ثقافة وأدب

يتكلَّم بالنَّحوي..

حسين محمد بافقيه_ باحث لغوي|

أستثقِلُ التَّحدُّثَ بالفُصحى إلى الأهل والأبناء والأحباب والأصحاب والزُّملاء، وأَجري على طبعي، وأنزل على شرط اللَّهجة العامِّيَّة التي نُشِّئْتُ عليها، في مَحَلَّتِنا القديمة بالهنداويَّة بجُدَّة، فأنا لا أَنْطِقُ الثَّاء إلَّا تاءً، ولا أعرف الذَّال المُعْجَمة إلَّا دالًا مُهْمَلَةً – وفي بِضْع كلماتٍ لا تكاد تُذْكَر، تصير الثَّاء سِينًا، والذَّالُ زايًا – والثَّمانيةُ عندي، إلى الآن، تمانية – والأدقّ: تَمَنْيَة، والاثنان: اتنين، والدَّاهِيةُ الدَّهياء أنَّني، حتَّى زمنٍ متأخِّر، كُنْتُ أجعل الثَّانويَّة: تَنَوِيَّة، والحديث: حَدِيتًا.

وأنا – وأعوذُ باللهِ مِنْ كلمة “أنا” – أُطَالِعُ، كثيرًا، في كُتُب فقه اللُّغة، واللَّهجات، وعِلْم الأصوات، وفقه اللُّغة المقارن = فإنْ شِئتَ رَدَّ التَغَيُّر الحادِث في أصوات بعض الحُرُوف إلى تأثُّر حاضِرة الحجاز بالعُجْمة، فلك ذلك، وإنْ رَدَدْتَّه إلى قانون لُغويٍّ معروف يَمِيل فيه المتحدِّثون إلى التَّسهيل، فذلك صحيح، وإنْ بالغْتَ في التَّصوُّر ورفعتَه – أيْ رفعتَ تغيُّر الصَّوت – إلى بقايا لُغَوِيَّة “لهجيَّة” سامِيَّة = فدراسةُ اللُّغات السَّامِيَّة تؤيِّد تعليلك وتخريجك!

لكنَّني متى تحدَّثتُ بالفُصحى = فإنِّي – إنْ شاء اللهُ – فصيح! أُراعي المرفوعَ والمنصوبَ والمجرورَ، وأُعطي الحرفَ حقَّه، ما استطعْتُ، لأنِّي أدركْتُ، وعهدي بالفُصحى قديم، أنَّ عرب اليوم لا ينطقون الحُرُوفَ كما كان ينطقها عَرَبُ عُصُور الاحتجاج، ولا يُعطونها ما تستحقُّه مِنْ ترقيق أوْ تفخيم أو استعلاء… = كما يؤدِّيها المتقنون لتجويد الكِتاب العزيز؛ فلا الخاء التي ننطقها هي الخاء العربيَّة العَرْباء، أمَّا الرَّاءُ فنُرَقِّقها حيث يجب تفخيمُها، ونُفخِّمُها حيث يجب ترقيقها، وقُلِ القولَ نفسَه في الضَّادِ والظَّاء والطَّاءِ… يستوي في ذلك البدويُّ والحَضَرِيُّ والقَرَوِيُّ والمَدَنِيّ، فلا أحد، في هذا، أحسن مِنْ أحد! والمؤمَّل هو التَّعليم؛ تعليمُ القرآن الكريم واللُّغة العربيَّة.

على أنَّه لا شيء أثقل على السَّمع وعلى القلب مِنَ الحديث بالفُصحى بين الأصحاب والزُّملاء، أوْ بين المثقَّف والعوامّ، وأرى في ذلك تنطُّعًا وثِقل دَم! ولقدْ كان السَّلَفُ يَعْرِفون مَغَبَّةَ أن يُكَلِّمَ النَّحويُّ البقَّالَ والحَمَّالَ بلسانٍ عربيٍّ فصيحٍ، ولهم في ذلك قِصَصٌ طريفة، ورُدَّ على اصطناعهم الفُصحى في غير مَحَلِّها بعِباراتٍ يمنعُني التَّأدُّبُ مِنْ إيرادِها، يَلقاها المتطَلِّعُ في الدَّواوين التي تترجِم للنَّحويِّين واللُّغويِّين، ومعجمات الأدباء، وكُتُب الأخبار والنَّوادِر.

على أنَّنا لوْ تَدَبَّرْنا، اليومَ، حديثَ العامَّة، فإنَّنا نلقَى للفُصحى سُلطانًا عليهم، في أصواتِ بعض الحُرُوف، وفي اصطناع كلماتٍ وعِباراتٍ فصيحةٍ، في هذه الكلمة أوْ تلك العِبارة، وهذا أمرٌ حَسَنٌ مَرَدُّهُ التَّعليم، وبعضُ برامج الإذاعة والتِّلفاز، وخُطَبُ الجُمْعة، وفتاوي العُلماء.

وسأَقُصُّ عليك خبرًا:

كان الأندلسيُّون مِنْ أشدِّ النَّاس عِنايةً باللُّغة والنَّحو، وكانتْ منزلةُ النَّحويِّ عندهم لا تُدانيها منزلةٌ في طبقات أهل العِلْم، حتَّى إنَّ ابن سعيد المغربيّ – وهو هو – يقول: “وعِلْمُ الأُصُول عندهم [عند الأندلسيِّين] متوسِّطُ الحال، والنَّحوُ عندهم في نهايةٍ مِنْ عُلُوِّ الطَّبَقة، حتَّى إنَّهم، في هذا العصر، فيه كأصحاب عصر الخليل وسيبويه، لا يزداد مع هِرَم الزَّمان إلَّا جِدَّة، وهُمْ كثيرٌ والبحث فيه وحِفظ مَذاهبه كمَذاهب الفقه، وكُلُّ عالِم في أيِّ عِلْم لا يَكُون متمكِّنًا مِنْ عِلْم النَّحو – بحيث لا تَخفَى عليه الدَّقائق – فليس عندهم بمستحقٍّ للتَّمييز، ولا سالِمٍ مِنَ الازدراء”!

ويُكْمِلُ ابنُ سعيد المغربيّ كلامَه – وهُنا موضع الشَّاهِد، وما أريدُكَ أنْ تتأمَّله – ويقول، بعد كلامه ذلك رأسًا:

“مع أنَّ كلام أهلِ الأندلس الشَّائع في الخَوَاصِّ والعَوَامِّ كثيرُ الانحراف عمَّا تقتضيه أوضاعُ العربيَّة، حتَّى لوْ أنَّ شخصًا مِنَ العرب سَمِعَ كلام الشَّلَوْبينيّ أبي عليّ المُشَار إليه بعِلْم النَّحو في عصرِنا الذي غَرَّبتْ تصانيفُه وشَرَّقَتْ، وهو يُقْرِئُ دَرْسَه = لَضَحِكَ بمِلْء فِيه مِنْ شِدَّةِ التَّحريف الذي في لسانه، والخاصُّ مِنهم إذا تَكَلَّمَ بالإعراب وأخذ يَجري على قوانين النَّحوِ استثقلوه واستبردوه، ولكنَّ ذلك [يعني النُّزُول على شرط الفُصحى] مُراعًى عندهم في القراءات والمُخاطبات بالرَّسائل”!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى