منوعات

التاريخ.. حتى لا يكون مُخدِّرا

عبد الرحمن قارف

كاتب جزائري
عرض مقالات الكاتب


لقد شرعتُ في أداء مهمتي الإنسانية الرئيسة، وهي المطالعة، وسِنِّي ربت عن السابعة عشرة، وقد غلبت قراءاتي التاريخية على مسيرتي (الاطِّلاعية) منذ صدرها، ولا زال التاريخُ -جوهرًا و عِلمًـا- يستهويني و يأخذُ مِن زمن مطالعاتي النصيبَ الأوفرَ بلا مُنازع ولا مُقارع، فهو الميدان الذي بذلتُ فيه جُلَّ وسعي، وانشغلتُ في سبيله أغلبَ وقتي، ونِلتُ منه أكثرَ وطري، ولم أزل بعدُ متعطِّشا إليه، طامِعا في مزيدِه، فإنَّ التاريخَ بحرٌ زاخر لا ينتهي، وكنزٌ عظيمٌ لا ينفني، بل هو في امتداد متَّصِل واتِّساع لامحدود ما دام في عُمر الكيان البشري بقيةُ حياة.

وفي ربيع عام 1442هـ وِفق 2021م توَّجتُ حصيلتي التاريخية (المزجاة) بمؤلَّف جامِعٍ مُتواضِعٍ عنونتُه (يوم كُنا عظماء)، جمعتُ فيه قليلاً مما صادفتُه في كتب التاريخ و التراجم الإسلامية مِن مشاهِد عظمة المسلمين، على ميادين السياسة و القضاء و الجهاد و الأخلاق، وبقدر ما لقي هذا الكتابُ مِن الإشادة و الترحيب و الاستحسان، على بساطة موضوعه و سهولة أسلوبه، فإنه -في مقابل ذلك، وعلى قدْرِه- واجه موجةً مِن الانتقاد و الانتقاص، وإنَّ أكثر ما تكرَّر قولُه على ألسنة النَّاقِدين -وهم يتفاوتون في قُدراتهم النَّقدية- هو ما لخَّصه لي أحدُهم على الواجوه (الفيسبوك Facebook) بعبارة: ((هذا الكتابُ بكاءٌ على اللَّبنِ المسكُوبِ.. ليس إلَّا))!

ودعوني أوَّلا أنفي عن كتابي هذه التهمة، فإنها في حقِّه تبطُل و تسقُط، فأقول:

لقد ذكرتُ -مِن جملة ما ذكرتُ في مقدمة الكتاب- ما نصُّه [1]((..ثم اعلم أنَّ ما احتواه هذا الكتاب – على قلَّة ما احتوى- ليس بكاءً على اللَّبن المسكوب، و لا هو عظٌّ للأصابع ندماً و حسرةً على ما مضى و فات، و لكنه ذكرى و تذكيرٌ لأنفسنا بتاريخنا المجيد و ماضينا التَّليد )وَذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ المؤمِنينَ( [الذاريات:55])وَذَكِّرْهُمْ بِآيَاتِ اللهِ إنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ( [إبراهيم:5]..

و هذا التذكير من شأنه أن يدفعنا للسير على ما سار عليه أسلافنا العظماء يوم انتصروا و رفعوا راية الإسلام و تصدَّروا.. كما أنَّه يدفعنا إلى تجنب السير على ما سار عليه بعضهم يوم أخطأوا و هُزِموا و تقهقروا.

أما أن يكون التذكير بتاريخنا مقتصراً على الفخر بأمجادنا و صنائع عظمائنا، و التسلية بنوادره و طرائفه، و الاستمتاع بعجائبه وغرائبه، فهذا مما أبرأ إلى الله منه، و بعيدٌ كل البعد عما أصبوا إليه)).اهـ.

هذا؛ ولقد كان مِن أسباب تأليفي إياه ما نطقت به حالُ أكثرِ المسلمين اليوم مِن الجهل بتاريخ أمتهم و أمجاده، وازدراء ماضيهم و لآلئه، والشُّعور بالدُّونية و النَّقص أمام الحضارة الغربية الهشَّة، و ثقافتها المريضة الغالِبة. فإذا ما انتصب أمامَك واحدٌ مِنهم مُتحدِّثا في تاريخ أمته أبصرتَه أبعدَ الناس عن حقيقته، وأجهلَهم بتشويه أعدائنا له و تزييفاتهم فيه، وافتراءاتهم على أجداده العظماء و الأبطال مِن الصحابة الميامين و القادة المجاهدين و الملوك الصالحين و العلماء العامِلين.. أبصرتَه يفقهُ التاريخَ الذي كتبَه المستشرِقون و الروافِض و سوَّدوه و ظلَّموه، لا الذي صحَّ منه و توثَّقَ، و نصعَ و سطعَ نورًا و ضياءً و خيرًا و فضلاً!

ففي هذا الظرف الخاص ظهر كتابي (يوم كُنا عظماء) لينتظِم في سلسلة مِن الكتب المعاصِرة الرائعة التي جاءت لتُبرِز الصفحات البيضاء الناصِعة مِن تاريخ أمتنا، وتُظهِر الواقِع التطبيقي للإسلام بعيدا عما وقع فيه أهلُه مِن السقطات على مَرِّ القرون؛ وهي الأخطاء التي حاول أعداؤنا تضخيمها و تفخيمها، وبالغوا في التركيز عليها حتى ينعقِد اعتقادُ الناس على اسوداد تاريخنا و ظلاميته، بل وزادوا على ذلك فأظهروا كمًّا هائلا مِن الافتراءات و الأكاذيب و التلفيقات التي طالت حوادِث تاريخنا المجيدة و أعلامه البارِزين، وانطلت على أكثرِ المسلمين اليوم مع الأسف.. ومِن بين تلك الكتب الرائعة نجدُ -على سبيل التمثيل لا الحصر- مؤلفات الدكتورين راغب السرجاني و علي الصلابي، وكتاب (في أروقة التاريخ) للأستاذ المؤرخ محمد إلهامي، وكتاب (مائة مِن عظماء أمة الإسلام غيَّروا مجرى التاريخ) للأستاذ الحبيب جهاد الترباني؛ على ما فيه مِن الأخطاء العلمية و التجاوُزات التأريخية غير المقبولة.

ولسائل أن يسأل: أليس في إظهار محاسِن التاريخ الإسلامي و الاقتصارِ عليها دون مساوِئه تجميلاً للتاريخ؛ بما يقتضيه هذا مِن البُعدِ عن الموضوعية و النزاهة العلمية، وبخسِ الحقائق التاريخية التي قد يكون فيها مِن المساوئ كما قد يكون فيها مِن المحاسِن؟!

والحقُّ أنَّ هذا صوابٌ لا يحتملُ أدنى خطأ، وحقٌّ لا يقربُه أدنى باطِلٍ، ولكنه -واللهُ أعلم- لا يليقُ أن يتم إسقاطُه على النوع الذي سبق ذِكرُه مِن المؤلفات التاريخية؛ لأنَّ المقصود مِن هذه هو إعادةُ الاعتبار للحقائق التاريخية الناصعة التي حاول المغرضون إغفالَها و طمسَها و تشويهها، لا تجميلَ القبيحِ، و تحسينَ السيء، وإغفالَ المساوئ، وطمسَ الأخطاء، فهذا الأمرُ لا يجوزُ شرعا ولا عقلاً، وإلا فإنَّ الفائدة الكُبرى مِن قراءة التاريخ -عندئذ- ستختفي، إذ أنَّ الأخطاء و السقطات هي البوصلةُ التي تقودُنا إلى الصواب حتما بعد دراسة أسبابها و استنباط العِبَر منها.

وبعد؛ تأتي إليكم -معاشِر القارئين- هذه الرسالة على عُجالة لتُعالِج داءً مِن الأدواء التي سبق وأن أُصيبت بها الأمةُ سابقا؛ ألا وهو النومُ المرَضِيُّ الذي تُفضي إليه القراءة الخاطئة لأمجاد التاريخ الإسلامي، فجاء عنوان الرسالة: (التاريخ.. حتى لا يكون مُخدِّرا).

فماذا الذي نعنيه مِن هذا العنوان؟!

لقد مرَّ المسلمون عبر تاريخهم بفترات عصيبة هوت بهم إلى مستنقع الضعف و الهوان و الانحلال و التخلُّف العلمي و الحضاري، وإنَّ هذه الفترة التي نُعاصرُها اليوم لهي أشدُّ علينا مِن سابقاتها بلا أدنى ريب، كيف لا وقد اتَّحدت فيها علينا كُلُّ أمراض القرون و الأمم البائدة؛ فإذا كان لكل عصر مِن عصور التاريخ جاهليته المحصورة في نطاقه الزَّمني المحدود، فإنَّ عصرنا هذا قد اجتمعت فيه كُلُّ الجاهليات السابقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!

ومِن المناسب هنا -على ما يمُتُّ بصلة لموضوعنا- أن نذكُر شيئا عن بداية اكتشاف دواء (الكوكايين) الذي تحوَّل بعد ذلك إلى أن يكون مُخدِّرا محظورًا حيازتُه إلا في حدود ضيقة للغاية؛ فإنَّ الكوكايين قد عُرِف أوَّل ما عُرِف بأنه دواءٌ لبعض الأمراض المعينة ، فلما اتَّسع إطارُ استعمالِه و أضحى في متناول جميع الناس بات يُنظر إليه مِن قِبَلهم نظرةً خاصةً جدًّا؛ فهم قد رأوا فيه مصدرا غنيا للنَّشوة و المتعة، وتزيدُ أهميته -على وجه الخصوص- عند أولئك الذين يعيشون عيشَ الفقر و العوَز، و يرزأون تحت نير الانهيارات النفسية و الخُلقية، فهؤلاء يجِدون في الكوكايين مَهربًا و مَفَرًّا مِن واقعهم القاسي إلى واقِعٍ آخر غيرِ واقِع؛ واقِع وهمي لا يجِدون فيه شيئا مما يجِدونه في واقعهم الحقيقي!.. فلما عمَّ استعمالُ الكوكايين على ذلك الأساس جرى تضييقُ حدود حيازته عبر أغلب دول العالم، وتمَّ تشديدُ الرقابة على مصادِر زراعته و تصنيعه إلى حدٍّ ما.. و لنقِفُ هنا حتى لا يجُرنا الكلامُ إلى ما لا طائل منه.

حسنا.. ما علاقة هذا بموضوعنا؟!

إنَّ هناك علاقة تشابُه بين الكوكايين -لِكونه مُخدِّرا- بموضوعنا الذي نتناولُ فيه التاريخَ الذي مِن شأنه أن يكون مُخدِّرا أيضا -كما الكوكايين- في حالة تعامُلنا معه مُعاملةً شاذةً تضُرُّ ولا تنفعُ خارِج الإطار المشروع!

نعم، فكما وجد الكثيرُ مِن الفقراء المحتاجين -وأحيانا الأغنياء المترفين- في الكوكايين مخرجًا “وهميا” مِن واقعهم المرير الذي يُعانون فيه شتى ضروب المعاناة المادية و النفسية، فكذلك فعلَ كثيرٌ مِن المسلمين حينما وجدوا في الرُّجوع إلى أمجاد تاريخهم مَخرجًا “وهميا” مِن واقعهم المرير الذي رأوا فيه أنفُسَهم على حالٍ مؤسِفة لا تسُر، بل هي تُبكي الحجرَ و الشجرَ، وتُدمي الأفئدة و القلوبَ، فتراهم يتغنَّون بتلك الأمجاد بما يُمِدُّهم بنشوة الانتصار الوهمية التي ألقت بهم في وادِ النوم و السُّبات العميق، ظانين أنَّ هذا الانتصار الذي حقَّقه أسلافُهم في يومٍ مِن أيام التاريخ إنما هو مِن تحقيقهم هم أيضا ولو كانوا على الأرائك مُستريحين مُسترخين، توضَع أمامهم فناجين القهوى أو الشاي، بعيدا عن كُلِّ جهادٍ و طلبِ عِلمٍ و ابتلاء و معاناة و وُقوفٍ على حقيقة الواقع!

نعم، سيكون التاريخُ مُخدِّرا لنا حينما نبتعِد عن الغاية مِن قراءته و دراسته، ونغفلُ عن السُّنن و القوانين الإلهية الثابتة التي تُسيِّرُ حركتَه و تُنظٍّمها، ونجهلُ أسبابَ التطوُّر و النهوض و عوامِلَ التخلُّف و السقوط، ونكتفي بقشور التاريخ دون لُبِّه.

إنَّ الاطِّلاع على معارِك بدرٍ و اليمامة و اليرموك و القادسية و فتوح المغرب و الأندلس و السند و الهند، وعلى المواقِف الصلبة التي سطَّرها القادة المجاهِدون و الملوك الأقوياء تجاه أعداء الأمة، وعلى المُنجزات العلمية و الاختراعات الميكانيكية و الهندسية العبقرية، وعلى الروائع المعمارية و العمرانية الهائلة البديعة، وعلى كُلِّ ما يدور في فلك ذلك.. إذا كان الهدفُ مِنه استنباطُ الدُّروس و العِبر، أي الزُّبدة التي يُرجى منها النَّفعُ و التغيير حينما يكون ذلك الاستنباط مُتَّصلا بواقِعنا المُعاش، فهذا هو الذين نُريدُه و نبتغيه، ويُريده كُلُّ عاقِل و يبتغيه.. أما إذا كان ذلك الاطلاع لمجرَّد التسلية و الترفيه، وجعلِ التاريخ سِردابا يولَج إليه هروبا مِن الواقِع لا مُعالجةً به لأمراضه، ومُخدِرًا يُخدِّر أحاسيس المسلمين بحقيقة هذه المرحلة مِن عُمر أمتهم، فبئسه ولا نِعمه، بل ضررُ هذا الأمر خطيرٌ للغاية لأنه يشُلُّ نشاط أفراد الأمة و يُعطِّلُه.

يقولُ الأستاذ المفكِّر مالك بن نبي: “إننا حينما نتحدثُ لا يجد ما يسد به رمقَه في يومه، عن الثروة الطائلة التي كانت لآبائه و أجداده، إنما نأتيه بنصيب مِن التسلية عن متاعبه، بوسيلة مُخدِّر يعزلُ فِكرَه مؤقتا و ضميرَه عن الشعور بها، إننا قطعا لا نشفيها.. فكذلك لا نشفي أمراض مجتمع بذِكر امجاد ماضيه، ولا شك أنَّ أولئك الماهرين في فن القصص قد قصُّوا للأجيال المسلمية في عهد ما بعد الموحِّدين قصةَ ألف ليلة و ليلة، وتركوا بذلك أثر كُل سَمَر، نشوةً تُخامر مستمعيهم حتى يناموا فتنغلِق أجفانُهم على صورة ساحرة لماضٍ مترفٍ” [2].

ويقول الدكتور راغب السرجاني: “إنَّ التاريخ الإسلامي ليس قصصا للتسلية، وليس كذلك سبيلا للفخر بأمجاد المسلمين الأوائل في أوقات قوَّتهم دون أن نتعلم منهم كيف أسسوا الدول و الحضارات.. [3].

وانتبه العلامة المؤرخ ابنُ الأثير إلى ما وقع فيه بعضُ أهل العلم في زمانه مِن قِلة الوعي بأهمية التاريخ فقال مُتحدِّثا عنهم: “و لقد رأيت جماعةً ممن يدَّعي المعرفة و الدراية، و يظن بنفسه التبحُّر في العلم و الرواية، يحتقر التواريخ و يزدريها، و يعرض عنها و يلغيها، ظناً منه أنَّ غاية فائدتها إنما هو القصص و الأخبار، و نهاية معرفتها الأحاديث و الأسمار؛ و هذه حال من اقتصر على القشر دون اللُّب نظره، و أصبح مخشلباً جوهره“.. إلى آخر ما قاله [4].

ولذلك فإذا كان التعامُل مع التاريخ بتلك الطريقة السخيفة خطيرا في كل عصر و مصر، فإنَّ خطورته تزداد في هذا العصر الذي أضحت فيه الاستفادةُ مِن تاريخنا الاستفادة الصحيحة مطلبا ضروريا لا غِنى عنه، ولولا الحرص على تلافي إطالة الحديث في هذا المقال لعرجتُ إلى ذِكر ما بان لي مِن فوائد قراءة التاريخ و مكاسِب دراسته الدراسةَ الحقَّة النافعة، ولكننا سنترك هذا إلى المقال القادم بحول الله تعالى فيكون تتمةً له و تكملةً.

الهوامش:

[1] يوم كُنا عظماء، عبد الرحمان قارف، المثقف للنشر و التوزيع، الطبعة الأولى-1442هـ/2021م، ص 11.

[2] القضايا الكبرى، مالك بن نبي، دار الفكر المعاصر، ط 1420هـ/2000م، ص 172.

[3] بين التاريخ و الواقع، راغب السرجاني، مؤسسة إقرأ للنشر و التوزيع و الترجمة، الطبعة الاولى 1430هـ/2009م، ج 2ص6.

[4] الكامل في التاريخ، عز الدين ابن الأثير، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1407هـ/1987م، ص9.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى