مقالات

الإلحاد وجه آخر للإشراك


عاش الدين صراعا ً مع الإشراك في الماضي وقد حُسمَ بنصر الدين في مواطن مهمة من العالم واليوم يعيش صراعا ً مع الإلحاد لم يحسم بعد في مراكز مهمة أيضاً..
والحقيقة أن الإيمان بالله الواحد قضية فكرية راقية، ما لم يذقها عقل الإنسان فإنه سيتخبط في شَرَكِ الإشراك تارة ً وفوضى الإلحاد تارة ً أخرى…
وبين الاثنين خيوط بشرية (نفسية واجتماعية وفكرية) دقيقة تنبه لها الإسلام فعالجها رحمة ً بالعقل البشري.
إن خط التاريخ المتصل من الأسطورة حتى العلم يجب أن يخضع لسلطان الدين (في المفاهيم طبعا ً) كي يسلم المجتمع من آفاته ويرقى في آفاقه.
المشرك يؤمن بآلهة متعددة: ( يمّ ) إله البحر ، ( بعل ) إله المطر ، وغيرها..
الملحد لا يؤمن بأي إله (على حد زعمه ) .
المشرك تحركه الأساطير والملحد يحركه العلم ( في ما يزعم ) ، فهل بينهما وشائج …؟! وهل الاعتقاد بالتكنولوجيا صورة معاصرة للميثولوجيا ..؟
المؤمن يؤمن بإله واحد أحد لا ندَّ له ولا شريك ، حي صَمَد لا يتركب من أجزاء أو مكونات ، هو الخالق الفعال لما يريد ، القيوم الذي لا يقوم شيء إلا به ، وهو الديان يوم الدين الذي إليه مآل الخلائق جميعا ً ، وهو ذات عالية على المادة والتجسد ، غير متحيز في مكان ، ولا يجري عليه زمان ، بل هو يصيرهما أنى شاء ، خالق كل شيء وليس كمثله شيء ، بعث الأنبياء بالحق وأنزل الوحي وأرسل الرسالات ، وهو السميع البصير والعليم الحكيم واللطيف الخبير .
فالمؤمن في نظر الملحد أرقى من المشرك لأنه وحد الأرباب في إله واحد ، والمؤمن في نظر المشرك أرقى من الملحد لأنه يعتقد بوجود إله على الأقل ، ولكن الإثنين في نظر المؤمن وجهان لعملة واحدة : فالإشراك ضعف طفولي أمام آلهة صماء ثابتة تتحكم به ، والإلحاد تمرد شبابي على آلهة متغيرة هو الذي يتحكم بها ، والرشد هو عدم الإشراك وعدم الإلحاد في آن واحد أي بالنفي والإثبات ( لا إله إلا الله ) .
زعم الملحد أنه لا يعتقد بإله ولكن ما الفرق بين من يخضع ويقدس ( حدد ) إله البرق والرعد ومن يخضع ويقدس ( ثقالة ) إلهة قوى الجاذبية ( ومنها الجاذبية الأرضية ) إن الإيمان الراسخ بهذا الذي يسميه الملحد قانونا ً (ناموسا ً) لهو تقديس وعبادة على الطريقة المعاصرة فهو يؤله ( الضغط ) و ( الحرارة ) مثلا ً ويصلي ( بسلوكه وتصرفاته ) إلى القوانين والدساتير المتفرعة عنهما .. إنه يخشى ( النينو ) ..
يدعو المجتمع إلى طقوس ( علمية وصناعية وبيئية … تجاه ما يخاف ويخشى … إن هذه المسميات : العواصف الشمسية .. الرياح والأعاصير ..التيارات البحرية ..الأشعة فوق البنفسجية … الخ ،وكذلك الليزر… المكرويف … الألترافايوليت … أسماء لآلهة هذا العصر طالما أنها تؤثر وتخيف وتقتضي سلوكا ً معينا ً … وإن كانت خاضعة للقياس والتجريب والتطبيق للاستفادة منها بطريقة شبابية متمردة فيما كانت الآلهة القديمة تصاغ وتصنع وتعمم على يد المشرك أيضا ً للاستفادة منها ولكن بطريقة طفولية على استحياء … فما الفرق بين من عبد بعلا ً .. وقزح .. ويمّ .. وعشتار .. وتموز ..، وبين من يعبد الضغط والحرارة والجاذبية …؟.
أوليست حرية الاعتقاد المزعومة ( من قبل الملحد ) هوىً متبعا .. وقد أشار القرآن ببيانه ( أفمن اتخذ إلهه هواه …) ، يكفي الملحد إشراكا ً أن اتخذ من هواه إلها ً إذ قال له هواه : ( لا إله ) فأطاعه بدون استقصاء وتثبت يستغرقان ِ زمانَ ومكانَ الكون كله … فمن حيث لا يدري فإن هذا الملحد وقع في فوضى الآلهة المزعومة الخاضعة للصيرورة والنسبية إلى ما لانهاية .. وكأن إبليس يحشو رأسه بكل النواميس الكونية ويصده عن ناموس النواميس ، فهل سيأتي من نسل (إبراهيم) عليه السلام ( ابراهيم معاصر) يجادل قائلا ً :
هذه الحرارة مرتفعة جدا ً هذه ربي فلما انخفضت قال لا أحب المنخفضين ، فلما شعر بالضغط قال هذا أقوى هذا ربي فلما خفَّ قال لا أحب الخفيفين …ثم طرحته الجاذبية أرضا ً فقال هذه ربي فلما حلق في الفضاء انهارت ..فقال لا أحب المنهارين .. ثم قال : وجهت وجهي للذي فطر البارامترات الفيزيائية كلها حنيفا ً مسلما ً وما أنا من الملحدين …
ويزعم الملحد تمثله وتمسكه بالعلم بينما يقرر العلم الحديث مبدأ الارتياب و الاحتمال الذي يتعارض مع سيادة الضرورة والحتمية ( راجع مؤلفات فيرنرهايزنبرغ )… مما لا يسمح بقطعية أي قانون كوني فنحن نتوقع ( لا نتنبأ ) ونحن نتحاور مع الطبيعة ( لا نفهمها كما هي في ذاتها ) .. وبما أننا نكتشف ( لا نـُـنـْـشئ ) ، فإن المعارف العلمية الكونية لا تصلح عقيدة إيديولوجية أو أخلاقية ليسير المجتمع وفقها ، وعلم الجسيمات الدقيقة ( الكوانتات والكواركات) وكذلك الأجرام الهائلة ( النجوم والكوازارات) تقتضي وجود معارف ليست مجهولة ( قابلة للعلم ) فحسب بل متعذرة ( على العلم ) أي إذا جاز التعبير ( من علوم الغيب ) .. والعلماء الكبار اليوم يسعون إلى توحيد القوانين لصياغتها في معادلة واحدة كما يفترضون نشوء الكون وظواهره من ظاهرة واحدة هي ( الانفجار الكبير ) .. فيقول عنه ( ستيفن هوكنغ ) الشهير : إن هذا الانفجار (نقطة مفردة) يتعذر دراستها فلا نعرف عنها شيئا ً ففيها نشأ الزمان والمكان ، وهو صاحب نظرية ( الثقوب السوداء ) التي تقتضي وجود جاذبية هائلة تعرج حتى الضوء إليها وأن ثمة مادة نقيضة ( لمادتنا نحن ) فيها يصبح الزمان سالبا ً والماضي مستقبلا ً … أليس كل هذا ( توحيدا ً ضمنيا ً ) ، أليس هذا توحيدا ً لآلهة المفاهيم مقابل الإشراك فيها كما كان توحيد آلهة المشخصات في إله واحد مقابل الإشراك فيها .
إن المؤمن الراقي العلمي يؤمن بكل ما يقدمه العلم الكوني باعتباره عالم أسباب يجب الأخذ به للتقدم في المعرفة والصناعة وسعادة الإنسان ولكنه لا يغفل عن أن الأسباب هذه بيد الحكيم الخبير هو خالقها وفاطرها يجلـّيها مطلقة ً أو نسبية ً، ثابتة ً أو متغيرة ً، معروفة أو مجهولة ً في علم غيبٍ لا نشهده كما نشهدها ، قال تعالى: [ الم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2) الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (3) والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون (4) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون (5) ] سورةالبقرة .

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. الأخ و الصديق و المرشد عزيزنا مهندسنا المؤمن السيد عبد العزيز الحامدي ، ما أحلاك تنورا و تألقا بصقل فكرة و الإعتقاد بوحدة الربوبية المختصة بإلهنا موجدنا بارئنا الله العظيم . أرى أنك وفقت و تميزت بإبراز وجهي الإشراك و الإلحاد و كونهما وجهين لشيء واحد “و هو ضد لا إله إلا الله” . لا ينبغي لهذا التوضيح السديد أن يبقى طي وريقات و مواقع الصفحات الافتراضية فقط بل ينبغي لكل عاقل مؤمن حمل هذه المطرقة الفكرية و كسر كل عقبة توحي لكل نفس مغرورة متسلحة بضلال التقدم و التطور لنشر نور الخالق و بدعته عند كل ما صنع و أنشأ و خلق .

    فعلا العالم محتاج لإبراهيم يقول : وجهت وجهي للذي فطر البارامترات الفيزيائية كلها حنيفا ً مسلما ً وما أنا من الملحدين …

    و بما أننا بشر و ملزمين في الدنيا بالسببية فلنأخذ كما أوردت أسبابنا الفكرية و المادية و الروحية لنشهد وحدانية الله و المطيعين لإرادته و أمره ووو الإقرار بتوحيده .
    أشكرك أستاذنا من كل قلبي و وجداني لكل جهد قدمته في سبيل توضيح و تسهيل التوحيد لجيل الشباب الحائر الضائع جله في غياهب و ضلالات الوسائل الرقمية المعاصرة .

    1. الشكر و كل الشكر لكل من يساهم في رسالة بوست و خاصة لمدير تحريرها في نشر الأفضل و المقنع

    2. اعذرني صديقي وأخي الباشمهندس محمد شباط فالآن حتى قرأت التعليق … دمت سمير أفكاري وجليس أسحاري في العلم والأدب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى