منوعات

سعيد هرماس.. مِن أعلام الجزائر المنسيين

عبد الرحمن قارف

كاتب جزائري
عرض مقالات الكاتب

الحمد لله رب العالمين، و بعد..

فإنَّه مِن الحريَّ بكل امرئٍ -ولو لم يكُن مسلما- على وجه الأرض أن يرُدَّ الـمعروفَ إلى أهلِه، ويشكُرَ صنيعَ أهلِ الخير فيه، و ينسِبَ الفضلَ إلى ذويه، ويؤدِّي الحقوقَ إلى أصحابِها أداءً غير مبخوس ولا منقوص، وهذا مؤدَّى الإنصاف، ومقتضى الاعتراف.. هذا مع عامة الناس.

أما مع خاصتهم مِن مثقفين و طُلاب علوم -على اختلاف درجاتهم- فالأمر عليهم أوجبُ و آكد، وهو في ذمتهم دَين لا يُسد، فالعِلمُ أغلى بضاعة ظهرَت في الوجود، وأعلى غاية بُذِلَ لتحصيلها الموجود، وأجدرُ ما هُجرِ في سبيلها القُعود، وأعظمُ خير مُتصل ممدود إلى يوم الحساب الموعود، وجوهرُه العلمُ بالله و دينه و شريعته.

و نقيضُ ما سبق ذِكرُه هو التنكُّر لأهل العلم و الفضائل، وغمط حقوقهم المؤكدة، واحتقار أعمالهم و مآثرهم التي قد تكون عند أهل الدنيا حقيرة، ولكنها لدى أهل السماء عظيمة.. وأسوأ ما في هذا النقيض درجةً هو أن يُقابل إحسانُ أولئك بالإساءة، أو أن تُثار حولهم زوابعُ التشويه، ويُفترى عليهم الافتراء الكريه، فإذا ما وُجِد فينا قومٌ هذه أعمالُهم و خصالهم، فعلى الأخلاق و الآداب السلام، وإلى الله المشتكى.

وإنَّ في بلادي رجلاً ذا فضل عليَّ كبير، وصاحب خير أجراه إليَّ وفير، فلم أجِد لسدِّ بعضِ دَينه المتعلق بذمتي أحسنَ مِن التعريف به في هذا المقال، و لفت أنظار الطُلاب في الجزائر و المغرب الكبير إليه.. ولماذا الجزائر و المغرب الكبير تحديدا؟!

لأنَّ هذا الرجل قد أعمل قلمَه كتابةً و تسطيرًا لتاريخ و أعلام الجزائر خصوصا، و المغرب الكبير عموما، فصدر له في ذلك إلى الآن مِن المؤلفات و المقالات العددُ الغزير، و الكمُّ الوفير، وقد حوَت في طياتها قدرًا عظيما مِن الحقائق و المعلومات التي هي أجدُرُ بطُلاب التاريخ في بلادنا أن يحوزوها قبل غيرهم، فهم أولى بها و أحقُّ.

ولكن… قد اقتضت حالُ أعلام الجزائر منذ القِدَم -لأسباب عِدة- أن تُبخَس أشياؤهم، وتُطمس مآثرهم، وتندرس ذكراهم، بل وأن تبقى أسماؤهم حبيسة التاريخ المنسي، ومِن الأدلة على ذلك أنَّ هذا الرجل الذي جئت أحدِّثكم عنه لا يعرفه إلا النزرُ اليسير رغم أعماله الجليلة التي سأقدِّمها إليكم الآن، ولكن يبطُل العجب حينما يُعرف السبب؛ إذ يقول شيخُ مؤرخي الجزائر أبو القاسم سعد الله، عليه رحمة الله، مُشخِّصا الداء الذي أصيبَ به الجزائريون: (فنحن -بإجماعنا- لا نكادُ نعترِفُ لأي بطل في تاريخنا سواء كان ملكا جبارا، أو محاربا مغوارا، أو شهيدا أو عالِما. إنَّ تحطيم الأبطال و الرموز ظاهرة غريبة تميز بها الإنسانُ الجزائري عبر تاريخه، ويكاد يكون فريدا بين الشعوب في ذلك) [1].. وقد صدق!

إنني أتحدث إليكم عن شيخنا الأصولي المؤرخ المفضال، وصاحب القلم الذهبي السيَّال، أبي محمد سعيد بن مسعود هرماس الجلفاوي الجزائري، المولود عام 1393هـ /1973م بمدينة الجلفة وسط الجزائر.

فأما تاريخ مدينة الجلفة فللشيخ أبي محمد كتاب (مِن فضلاء منطقة الجلفة)، وقد أورد فيه ما لا يقل عن 160 ترجمة، بذل في سبيل جمعها و تدوينها الجهدَ الجهيد، والكدَّ الكديد، والمال الجزيل، ولم يصدَّه عن ذلك نَخَمُ السَّفر والترحال، ولا امتداد السنين الطوال.. ولكن مَن عرفَ قيمةَ المطلوب، وأدركَ قدْرَ المرغوب، و نظر ببصيرته إلى سعادة الغاية، وتفرَّسَ سَعْدَ النهاية، استذلَّ المصاعب، واستحقر المتاعب، واستشرف المكاسب، وعلى هذا كان أملُ الشيخ سعيد و عملُه، فتوَّج تلك المجهودات بكتاب (الفضلاء) الذي جاء فريدا في بابه، رأسا في منهجيته، ولو كان مقامُ المقال كافيا لبسطنا القولَ في ذلك الكتاب بما يستحقه و يستأهله.. وفي تاريخ الجلفة أيضا ألَّف الشيخ سعيد كتابه (من تاريخ الجلفة الثقافي)، وقد جمع فيه ما اجتمع عنده مِن شذاذ الأخبار و عامَّة الحقائق و الحوادث التي جعلت مِن كتابه المرجعَ الأول لطلاب و أبناء المدينة في هذا الجانب، والكلامُ في الكتاب يطولُ لو اتَّسعَ المجالُ.

وأما في تاريخ الجزائر، فللشيخ أبي محمد كتاب (الطبقات المالكية الجزائريين خلال المئة الهجرية الأخيرة 1317-1421هـ/1900-2000م)، أتى فيه على ذِكر ما يربو عددُه عن 210 ترجمة لفقهاء الجزائر و علمائها و أصولييها المالكيين، وهو الأول في بابه و طريقة عرض مادته التراجمية الماتعة على مستوى القطر الجزائري، وفد طُبِع هذا الكتاب ثلاث طبعات، و الرابعة في الطريق، ويحِقُّ لي أن أقول: إنه لا غِنى لطالب العلم و المثقف الجزائري عن كتاب الطبقات ذاك، ولا ينبغي أن تخلو مكتبته منه… وكذلك له كتاب (الموريسكيون في الجزائر) الذي استقصى و حقَّق فيه حركةَ انتقال الموريسكيين من الديار الأندلسية -ردَّها الله إلى حياض الأمة- صوب المغرب الأوسط (الجزائر)، وذلك عقِب دوران رِحى المواجهة لصالح الصليبيين على المسلمين، وقيام محاكم التفتيش الصليبية المرعبة التي لم يسلم منها المسلمون و اليهود على السواء، فكانت مأساة ضياع الأندلس التي لازال الناس يبكونها حتى اليوم.

وأما تاريخ المغرب الإسلامي الكبير، فإنَّ الشيخَ قد كتب فيه و أجاد، مِن كتب ومقالات جِياد، وعلى رأس كتبه نجد (تكملة وفيات ابن قنفذ القسنطيني)، وابنُ قنفذ هذا هو إمام مُحدِّث مؤرخ جزائري توفي في آخر العقد الأول مِن القرن التاسع الهجري، وكان قد ألَّف كتابا أودع فيه وفيات أعلام الأمة مِن دون أن يتصدى لتراجمهم، فابتدأه من زمن النبوة و اختتمه بزمنه. ثم جاء الشيخ أبو محمد سعيد هرماس ليُكمِلَ عملَ ابن قنفذ فألَّف كتابَه التكملة الذي هو -على التحقيق- أوسعُ و أشملُ و أتقنُ بمرات مِن الوفيات، وقد ابتدأه مِن زمن ما بعد وفاة ابن قنفذ وصولا إلى زمننا المعاصر، فاحتوى الكتاب في طبعته الثالثة على 2338 اسما مِن أسماء الوفيات. على أنَّ مجهودات الشيخ سعيد و ابن قنفذ في التكملة و الوفيات قد اتفقت على ذِكر المغمورين مِن أعلام المغرب الكبير على سبيل التخصيص.

وإلى جانب ما سبق، فإنَّ الشيخ سعيد أصوليٌّ في الفقه و الحديث بالمقام الأول، ولذلك نجده قد أثرى المكتبة الإسلامية بجملةٍ مِن الأعمال المتعلقة بذينك العِلمَين، ومنها: (المحدِّثون و جهودهم في القرنين الهجريين الأخيرين)، وهو كتاب كبيرُ الحجم ننتظر -على أحرِّ مِن الجمر- صدورَه و نشره قريبا، وسيلقى إن شاء الله قَبولا كبيرا لدى طُلاب الحديث خصوصا، ويكون للشيخ قصب السَّبق فيه خلال هذه الحقبة بإذن الله. وله (حواش على الفتاوى الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية في القواعد الأصولية و القواعد الفقهية المستعملة)، وهو الآخر ينتظر الخروج إلى النور. و إضافةً إلى ما سبق نجد عددًا من المقالات و الأبحاث القيِّمة.

هذا؛ ورغم أنَّ ما ذكرته لكم مِن أعمال الشيخ سعيد كافٍ كي يستبين أمامكم مقامُه، غير أنَّني أزيدُكم -فوق ذلك- بعضا مِن التزكيات و الشهادات و الإطراءات التي صدَّرها عددٌ من كِبار علماء الأمة، و جهابذة محققيها و مؤرخيها في حق الشيخ، وهم الذين اطلعوا على أكثرِ ما كتبه و ألفه، فأما العلامة المحدِّث المحقق بشار عواد معروف فقد كتبَ يقول: (..وبعد؛ فإني الدكتور بشار عواد بن معروف العبيدي البغدادي الأعظمي أشهدُ بأنَّ الشيخ العالِم الكريم الخصال أبا محمد سعيد هرماس، حفظه الله وأدام تأييده و نُعماه، قد أثرى المكتبة العربية بمجموعة نفيسة من الدراسات و التحقيقات النافعة الماتعة، انتهج فيها السُّبل العلمية القويمة في البحث و الفحص و التقصي، والقائمة على الخبرة العميقة الشاملة، تلقَّاها أهل العلم المنصفون بما هو أهله من إحسان الذِّكر و إيفاء الشكر حين بذل فيها صاحبها جهدَه، واستنفذ وسعه، لم تشغله عنها فائدة، ولا أذهلته عنها منحة زائدة..)، وقد أجازه [2].. وأما البروفيسور و المؤرخ الكبير عماد الدين خليل فمما قاله: (لقد تلقيتُ بامتنان عميق جهودَ أخي الغالي الشيخ الأستاذ سعيد هرماس الجزائري -حفظه الله- المثابرة الدؤوبة، في ميدان البحث و التأليف، واطلعتُ على جانب من عطائه الثري الغني، في مجالي التحقيق و التأريخ، فرأيتُه ذلك الباحث القدير الذي أتحف و سيُتحف المكتبة الإسلامية، بالمزيد من العطاء العلمي و الموثَّق، وقد حباه الله عقلا خصيفا، وذِهنا ذكيا لمَّاحا، ولقد اهشتني -حقيقةً- لُغته المحكمة القوية، وجزالة أسلوبه العربي المبين، الذي هو على لُحوب و استواء، في ما ذكَّرني بلُغة و أساليب الآباء الأجداد..) [3].

وبما يُشبه شهادتي بشار و عماد الدين شهِد محمد بنشريفة المغربي، وأحمد بن مالك الفلاني الجزائري، والحاج محمد خليفة الجزائري، وغيرهم، للشيخ سعيد هرماس، فاتفقت كلمتهم فيه على أنه من ذوي العلم و الفضل المستحقِّين للإكرام و الإجلال.. وأيُّ إكرام و أيُّ إجلال!

وبعد؛ فبوسعي أن أقول: لو كان الشيخ سعيد هرماس رجلا مِن المشرق لبرز على شاشات الإعلام، و قوبِلَ بما يستحقه مِن الاهتمام، و عومِلَ بما يُعامَل به السادة و الأعلام، لا أن يُهمَّش و يُـخذَل، وتًضرب مؤلفاته عرض الحائط و تُـجهل، وهو حالُ أكثرِ ذوي الأقلام النافعة في بلاد المغرب الكبير عموما، و الجزائر منها خصوصا، وفي هذا درسٌ قديمٌ جديدٌ لأهل المغرب كي يسيرو على درب أهل المشرق في رفع أعلامهم، والتعريف بعلمائهم، وعلَّنا سنشهدُ خلال قادم السنين حصولَ التغيير المنشود في ذلك الأمر إن شاء الله.

– الهوامش:

[1] أبحاث و آراء في تاريخ الجزائر، أبو القاسم سعد الله، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى-1996م، (ج4/ص8).

[2] تكملة الوفيات؛ أبو محمد سعيد هرماس، دار الماهر للطباعة و النشر و التوزيع، الجزائر، الطبعة الثالثة-2021م، ص 11.

[3] المصدر السابق، ص 12.

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. السلام عليكم ورحمة الله
    جزاكم الله خيرا على هذا المجهول
    هل من سبيل للاتصال بالشيخ

    1. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، هذا بريده الالكتروني:
      ‏‪Hargou17@gmail.com‬‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى