بحوث ودراسات

مصادر الشَّرعيَّة لأنظمة الحُكم في الدُّول الإسلاميَّة 6من 8

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

تطوُّر مصدر شرعيَّة النِّظام السَّعودي في الحُكم: من الشَّرعيَّة الوهابيَّة إلى ‘‘الأمر الواقع’’
يستعرض الكاتب تاريخ علاقة آل سعود بآل الشَّيخ محمَّد بن عبد الوهَّاب، في منتصف القرن الثَّامن عشر، تقريبًا عام 1745م، حيث بدأت العلاقة بتحالُف الأمير محمَّد بن سعود، أمير الدرعيَّة، مع الشَّيخ في نشر المذهب الإصلاحي، للقضاء على البدع والمحدثات، الخارجة عن نصِّ الكتاب وصحيح السُّنَّة، واستمر الاحتكام إلى ذلك المذهب طوال فترة الدَّولة السَّعوديَّة الأولى (1744-1818م). ويُنسب إلى بن عبد الوهَّاب قوله “إنَّ أهل نجد اليوم مشركون جاهلون ومقسومون ومختلفون، يقاتل أحدهم الآخر. آمل أن تكون الإمام الَّذي يجتمع حوله المسلمون، وأن يكون أولادك من بعدك أئمة متوالين”، كما ورد في كتاب الدرر السُّنِّيَّة في الأجوبة النجديَّة (1972م) (جـ6، صـ347) لعبد الرحمن بن محمَّد بن قاسم العاصمي النجدي، وتاريخ نجد: روضة الأفكار والأفهام (1994م) لحسين بن غنَّام (صـ87). ويعتبر الكاتب أنَّ الفكر الوهَّابي، المستمد من فقه ابن تيميَّة، الَّذي يُعتبر ملهم الحركة السَّلفيَّة والوهَّابيَّة، هو ما منح الشَّرعيَّة لفرض الحُكم بالقوَّة، استنادًا لرأي ابن حنبل آنف الذِّكر بأنَّ الطَّاعة واجبة للحاكم المتغلِّب بالسَّيف، ورأي ابن تيميَّة أنَّ الطَّاعة واجبة للحاكم، العادل والظَّالم، بل وأفتى بجواز تأسيس أنظمة حاكمة على الظُّلم والغَلَبة، كما جاء في كتابه منهاج السُّنَّة النَّبوية (جـ1، صـ141-142).
استنادًا إلى رأي مضاوي الرَّشيد في كتابها مساءلة الدَّولة السَّعوديَّة (2009م)، يفترض الكاتب أنَّ محمَّد بن عبد الوهَّاب لم يدرس مفهوم الإمامة بعنايَّة، مطالبًا بالطَّاعة والولاء للحاكم، ولو كان فاسقًا، طالما لم يأمر بالمنكر، ومبيحًا الوصول إلى الحُكم بالقوَّة وتهديد السِّلاح. يتطرَّق الكاتب إلى موقف الحركة الوهَّابيَّة من الشِّيعة، واتِّهامهم باستحداث البدع في الدِّين الإسلامي وإفساد العقيدة، ووصل الأمر إلى حدِّ غزو كربلاء عام 1802م، قُدس الأقداس بالنِّسبة لمعتنقي المذهب الشِّيعي، الَّذي يأوي أضرحة أوليائهم، وتدميرها، والقضاء على مظاهر الابتداع، بإزالة القبب على الأضرحة، وتدمير العتبات المقدَّسة، تزامنًا مع الاحتفال بعيد الغدير الشِّيعي. يُتَّهم الجيش السَّعودي الغازي بإحداث فوضى، وتقتيل الآمنين، الَّذين تراوح عددهم ما بين ألفين وخمسة آلاف، والاستيلاء على تُحف ونفائس، كما تنقل موسوعة ويكيبيديا الرَّقميَّة. ويبدو أنَّ الكاتب في نفسه شيئًا تجاه الدَّولة السَّعوديَّة لتدنيسها الأماكن المقدَّسة في النجف وكربلاء، برغم أنَّ التبرُّك بالأضرحة ومخالفة صحيح السُّنَّة في العبادات من البدع الواجب التصدِّي لها. غير أنَّ الكاتب يصوِّر المذهب الوهَّابي وكأنَّه غطاء زائف، يمنح الدَّولة السَّعوديَّة الشَّرعيَّة الدِّينيَّة، في ظلِّ غياب الشَّرعيَّة الدُّستوريَّة. ويستشهد الكاتب بما قاله مفتي المملكة العربيَّة السَّعوديَّة، الشَّيخ عبد العزيز بن باز، إذ قال “الَّتي قضت على الشِّرك والفساد والبدع والضلالات؛ فصارت مضرب المثل في توحيد الله والاخلاص له وإقامة الحق والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدَّعوة إلى الله”، معتبرًا أنَّ في ذلك مصدرًا للشرعيَّة، يدعمه الاستناد إلى الكتاب والسُّنَّة المطهَّرة، اللذين اعتبرهما الملك فهد دستور الدَّولة، في النِّظام الأساسي للحُكم الَّذي أصدره عام 1992م. ويعلِّق الكاتب (2012م) على موقف فقهاء الوهَّابيَّة من نظام الحُكم كما يلي (صـ103):
وبعد قيام مشايخ الوهَّابيَّة في نفي الكُفر عن حكَّام آل سعود، وتنزيل أعمالهم المخالِفة للدِّين، إلى درجة الفسق والعصيان، طالَبوا النَّاس بالطَّاعة في كلِّ الأحوال ولا سيِّما إم لم تكن للنَّاس قدرة على التَّغيير، وإن ارتكب الحاكم الكُفر البواح، خلافًا للحديث النَّبوي المشهور عند أهل السُّنَّة.
شدَّد فقهاء الوهَّابيَّة على تجريم الخروج على الحُكَّام؛ لما يرتبط به من فوضى وإفساد للأمور وإضاعة للحقوق، إلَّا في حالة كفر الحاكم كفرًا بواحًا. أباح الشَّيخ بن باز، كما تشير فتوى منشورة على موقعه الرَّسمي، إزالة حُكم مَن ثبت كفره، وتعيين إمام صالح للمسلمين، شريطة التأكُّد من عدم اختلال الأمن والنِّظام. يقول نصُّ الفتوى “لا يجوز إزالة الشر بما هو أشر منه، بل يجب درء الشر بما يزيله أو يخففه، أما درء الشر بشر أكثر فلا يجوز بإجماع المسلمين، فإذا كانت هذه الطَّائفة الَّتي تريد إزالة هذا السُّلطان الَّذي فعل كفرًا بواحًا ويكون عندها قدرة على أن تزيله وتضع إمامًا صالحًا، طيبًا دون أن يترتب على ذلك فساد كبير على المسلمين وشر أعظم من شر هذا السُّلطان فلا بأس، أما إذا كان الخروج يترتب عليه فساد كبير واختلال الأمن وظلم النَّاس واغتيال من لا يستحق…”، نقلًا عن الكاتب (صـ103-104).
وعُرف عن ابن باز رأيه السلبي حيال الدِّيموقراطيَّة، واعتبارها نظامًا مخالفًا للشريعة الإلهيَّة؛ لأنَّها تنطوي على حُكم البشر للبشر، بينما يعتبر الإسلاك أنَّ الحكم لله تعالى. يُنسب إلى ابن باز رأيه الوارد في الموسوعة الميسَّرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (جـ2، مسألة 1066 و1067)، القائل بأنَّ “النظم الديمقراطيَّة أحد صور الشِّرك الحديثة، في الطَّاعة، والانقياد، أو في التَّشريع، حيث تُلغى سيادة الخالق سبحانه وتعالى، وحقه في التَّشريع المطلق، وتجعلها من حقوق المخلوقين”، واستشهد ابن باز في ذلك بقول الله تعالى 40 من سورة يوسف ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّين الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سورة يوسف: 40]. ويفترض الكاتب أنَّ الوهَّابيَّة تنظر إلى عامَّة المسلمين على أنَّهم كفَّار أو منحرفون ضالُّون، وفق ما قاله عدنان النحوي في كتابه الشُّورى لا الدِّيموقراطيَّة (1985م، صـ40)، وتعتبر نفسها الفرقة الناجيَّة الوحيدة، لاستنادها إلى صحيح الهدي الإسلامي؛ ومن ثمَّ، لا تجيز مشاركة العامَّة في صُنع القرار، وبالتالي فهي لا تجيز مساءلة الحاكم على تصرُّفاته أمام مجلس نيابي، أو إسقاطه بطريقة ديموقراطيَّة سلميَّة في حالة مخالفته الدُّستور. ويستشهد الكتاب (2012م) بما جاء في بيان هيئة كبار العلماء بتاريخ 10 ذو القعدة من عام 1332ه، الموافق 30 سبتمبر 1914م، بشأن الدِّيموقراطيَّة (صـ108):
ورفَض الفكر السِّياسي الوهَّابي الدِّيموقراطيَّة لأنَّها تتضمَّن التَّعدُّديَّة الحزبيَّة والسِّياسيَّة، انطلاقًا من “عدم جواز التَّحزُّب لأنَّ الانتماء الحزبي بيعة بدعيَّة منافيَّة لبيعة السُّلطان وسبب من أسباب التَّفرُّق”. وقد رفَض ممارسة عمليَّة الولاء والبراء والهجْر والمقاطَعة في داخل صفوف المجتمع إلَّا بإذن وليِّ الأمر والحاكم الشَّرعي.
ودعمًا لافتراضه أنَّ هيئة كبار العلماء، من فقهاء المذهب الوهَّابي، تمارس سلطات دينيَّة هي مصدر شرعيَّة السُّلطة السِّياسيَّة، في صورة جديدة لتسلُّط الدِّين شبيهة بسلطة باباوات الفاتيكان في العصور الوسطى، ينقل الكاتب رأيًا أدلى به الكاتب فؤاد إبراهيم في كتابه العقيدة والسِّياسة في السَّعوديَّة (2010م)، يفيد بأنَّ النخبة الدِّينيَّة الوهَّابيَّة ترفض الإصلاح الدِّيموقراطي لأنَّ فيه تقليص لسلطاتها وتغيير للنظام السِّياسي الَّذي يخدم طبقة الحُكَّام.
يلخِّص الكاتب رأيه في النِّظام الحاكم في السَّعوديَّة بأنَّه وليد انقلاب عسكري، واحتلال بتهديد السِّلاح، اكتسب شرعيَّته من القوَّة العسكريَّة، وأغنته النظريَّة الدِّينيَّة الوهَّابيَّة عن الاستناد إلى التأييد الشَّعبي، انطلاقًا من مبدأ وجوب الطَّاعة للحاكم المتغلِّب، ولو كان ظالمًا وفاسقًا. يعيب الكاتب على النِّظام الحاكم في السَّعوديَّة زعمه الالتزام بالشَّريعة الإسلاميَّة، “بالرغم من فقدانه لصفة الالتزام الدِّيني في كثير من الأحيان، وانتهاكه لقواعد الشَّريعة الإسلاميَّة” (صـ116). اعتبر الرأي الفقهي الدِّيموقراطيَّة بدعة من بدع الشِّرك في العصر الحديث، كما اعتبر السواد الأعظم من العامَّة غير جديرين بالمشاركة السِّياسيَّة. أضف إلى ذلك أنَّ النِّظام الحاكم استبعد وضع دستور ونظام أساسي للحُكم على مدار عقود طويلة، مرسِّخًا مبدأ الاستئثار بالسُّلطة. نتيجة ذلك “ظلَّ الشَّعب السَّعودي يعاني من الحكم الفردي المستبد المطلق، ويخضع لنظريَّات سياسيَّة متطرفة قال بها بعض الفقهاء السُّنَّة في التَّاريخ، كالإمام أحمد بن حنبل وابن تيميَّة ومحمد بن عبد الوهاب” (صـ116). يضيف الكاتب (2012م) ما يلي (صـ117):
وبالرَّغم من أنَّ الحركة الوهَّابيَّة المتحالفة مع النِّظام السَّعودي منذ ثلاثة قرون، رفعت شعار التَّوحيد وكفَّرت كثيرًا من الحكَّام والطَّوائف الإسلاميَّة بحجَّة مناقضة شروط التَّوحيد، إلَّا أنَّها غضَّت الطَّرف عن ارتكاب النِّظام السَّعودي لكثير من الأعمال والمواقف والسِّياسات المنافية لشروط الإيمان حسب العقيدة الوهَّابيَّة، وأضفت عليه الشَّرعيَّة الدِّينيَّة، أو شرعيَّة الأمر الواقع، ورفضت الخروج عليه أو تغييره بالطُّرق السِّلميَّة. وهبَّت لمكافحة الفكر الدِّيموقراطي باعتباره كُفرًا وإلحادًا وشرْكًا بالله وتشريعًا إنسانيًّا في مقابل الله، وأصرَّت على تناقُض الإسلام مع الدِّيموقراطيَّة تناقضًا جذريًّا بحيث لا يلتقيان، وهو ما صبَّ في خانة النِّظام السَّعودي والاستبداد المُطلق، ومنَع الشَّعب السَّعودي من تطوير ثقافته السِّياسة الدِّيموقراطيَّة ووعيه الدُّستوري.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى