مختارات

القائد الضرورة… صدام والتشيع!

الدكتور عبدالله العربي

إن من أهم الأمور التي فقدها المجتمع الإسلامي والعربي منها على وجه الخصوص، هو التقييم الموضوعي للأشخاص والأحداث التاريخية بعيدا عن الحب والبغض، ومن غير المستبعد أن تكون الأيادي الخفية التي تقود هذا العالم هي من أشاع هذه الثقافة لإثارة العواطف وإذكاء المزيد من الفتن والاختلافات وخندقه تخلق من الصديق عدو وتقطع الأرحام بل إن الأمر قد وصل إلى استباحة الدماء وسفكها!لا يخفى على أحد أن صدام حسين من الشخصيات المثيرة للجدل بين عاشق ومؤيد بالمطلق ومبغض معارض بالمطلق، ومن يعنيني بالحديث هنا هي البيئة السنية، فالبيئة الشيعية بيئة مبغضة ومعارضة في سوادها الأعظم وليست محل حديثنا هذا، ومما يؤسف له أن أهل السنة (ولو أنني لا اؤمن بهذا المصطلح وأفضل التفريق بالمصطلحات بين المسلمين والشيعة ولكن واقع الحال يفرض علينا هذه المصطلحات) ومما يؤسف له أن أهل السنة ينظرون إلى بعض الكلام الذي صدر عن صدام وانتمائه الحزبي أكثر من أفعاله، وذلك ما جعل التيارات الاسلامية أو لنقل كل من كان يملك حساً وعاطفة إسلامية في الخندق المضاد لصدام دون الاكتراث بأي من انجازاته! القائد الضرورة مصطلح اطلقه الراحل عبد الجبار محسن والذي كان يعمل مديراً للتوجيه السياسي في حرب القادسية الثانية ومستشاراً صحفياً لصدام حسين وهو من الصابئة المندائيين والذي انقلب على صدام بعد احتلال العراق عام ٢٠٠٣ واخذ يصفه بأبشع الصفات، المهم في الأمر هل كانت تلك التسمية \”القائد الضرورة\” مجرد هفوة او مخرجات منافق ام انها حقيقة فعلا؟! لو تأملنا قليلا بأعداء صدام، أو لننظر للأمر من زاوية صدام نفسه، ومن هم الكيانات والأشخاص الذين كان صدام يكن لهم العداء ويظهره، فسنجد اسرائيل وإيران وأذنابهما ومن خلفهما دول الغرب، ولا بد لنا هنا أن نذكر نظام حافظ الأسد، والذي يشاطره بقيادة حزب البعث في سوريا باعتبار أن الأسد رئيسا لدولة وليس رئيساً لحزب أو قائدا لميليشا…لو بحثنا في أساس الخلاف بين صدام والأسد لوجدنا أن أساس ذلك الخلاف هو خلاف يعود للانتماء الديني في حقيقة الأمر، فلا شيء يفرق بين صدام والأسد من ناحية الانتماء الحزبي والقومي كما يحاول الأسد أن يظهر، لكن ما الذي يجعل الأسد أن يكون موالياً لإيران عندما كانت تحت حكم الشاه القومي الفارسي لولا حاضنته الشيعية؟ خاصة وأنه يعلم أن إيران وكر ومنبع للتشيع، وقد أدرك صدام خطورة هذا النظام في وقت مبكر من حياته السياسية وحياته في السلطة، وكان يعلم جيدا بأن الأسد يرى حمايته في أحضان التشيع في البحر السني حتى ولو لم يكن الأسد اثنا عشريا، فالتشيع الأسدي تشيعا مواليا أكثر مما هو تشيع عقدي، وقد أثبتت الأحداث المتوالية دقة تشخيص صدام للاسد بكونه جسما خبيثا وغريبا على هذه الأمة وأن نظامه ما هو إلا امتداد للسلطة في طهران وخادما مطيعا لها وأن وجوب الوقوف ضده يجب أن لا يتجزأ عن الوقوف بوجه المشروع الصفوي!يتحدث البعض عن حرب القادسية الثانية (وأنا ممن يصرون على تسميتها باسمها الحقيقي) وكأن صدام وحده قد وصل إلى سدة الحكم، ويغفلون عن وصول الخميني ومشروعه الخبيث إلى رأس السلطة في طهران، فإيران الخميني أخطر بما لا يقارن بخطورة إيران الشاه، وقد أدرك الغرب أن ما لا يمكن تحقيقه بقرن من خلال الشاه يمكن تحقيقه من خلال الغرب ببضعة عقود، خاصة وأن صدام تمكن من ايجاد حل مع الشاه من خلال اتفاقية الجزائر والتي ازعجت الغرب وساهمت في اسقاط حكم الشاه، تلك الاتفاقية مثلا كانت محل سخط وسخرية من قبل العراقيين بتأثير الطابور الخامس دون أن يدركوا أهميتها بإغلاق باب إيران ،وكف شرها عن العراق والتخلص من التمرد الكردي الذي كان مدعوما من الشاه آنذاك، والتفرغ للجبهة العربية مع إسرائيل والتي كانت في هدوء قلق ومصير مجهول، ويبدو ان الغرب قد وجد ضالته في الخميني لانهاء تلك الاتفاقية على الارض وكذلك تحقيق المآرب التي أشرنا اليها سلفا. لو راجعنا الوضع الاجتماعي داخل العراق سنجد أن الأمر قد تغير جذريا عما كان عليه الأمر قبل عام ١٩٦٨، حيث أدرك صدام أن بإمكان الشاه استغلال العاطفة الدينية لدى شيعة العراق ،وكذلك تأثير الخميني المباشر عليهم، فعمد على إضفاء الصفة العلمانية على المجتمع العراقي بشكل عام ،وعمل على إلغاء أي من الظواهر التي تبين الوجود الشيعي في العراق وعلي جميع الصعد، وأتذكر حديثا من هم أكبر منا سنا ممن عاصروا حقبة ما قبل صدام وحديثهم عن الشيعة وكيف أنهم يرون في السني نجسا وأن له ذيل يخفيه تحت سرواله، حتى وصل الأمر إلى تجريم بعض الممارسات والطقوس الشيعية وما أن استقر له الأمر حتى فسح المجال للإسلام السني بالظهور والبروز حتى لا يكاد عربي يعرف أن هناك شيعة في العراق، فالإعلام ، والآذان والصلاة، والجمعة، والمناهج التعليمية، والدورات والمنتديات الدينية، كانت سنية خالصة، بل انه استطاع توظيف الثروة البشرية الشيعية في خدمة الإسلام السني في محاربة الخميني ومشروعه الخبيث وأذنابه واستخدمهم حتى في إطار حربه مع الغرب بعد أن أوقف المشروع الخميني في حرب القادسية!ولو نظرنا كذلك في تعامل صدام واجهزته الامنية مع التنظيمات والاحزاب الدينية لوجدنا بونا واسعا في التعامل مع الأحزاب الشيعية من جهة والسنية من جهة أخرى، فعلى سبيل المثال لا الحصر كان مجرد الانتماء لحزب الدعوة يعد جريمة تصل عقوبتها إلى الإعدام، في حين أن الانتماء لجماعة الاخوان المسلمين مثلا قد يؤدي إلى نقله من مكان عمله أو سجنه لعدة أشهر، رغم أن بعض المنتمين لجماعة الاخوان في العراق وللأسف كانوا يرون في الخميني مشروعا اسلاميا مثاليا ومنقذا لهم من صدام! إضافة لذلك عدم توقيره أو تبجيله لأي من علماء الشيعة ولم يقرب إليه أيا منهم، على عكس احترامه وتوقيره للكثير من علماء أهل السنة وعلى رأسهم الشيخ عبد الكريم المدرس -رحمه الله- المفسر في كتابه مواهب الرحمن في تفسير القرآن وكذلك آل السعدي كالشيخ عبد الملك والشيخ عبد الرزاق وغيرهم، في حين يمكنك الاطلاع على فيديو متاح على الإنترنت لترى كيف تعامل صدام مع الخوئي على الرغم من كونه كان مواليا لصدام في أحداث صفحة الغدر والخيانة عام ١٩٩١.بعد أحداث غزو الكويت وما جرى للعراق من حرب شرسة آذت العراق سياسيا واقتصاديا، أصدرت الأمم المتحدة ومنظماتها المعنية بحقوق الإنسان الكثير من القرارات والتوصيات ومن ضمنها وجوب إشراك الشيعة في السلطة والمناصب في العراق، وبالرغم من أن صدام كان يخطط لمشروع توطين بعض الشخصيات الشيعية في بعض المناصب والإدارات العامة في محاولة لترسيخ الهوية الوطنية وإبعادهم عن إيران إلا أن مشروعه لم يكتمل بسبب ما جرى عام ١٩٩١، فأصبح الأمر وكأنه امتثال لمقررات الأمم المتحدة ومنظماتها الإنسانية فبدأ بتولية بعض الشيعة في مناصب إدارية إلا أنه استحدث منصبا جديدا موازيا لكل مدير عام يسمى \”الرديف\” أو \”الاستاذ\” مهمته مراقبة كل مدير عام وتقييم أدائه على أن يكون الرديف مشهودا له بالولاء للسلطة، لم يكن ذلك المنصب مخصصا للشيعة فقط ،ولكنني أجزم بأن استحداثه له كان لمراقبة عمل الشيعة وولائهم! إن ما قام به صدام من صد إيران وتحجيمها وغلق باب شرها طوال فترة حكمه، وتقييده للشيعة في العراق وترويضهم والغائهم حتى ان الاجيال التي نشأت بعد وصوله للسلطة لم تكن تعرف اسم \”شيعة\” ومحاربته لكل اذنابها في المنطقة وإيقاف بل وانكماش التشيع في العراق وبالتالي المنطقة كلها ومحاربة المشاريع الغربية التي كانت تتوافق مع مشروع الخميني الصفوي والتحدث بجرأة عن اليهود وجبنهم وقوله (متى أصبح اليهود شجعانا؟ طول عمرهم أهل فلس أهل زوايا مظلمة) والذين لم يعد أحد يجرؤ على ذكرهم بسوء بحجة التسامح واحترام الاديان، وكثير من العوامل الأخرى جعلت من صدام القائد الضرورة حقيقة وفعلا، لكونه أدرك خطورة المشروع الصفوي والصهيوني في وقت مبكر وعمل جاهدًا على محاربتهما دون ان يرتدي عمامة ودون أن يتاجر باسم الدين والقضية، وما يؤيد ذلك هتاف الشيعة عند إعدام صدام بقولهم \”منصورة يا شيعة حيدر\” لم يهتفوا بالنصر للعدالة أو للعراق وأن حقدهم على صدام واعتباره قد اخلف عمر بن الخطاب والحجاج وصلاح الدين الأيوبي، ما هو إلا دليل واضح على حجم صدام وإدراكه وتأثيره في وقوفه بوجه التشيع، هل سيعي بعض أهل السنة اليوم الذين ما زالوا يشتمون صدام وينسبون كل المصائب لفترة حكمه ما الذي فعله صدام لأجلهم؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى