مقالات

قراءة في كتاب “الإمارة الإسلامية ونظامها”

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب

قراءة في كتاب الإمارة الإسلامية ونظامها
للشيخ عبدالحكيم حقاني، رئيس الإدارة العالية لمحاكم الإمارة الإسلامية الأفغانية 1/2.
أصدر الشيخ عبد الحكيم الحقاني “قاضي القضاة” في حركة طالبان كتابا بعنوان: “الإمارة الإسلامية ونظامها”، و صدرت الطبعة الأولى في رمضان 1443 عن مكتبة دار العلوم الشرعية في 312 صفحة.
في تقدمته للكتاب ذكر الشيخ هبة الله أخوند زادة أمير الإمارة الإسلامية في أفغانستان أنه اطلع على بعض مواضيع الكتاب فأيده، ثم فوّض مطالعة الكتاب إلى العلماء الذين يدققون المسائل المهمة الواردة إليه فدققوه وأيدوه، قال: “فقد صار هذا الكتاب مؤيدا عندي بتأييدين؛ بمطالعتي وبمطالعة الشيوخ الكرام”.
رغم ما ورد في تقدمة الشيخ أخوند زادة إلا أنه من غير الواضح أن الكتاب يُعد بمثابة وثيقة رسمية لنظام الحكم في الإمارة الإسلامية في أفغانستان، وهناك من يرى أن الكتاب يعكس آراء الشيخ حقاني فقط، فلا يزال السؤال قائما عن “تبني” حركة طالبان للكتاب وما ورد فيه، مع العلم أنه من المعروف أن الشيخ حقاني من المقربين من أمير الحركة، ويرى البعض أنهما يعبّران عن “جناح قندهار” في الحركة، وهذا الكلام له اعتباره خاصة حين النظر إلى الجدل المتواصل حول موقف طالبان الرسمي من “تعليم البنات”، فالكتاب يتشدد في تعليم البنات ويقيده بضوابط شديدة تصل إلى منعه، وهذا ما حصل فعلا بعد صور قرار في أول آذار 2022 بأن المدارس الثانوية ستفتح أبوابها للبنات، ثم في غضون أيام قلائل تم إلغاء القرار بحجج واهية، وقد رأى المراقبون أن هناك انقسام داخل الحركة بين جناحين: الداعين إلى السماح بالتعليم ضمن ضوابط والرافضين لذلك.
يتضمن الكتاب جملة من الآراء الفقهية الشرعية، وفي جلها هي نصوص منقولة عن مصنفات فقهية سواء حديثة( ككتاب الفقه الإسلامي وأدلته للشيخ وهبة الزحيلي) أم قديمة (الأحكام السلطانية للماوردي) ، ويهدف الكتاب إلى بلورة “طرح” معاصر لنظام الإمارة الإسلامية في أفغانستان، وقد تناول المصنف عددا من المواضيع الهامة في السياسة الشرعية واجتهد في تبيان معالم أجهزة الحكم، ولكن غلب على نقولاته العموميات بما يصل إلى ضبابية في الطرح كما سنفصل لاحقا بعون الله.
أضع فيما يتلو بعض الملاحظات مبتدئا بذكر رقم الصفحة في الكتاب:
ص 18 “لا يجوز لمجاهدي الإمارة الإسلامية أن يتركوا الجهاد بمجرد خروج الأمريكان ومتحديهم، وليس هذا هدف جهاد الأفغانيين، بل هدفهم قيام قانون الله تعالى على عباده أهالي أفغانستان وحياتهم تحت لواء الشريعة، وهذا الهدف والمقصود العالي لا يحصل إلا بإقامة الدولة الإسلامية في أفغانستان”
وهذا قول جيد، و كثيرا ما يتكرر في ثنايا الكتاب الحرص كل الحرص على تطبيق أحكام الإسلام ولا شيء غير الإسلام، وإن كان شديد الالتصاق بالمذهب الحنفي، ولكن المصنف لم يعرّف أحكام الجهاد ،والذي هو ذروة سنام الإسلام، وضد من يكون الجهاد؟ ضد باكستان أم ايران أم طاجكستان؟؟
ثم هو يحصر تطبيق “قانون الله”(أي الشريعة الإسلامية) على أهل أفغانستان؟ فهل توقف قانون الرسول ﷺ عند أبواب المدينة المنورة أم انه سيّر الجيوش لنشر تطبيق شرع الله في كل أرض وطأتها وتوفي الرسول ﷺ و قد جهّز جيش أسامة بل وشدّد على إنفاذه رغم مرضه؟
هذه “العقدة” ، المتمثلة بالحدود الوهمية التي فرضها المستعمر البريطاني وما يبنى عليها من مفهوم “الدولة الوطنية”، غائبة بقوة في الكتاب، إذ لم يتطرق إليها المصنف مطلقا، فالكتاب لا يتضمن شيئا عما يعرف بالعلاقات الخارجية، مع أنه هنا يشدد على أهمية المضي بالجهاد لتطبيق “قانون الله” مع أن الجهاد ، اصطلاحا، هو بذل الوسع في قتال الكفار لإعلاء كلمة الله، فمن هم الكفار الذين يدعو لجهادهم؟ ولمَ يحصر تطبيق شرع الله في أفغانستان؟ هذا ما لا نجد له جوابا. وكنت طرحتُ سؤالا على مكتب الشيخ عن موقفه تجاه “خط دوراند” الذي رسمه المستعمر الانجليزي للحدود بين أفغانستان وباكستان، هذه الحدود التي تشهد من حين لآخر مناوشات وصلت إلى حد قيام الطيران الباكستاني بشن غارات داخل أفغانستان أدت إلى سقوط عدد من الضحايا، كما قامت باكستان ببناء سياج حدودي عازل على طول الخط، واعترض عناصر طالبان على ذلك و حاولوا تخريبه أكثر من مرة!

ص 34: أدرج “غير المسلمين” ضمن أحكام العلاقات الدولية: غير المسلمين في الدولة الإسلامية” يخضعون لحكم الدولة في الداخل، فلماذا تصنيفهم ضمن الأحكام الدولية؟ هم ليسوا بكيانات دول في الخارج بل جزء من الأمة!
ص 37- تعصب متطرف للمذهب الحنفي وكأنه يحكم بنفي غير الأحناف دون أن يعتذر عن ذلك!
ويحكم بأن من انتقل من المذهب الحنفي إلى غيره “يُعذّر” (أي يعاقب عقوبة تعزيرية) فهذا من التلهي في الدين…أما أهل الذمة فلا يضامون في ممارسة عباداتهم (44)! وفي هذا ما لا يخفى من استثارة سخط من هم من غير الأحناف! لا بأس في أن تعتمد الدولة أحكام مستمدة من المذهب الحنفي ولكن بعيدا عن التعصب المذهبي، وإذا كان الإسلام ضمِن لغير المسلمين ممارسة عباداتهم وفق دياناتهم، فلا يصح التضييق على غير الأحناف من المسلمين!
ص 45 – يصف الدولة الاسلامية بالمملكة الاسلامية ووجوب المحافظة على أراضيها : “ومن واجبات الإمام حفظ ثغور المملكة”…وواضح أن هذا نقل عن مصدر قديم، ولكن المصنف لم يذكره. وقد تكرر هذا في أكثر من موضع.
ص 46- “ولا بد للامام من الحفاظ على المملكة من التجزئة”….دون أن يأتي على ذكر خط دوراند الذي قسّم بين المسلمين في الباكستان وافغانستان!
ص 58- مع تعريفه للخلافة بأنها رئاسة عامة للمسلمين، وأنها من أوجب الواجبات التي انشغل بها الصحابة عن دفن الرسول، فإنه لم يأت على ذكر كيف يصبح أمير المؤمنين في أفغانستان خليفة المسلمين!! بل أعرض عن ذلك. كالطبيب الذي يشخص للمريض مرضه ثم لا يمكنه من العلاج اللازم !! وهو يقول ويكرر بأن الله فرض اتباع الشريعة الإسلامية، ولكنه يقفز سريعا عن بحث كيفية تطبيق حكم الخلافة، ويكتفي بذكر أهميته من الناحية النظرية فحسب. حتى أنه لم يعتذر عن ذلك بالقول مثلا أن الظروف حاليا لا تسمح بذلك، مع وجود العزيمة على سلوك الخطوات الموصلة لتحقيق هذه الفريضة. وكذلك فهو لم يقدم التبرير الشرعي لحصر تطبيق قانون الله فقط على الأفغان!
ص 59: يقول ” إننا لا نجد هناك نصا صريحا في تعيين الطريقة التي تثبت بها الإمامة للإمام…لذلك لم يبق إلا استعراض الطرق التي انعقدت بها الإمامة للخلفاء الراشدين، ونحن نعتقد أن هذه الطرق تعد شرعية””، ثم يسرد كيف تم عقد البيعة للخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين.
والصحيح أن الطريقة الشرعية الوحيدة لعقد الخلافة هي البيعة، وقد وردت الأحاديث الصحيحة بذلك، ومنها:

  • «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية» رواه مسلم.
  • وروى مسلم عن أبي حازم قال: قاعدت أبا هريرة خمس سنين فسمعته يُحدّث عن النبي قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر، قالوا فما تأمرنا؟ قال: فُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم».
  • و روى مسلم أن النبي قال: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده، وثمره قلبه فليطعه إن استطاع. فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر».
    فهذه أدلة صريحة على وجوب البيعة للإمام، فالنبيﷺ فرض على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة، ووصف من يموت وليس في عنقه بيعة بأنه مات ميتة جاهلية. والبيعة لا تكون إلا للخليفة ليس غير. وقد أوجب الرسول على كل مسلم أن تكون في عنقه بيعة للخليفة.فالبيعة تكون من قِبَل المسلمين للخليفة، وليست من قِبَل الخليفة للمسلمين، فهم الذين يبايعونه، أي يقيمونه حاكماً عليهم، وما حصل مع الخلفاء الراشدين أنهم إنما أخذوا البيعة من الأُمة، وما صاروا خلفاء إلا بواسطة بيعة الأُمة لهم.
    ص 69:ولاية العهد
    وأما ما نقله عن الماوردي:”وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله فهو مما انعقد الاجماع على جوازه”، فلا يُسلّم به؛
    وقد ذكر أبو يعلى الفراء بأن عهْد الخليفة :” إلى غيره ليس بعقد للإمامة، بدليل أنه لو كان عقداً لها لأفضى ذلك إلى اجتماع إمامين في عصر واحد، وهذا غير جائز” وأوضح أن” الإمامة لا تنعقد للمعهود إليه بنفس العهْد، وإنما تنعقد بعهْد المسلمين”. فعهد أبي بكر لعمر إنما جاء أولا بناء على تفويض من المسلمين لأبي بكر بأن يعهد، وكان عهده إلى عمر هو بمثابة ترشيح له، وإنما انعقدت الإمامة لعمر بعد وفاة أبي بكر ببيعة المسلمين له وليس بموجب عهد أبي بكر. وهذا ما ذهب إليه د. محمد يوسف موسى في كتابه نظام الحكم في الإسلام (71):
    “إن الخليفة يستمد سلطانه أو سيادته من الأمة التي يمثلها، والتي وكلته في القيام بمهما منصبه، وإن عقد الوطالة يقوم على إيجاب من الأصيل ، وقبول من من الوكيل. فإذا وضعنا هذه الحقائق تبين لنا أن تولية الخليفة لا يمكن شرعا و قانونا أن تكون بمجرد عهد الخليفة القائم لأحد بعده،حتى لو قبل منه هذا الأخير، بل لا بد من رضا الأمة بهذا العهد وبيعتها…و لا يكون العهد إلا ترشيحا، لا يكون له أثر إلا بالبيعة العامة…”
    و رأى الدكتور محمود عبدالمجيد الخالدي في كتابه قواعد نظام الحكم في الإسلام (278) “لقد قام الاجماع على جواز الاستخلاف أو العهد، ولكنه لم يقم على إلزام الأمة بالمستخلَف. وعلى هذا فإن الاستخلاف أو العهد مما يجيزه الإسلام على أنه ترشيح من الخليفة السابق لا على أنه عقد للخلافة.. فلا يعتبر الاستخلاف طريقة شرعية لنصب الخليفة، لأن الشرع لم يأمر إلا باتباع طريقة واحدة في نصب رئيس الدولة عن رضا المسلمين واختيارهم بالبيعة من الأمة للمرشح للخلافة، لأن الخلافة عقد بين المسلمين والخليفة، فيشترط في صحة انعقادها بيعة من الأمة وقبول من الشخص الذي بايعوه. والاستخلاف أو العهد لا يتأتى أن يحصل فيه ذلك فلا تنعقد به خلافة، وعلى ذلك فاستخلاف خليفة لخليفة آخر يأتي بعده لا يحصل فيه عقد الخلافة لأنه لا يملك حق عقدها، لأن بيعة خليفة حق للمسلمين لا للخليفة. فالأمة تعقدها لمن تشاء، فالاستخلاف لا يصح، لأنه في حقيقته إعطاء لما لا يملك وإعطاء ما لا يملك لا يجوز شرعا”.
    وذهب الدكتور ظافر القاسمي في كتابه نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي- الحياة الدستورية (206-207) إلى القول:” إننا لا نستطيع أن نوافق الماوردي و أبا يعلى وابن خلدون على أن العهد أمر جائز و مشروع بإجماع الصحابة…و لا ريب عندي في أن سابقة أبي بكر في العهد إلى عمر، على النحو الذي تم فيه العهد، لم تُتبع في أية مرحلة من مراحل التاريخ الإسلامي، وإنما كانت بكر الدهر، لم يعرف لها نظير ولا قرين، والاحتجاج بها على صحة مَن عَهَد بعد لأبي بكر احتجاج غير صحيح…ولا يكفي أن نقول إن أبا بكر قد عهد إلى عمر ليكون جائزا أن يعهد من بعده معاوية إلى يزيد، أو الرشيد إلى الأمين! وإنما يصح الاحتجاج بسابقة أبي بكر لو أن معاوية فَعَلَ مثل فِعلَ أبي بكر وهيهات”.. علما أن ابن خلدون استدرك ما فرط منه بقوله:” وأما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء(كما جرى مع الأمويين والعباسيين والعثمانيين) فليس من المقاصد الدينية”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى