مختارات

الحقيقة الغائبة (الثورة السورية والفرنسية)

صالح موسى الحمزة

محام وكاتب سوري
عرض مقالات الكاتب


دراسة التاريخ بوابة للولوج في أي علم. ولا يمكن فهم الحاضر بكل تجلياته وحيثياته دون إدراك الماضي بكل أبعاده وجزئياته.
الحاضر نتيجة حتمية للماضي وأكثر مايلفت نظر الباحث في التاريخ تكرار ” الحادثة التاريخية” مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف المكان والزمان وخاصة في موضوع الثورات.
تتشابه الثورات غالبا في المضمون، والمآلات، وخاصة الثورات المسلحة منها، ويظهر ذلك واضحا في الترادفية الثلاثية المرافقة لكل حدث ثوري: الفوضى، الدكتاتورية، خطر الاحتلال الخارجي.
ولن يجد الباحث فرقا واسعا بين أحداث الثورة السورية و الفرنسية _ كمثال ألهب مشاعر وأفئدة الكتاب والفلاسفة والمؤرخين_ وأضع بين الأخوة الكرام مقتطفات عن خلاصة أحداث الثورة الفرنسية من وجه نظر كتاب وفلاسفة ومؤرخين منهم من كان معاصرا لهذه الأحداث ومنهم من جاء بعدها وكتب عنها بموضوعية وتجرد.

يقول الفيلسوف الفرنسي “مونتسكيو”:
«كان الناس أحرارا في ظل القوانين فصاروا يرون الحرية في مخالفة القوانين، وأصبحوا يسمون الحكمة سخافة والمبادئ عقبات..
ويظهر في الحكومة الشعبية جبابرة صغار، فيهم نفس ما كان في الجبار الكبير الذي ثاروا عليه من النقائص، ومتى أصبح أمرهم لا يطاق قبض على زمام الحكم جبار واحد فيخسر الشعب كل شيء.
لذلك وجب اجتناب ماتجر إليه الديمقراطية من المغالاة في المساواة المؤدية إلى الحكم المطلق فإلى الغزو الأجنبي للبلاد».

وعن مظالم الثورة الفرنسية يحكي جوستاف لوبون، عن 187 محكمة ثورية أقيمت خلال الثورة ، منها 40 محكمة كانت تحكم بالقتل وتنفذ أحكامها في مكان الحكم حالا..
ولم تكن كل تلك المحاكم دليلا على وجود قوة مسيطرة في الدولة، بل على العكس في حين كان الثوار مشغولون بإعدام رموز الماضي نشأت جيوش من اللصوص والقتلة كانت تجوب البلاد وتنهب العباد .
يقول لوبون وهو يصف تلك الفترة:
«في الثورات يكون المتعصبون أقلية، وأكثرية الأعضاء في مجالس الثورة الفرنسية كانوا مطبوعين على الحياء والاعتدال والحياد، ولكن الخوف هو الذي كان يدفعهم إلى السير مع القساة المتطرفين».

و يرى لوبون أن هؤلاء المحايدين الذين لا يملكون جرأة الوقوف أمام الصوت العالي لا فرق بينهم وبين المتطرفين من حيث الخطر، فقوة هؤلاء تعتمد على ضعف أولئك..
ولذلك يسيطر على الثورات دائما أقلية حازمة مع ضيق عقل تتغلب على أكثرية متصفة بسمو المدارك وفقدان الخلق لكنها صامتة ومحايدة » .

ويتحدث لوبون عن مباراة في التعصب الثوري حدثت بين إثنين من رموز الثورة هما دانتون، وروبسبير فيقول:
«دانتون كان محرضا ذا صولات وجولات وكانت نتائج خطبه القاسية تحزنه في الغالب، وكانت درجته الثورية رفيعة أيام كان خصمه المستقبلي روبسبير في الصف الأخير من الثوار ..
جاء روبسبير في وقت كان فيه دانتون روح الثورة الفرنسية، ولكن ضميره الذي كان يوجعه أحيانا لما يراه حوله من مخازي، جعل روبسبير يتغلب عليه بل ويسوقه إلى المقصلة.. وكان سر تقدم روبسبير هو إعتماده على أهل النقائص ومقترفي الجرائم .
لم يكن فصيحا كدانتون لكنه كان صاحب سحر شخصي خصوصا على النساء وكان سوداوي المزاج ضعيف الذكاء عاجزا عن فهم الحقائق ماكرا مداجيا معجبا بنفسه إعجابا لم يفارقه طول حياته معتقدا أن الله أرسله ليوطد دعائم الفضيلة، وكان ينقح خطبه طويلا وقد أدى حسده الخطباء والأدباء إلى قتلهم .
وكان يستخف بزملائه وكان دائما يشعر أنه محاط بأعداء ومتآمرين، ولذلك أقر قانونا يسمح بقطع الرؤوس بالشبهات، فقطع في باريس وحدها 1373 رأسا في تسعة و أربعين يوما.
وبهدف استعادة النظام في البلاد وتقليل خطر الغزو الخارجي، بدأ روبسبير في القضاء على كل من اعتبرهم «أعداء الثورة» فأعدم معظم زعماء الثورة الفرنسية، وهو ما عرف بعهد الإرهاب.
تشير التقديرات إلى أن ما يقارب 17,000 شخص حُكم عليهم بالإعدام بالمقصلة خلال عهد الإرهاب بعد تقديم قانون المشتبه بهم .
وازدادت الإعدامات، حتى وصل عدد المعدومين إلى ستة آلاف شخص في ستة أسابيع، وأدت خطب روبسبير النارية إلى خوف عدد من كبار أعضاء المؤتمر الوطني على سلامتهم الشخصية.
ولذلك دبرت مؤامرة ضد روبسبير وأعوانه، واتفق كل من (باراس – دتاليان) متزعمي المؤامرة وهما من رجال الثورة الذين كانا خائفين من ما يفعله روبسبير ومن معه، لذلك عزما على التخلص منه، وجهزا قوة عسكرية واقتحما بها دار البلدية التي تمترس بها روبسبيير.
ونجحت إحدى الرصاصات التي أطلقت عليه في أن تصيب فكه، ومن ثم قيدوه وأخذوه إلى المقصلة مع مائة من أتباعه وأعدموهم جميعهم .
إن الثمن الأفدح لم يكن هو الذي دفعه دانتون أو روبسبير، بل كان الذي دفعته البلاد بأسرها ، حيث استفحل أمر الفوضى وحن الناس إلى رجل يعيد إليهم النظام..

يقول لوبون « قبضت على زمام فرنسا فئة قليلة مكروهة فصارت ثلاثة أرباع البلاد ترجو أن تنتهي الثورة ليتم إنقاذها من أيدي هذه الفئة المكروهة التي بقيت مدة طويلة على رأس الأمة التعسة بما تذرعت به من ألوف الحيل والوسائل..
ولما أصبح بقاؤها في الحكم لايتم إلا بالإرهاب أخذت تقضي على من كانت تظن أنه مخالف لها ولو كان من أشد خدم الثورة الفرنسية إخلاصا»

ولما عمت الفوضى بحث الناس عن رجل قوي قادر على إخمادها فكان نابليون بونابرت هو الحل ومن أجل ما وعد به الناس من أمان.
وبالأخير بلع الناس استبداد نابليون وتغاضوا عن كثير مما حلموا به، وهكذا ثارت فرنسا على ملك قالوا أنه مستبد ليحكمها طاغية أكثر استبدادا وفسادا؛ وليقودها إلى التهلكة ولتصبح الخسارة مئات الأضعاف ولا تقتصر على فرنسا وحدها بل شملت كل بلدان أوربا؛ لتنشأ فئة ملوك المال الذين جمعوه من خسارة الشعوب وسفك دمائهم، لتحكم العالم من خلف الستار.
التاريخ يكرر نفسه بلا شك، وخاصة تاريخ الثورات والفهم القاصر في دراسة هذه الجزئية التاريخية والوقوف عليها مليا وفك روموزها، يقي من تكرار وتفادي السقوط في ذات الأخطاء الكارثية الملازمة لكل ثورة ( كنتيجة شبه حتمية ) بغض النظر عن زمان ومكان حدوثها، فالثورة في نهاية المطاف؛ حدث يصنعه البشر.
…………………………………

  • شارل لوي دي سيكوندا ‏ المعروف باسم مونتيسكي:
    هو قاض ورجل أدب وفيلسوف سياسي فرنسي. هو صاحب نظرية فصل السلطات الذي تعتمده حالية العديد من الدساتير عبر العالم .
  • غوستاف لوبون:
     (7 مايو 1841 – 13 ديسمبر 1931) (بالفرنسية: Gustave Le Bon)‏ طبيب ومؤرخ فرنسي. عمل في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا. كتب في علم الآثار وعلم الانثروبولوجيا وعني بالحضارة الشرقية. من أشهر آثاره: حضارة العرب وحضارات الهند و«باريس 1884» و«الحضارة المصرية» و«حضارة العرب في الأندلس» و«سر تقدم الأمم» و«روح الاجتماع» الذي كان انجازه الأول. هو أحد أشهر فلاسفة الغرب وأحد الذين امتدحوا الأمة العربية والحضارة الإسلامية. لم يسر غوستاف لوبون على نهج معظم مؤرخي أوروبا، حيث اعتقد بوجود فضلٍ للحضارة الإسلامية على العالم الغربي.
    *جورج دانتون (بالفرنسية: Georges Jacques Danton)
    (1759م – 1794م) :
    زعيم ثوري فرنسي ، محامي ·وخطيب بارع من زعماء الثورة الفرنسية و كان شديد الذكاء فأذا به يصبح من ألمع محامي باريس
    *ماكسميليان فرانسوا ماري إيزيدور ده روبسبيير Maximilien François Marie Isidore de Robespierre (و.1758 – 1794): محام فرنسي وزعيم سياسي. أصبح أحد أهم الشخصيات المؤثرة في الثورة الفرنسية، والنصير الرئيسي لعهد الإرهاب. وهو من أشهر السفاحين على وجه الأرض، إذ قتل ستة آلاف شخص في ستة أسابيع فقط .

المراجع:
الرعب في الثورة الفرنسية بقلم هيو غوف.
الإرهاب: الحرب الأهلية في الثورة الفرنسية بقلم ديفيد أندريس .
نقاء قاتل: روبسبير والثورة الفرنسية بقلم روث سكور
.



مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى