان العودة والشَّيخ سفر الحوالي والشَّيخ عبد الله بن جبرين في صيف عام 1992 بتنظيم لجنة للإصلاح والمشورة، وكتابة (مذكِّرة نصيحة) إلى الملِك، وقَّع عليها أكثر من 400 شيخ من علماء الدِّين، تضمَّنت أهم مآخذ الَّتيار وأفكاره الإصلاحيَّة في المجالات الإداريَّة والسِّياسيَّة والاقتصاديَّة والعسكريَّة والاجتماعيَّة.

وانتقدت المذكِّرة كثيرًا الأنظمة (القوانين) الَّتي تقدَّم الملِك فهد واعتبرتها منافيَّة للحريَّات العامَّة أو مستورَدة من القوانين الأجنبيَّة الكافرة. وانتقدت المذكِّرة ما أسمته سياسة الفتور والتَّجاهل والخذلان والتَّشويه الإعلامي، الَّتي تتَّبعها المملكة في علاقاتها مع التَّوجُّهات الإسلاميَّة، دولًا وحركات وأفرادًا، وكذلك الحرص الشَّديد على عدم التَّعارض مع مصالح الأنظمة الغربيَّة الَّتي تقود العداء للإسلام، ومجاراة الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة في غالب المواقف والعلاقات والقرارات مثل الاندفاع نحو عمليَّة السَّلام مع اليهود. وطالَبَت بتبنِّي سياسة الوَحدة الإسلاميَّة والعمل من أجلها، ودعْم قضايا المسلمين في جميع المحافل الدُّوليَّة، والتَّعامل بحكمة مع الدُّول والتَّكتلات والتَّوجُّهات المعادية للإسلام وعلى رأسها الأنظمة الغربيَّة، وتجنُّب أيِّ نوع من الأحلاف أو أشكال التَّعاون الَّتي تخدم الأهداف الاستعماريَّة وتؤثِّر على القرار السِّياسي للبلد.

وطالَبت المذكِّرة بإحياء دور العلماء والدُّعاة وتحريرهم من تبعيَّتهم للسُّلطة إلى تبعيَّة السُّلطة لهم “وأن يكون لهم مكانة لا تعدلها مكانة، وأن يكونوا في مقدِّمة أهل الحلِّ والعقْد والأمْر والنَّهي، وإليهم ترجِع الأمَّة حكَّامًا ومحكومين لبيان الحُكم الشَّرعي لسائر أمور دينهم ودنياهم”. وانتقدت المذكِّرة عدم استجابة الدَّولة للعلماء أو استشارتهم في سنِّ الأنظمة (القوانين) في مختلَف مجالات الحياة الثَّقافية والإعلاميَّة والاقتصاديَّة والسِّياسيَّة الدَّاخليَّة والخارجيَّة، وحذَّرت من “فصْل الدِّين عن واقع حياة النَّاس وعزْله عن التَّأثير في أمْر معاشهم وما قد يترتَّب على ذلك من أثْر خطير يهدم الأصل الَّذي إنَّما قامت عليه الدَّولة له من الدَّعوة للإسلام وتطبيق أحكامه”. ودعت المذكِّرة إلى إشراف العلماء على الدَّولة السَّعوديَّة، من خلال ترشيحهم إلى (مجلس علمائي) من ذوي الاختصاص وليس من قِبل الحكومة.

لم يتوقَّف الصِّراع بين فقهاء الوهَّابيَّة والسُّلطة الحاكمة عند ذلك الحدِّ، بل وصل الأمر إلى حدِّ اتِّهام الدُّكتور محمَّد المسعري، وهو معارض سعودي شهير يعيش حاليًا في العاصمة البريطانيَّة، الأسرة الحاكمة بادَّعاء التَّوحيد زيفًا، في كتابه أصل الإسلام وحقيقة التَّوحيد، الَّذي تضمَّن كذلك أدلَّة ساقها على عدم شرعيَّة النِّظام الحاكم، وعدم استحقاقه الطَّاعة. وتجاوزت الاتِّهامات ذلك الحدِّ، حينما وصل إلى التكفير، على يد تنظيم القاعدة، الَّذي اعتبره الكاتب تنظيمًا متطرِّفًا تأثَّر بحركة الصَّحوة الإسلاميَّة، حينما أعلن زعيم التنظيم، أسامة بن لادن، في رسالة مفتوحة ما أسماه “خيانة النِّظام السَّعودي للأمة، وموالاة الكفَّار ومناصرتهم ومظاهرتهم على المسلمين، واعتبار ذلك من نواقض الإسلام العشرة”، نقلًا عن الكاتب (صـ152). وتركَّزت اتِّهامات بن لادن للنظام السَّعودي علي تعطيل العمل وفق الشَّريعة الإسلاميَّة، وإفساح المجال أمام التدخُّل الغربي في بلاد المسلمين. من هنا، يعتبر الكاتب أنَّ الشَّرعيَّة الدِّينيَّة سقطت عن النِّظام السَّعودي، بعد انتقادات فقهاء الحركة الوهَّابيَّة في العصر الحديث لسياسة الحُكم، وإقرارهم بخروجه عن النهج الشَّرعي الَّذي تأسس عليه، ومنحه الحاضنة الأولى، عند تحالُف مؤسس الدَّولة السَّعوديَّة الأولى بمؤسس الحركة الوهَّابيَّة في نشر المذهب الإصلاحي، كما سبقت الإشارة.

يُظهر الكاتب النِّظام الحاكم في المملكة السَّعوديَّة، وكأنَّما انقلب على الأساس الَّذي قام عليه قبل أكثر من قرنين من الزَّمن، مما أدَّى إلى تعالي الأصوات المطالِبة بالإصلاح، ما بين سلفيَّة وليبراليَّة. بعد الإشارة إلى حركة الصَّحوة الإسلاميَّة وتنظيم القاعدة، ينتقل بنا الكاتب إلى استعراض وسائل الإصلاح الَّتي اقترحتها حركات أخرى، من بينها حركة الإصلاح والعقد الاجتماعي، الَّتي يقودها المعارض سعد الفقيه، وهو يعيش في العاصمة البريطانيَّة منذ أكثر من عقدين. على العكس من مطالبات القاعدة بإسقاط النِّظام الحاكم وإعلان الخلافة، استحضر الفقيه التَّجربة الدِّيموقراطيَّة الغربيَّة، مناديًا بنظام دستوري، يتيح المشاركة البرلمانيَّة في صُنع القرار. وظهر تيَّار آخر ينادي بالملكيَّة الدُّستوريَّة، كما جاء في إعلان تصدَّره دعاة الإصلاح الدُّستوري السلمي والمجتمع الأهلي المدني، من أساتذة في العلوم الشَّرعيَّة، وإعلاميين، ورجال أعمال، في ديسمبر من عام 2003م، وكان الإعلان عنوانه ‘‘نداء للقيادة والشَّعب معًا: الإصلاح الدُّستوري أوَّلًا’’.

دعا ذلك الإعلان إلى فصْل السُّلطات في الدَّولة السَّعوديَّة، وتأسيس نظام نيابي، والإقرار بالحقوق والحريَّات الشَّخصيَّة، وخضوع النِّظام الحاكم للرِّقابة. لاقى هذا الإعلان صفعة قويَّة بتجاهُل النِّظام الحاكم له، خاصَّة مع انتقاد الإعلان سُلطته المُطلقة، وبرغم منحه الشَّرعيَّة للحُكم الدَّائم. وبعد فشل هذه المحاولة، تأسست ما يُعرف بـ ‘‘جمعيَّة الحقوق المدنيَّة والسِّياسيَّة’’، في ديسمبر من عام 2009م، دعت إلى نشر العدالة والحريَّة والتعدُّديَّة الفكريَّة والسِّياسيَّة، إلى جانب تطبيق الشَّريعة، وتداوُل السُّلطة، وتأسيس حياة نيابيَّة. ولم تفلح أيُّ حركة إصلاحيَّة حتَّى الآن في المضي، ولو قليلًا، في طريق الحُكم الدُّستوري الدِّيموقراطي، الَّذي ينادي به الكاتب ويعتبره سبيل نجاة العالم الإسلامي من مأزقه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى