بحوث ودراسات

مصادر الشَّرعيَّة لأنظمة الحُكم في الدُّول الإسلاميَّة 2من 8

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

هل منح الرَّسول مُحمَّد () شرعيَّة سياسيَّة للخلفاء الرَّاشدين؟

يبدأ الكاتب (2012م) دراسته بطرح هذا السؤال، مشيرًا إلى الجدل السَّائد زمن سقوط الخلافة العثمانيَّة عام 1924م، حينما أثير التساؤل حول شرعيَّة الحُكم في الدُّول الإسلاميَّة بعد سقوطها. يشير الكاتب إلى رأي الأزهري، غربي التعليم والنزعة وصاحب الفكر الحداثي المنفتح على الغرب والمطالب بإحياء الفكر الفلسفي في الدِّراسات الإسلاميَّة، عليٌّ عبد الرَّازق، في كتابه الإسلام وأصول الحُكم (1925م)، الَّذي نفى تأسيس النَّبي مُحمَّد (ﷺ) دولة دينيَّة في المدينة المنوَّرة، وإن لم ينفِ ممارسته السِّياسيَّة المحدودة في تطبيقه الزكاة والجهاد. يذكِّرنا هذا الرأي لعبد الرَّازق برأي الحداثي الاشتراكي المحسوب على الفِكر الإسلامي، خالد محمَّد خالد، في كتابه من هُنا نبدأ (1950)، الَّذي ادَّعى نفس الادَّعاء عن الجانب السِّياسي للنبيِّ (ﷺ) خلال سنواته في المدينة. عودةً إلى ما قاله عبد الرَّازق في كاتبه آنف الذِّكر (1925)، فقد رأى أنَّ الخليفة الأوَّل، أبا بكر الصدِّيق، كان مجرَّد ملك، وأنَّ وَحدة الأقطار العربيَّة في زمن الخلفاء لم تكن سياسيَّة. يخالف الكاتب المعاصر خليل عبد الكريم، هو كاتب مصري يساري زعم انتماءه إلى جماعة الإخوان المسلمين وتعبيره عن مزجها الفكر الليبرالي والعدالة الاجتماعيَّة بروح الإسلام، في كتابه قريش من القبيلة إلى الدَّولة المركزيَّة (1997)، الَّذي قال فيه إنَّ دولة النَّبي الكريم كانت دينيَّة، وأن جمع الجزية والخراج إلى السُّلطة الحاكمة في المدينة كان تعبيرًا عن ولاء الشُّعوب إلى تلك الدَّولة وخضوعها إلى سُلطانها. يتَّفق الكاتب مع الرأي الثَّاني، الَّذي وجد أنَّ النَّبي (ﷺ) أزاح عبد الله بن أبيٍّ بن سلول، المدعوم من اليهود، عن مُلك يثرب، وأنَّه أزاح حُكَّامًا عن عروشهم، وعيَّن ولاة من ثقاته مكانهم، بالإضافة إلى تنظيمه الجهاد وجباية الزَّكاة، وفي ذلك مظاهر لممارسة السِّياسة. يبرِّر الكاتب للنبيِّ شرعيَّة الحُكم “اعتباره رسولا، بشرعيَّة دينيَّة مباشرة من الله تعالى الَّذي يأمر المسلمين بطاعته بعد طاعة الله”، ويستند في ذلك إلى قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسول وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسول إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [سورة النِّساء: 59]، وقوله كذلك ﴿ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [سورة النِّساء: 64]، وقوله ﴿إنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاس بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [سورة النِّساء: 105]، وقوله ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [سورة الحشر: 7]  (صـ31).

الشُّورى في دولة النَّبي ()

يستشهد الكاتب بواقعة بيعة العقبة عام 622م، حينما وصل النَّبي الكريم إلى يثرب، وعمد إلى الصُلح بين قبيلتي الأوس والخزرج، وإنهاء الصِّراع التَّاريخي بينهما، الَّذي زكَّاه اليهود، واستفادوا منه بإلهاء العرب عنهم وبيع الأسلحة لهم. يذكر الكاتب أنَّه برغم عدم حصول النَّبي (ﷺ) على أيَّة صلاحيَّات سياسيَّة بموجب تلك البيعة، فإنَّها لا محالة منحته سُلطة الإشراف على سير الأمور في يثرب، والتدخُّل مع الفئة المؤمنة معه في أيِّ صراع حربي تدخل فيه المدينة. وبرغم الشَّرعيَّة الإلهيَّة الَّتي مُنحها النَّبي (ﷺ) بموجب الآيات آنفة الذِّكر في الفصل المطلق في الأحكام الشَّرعيَّة، فالله تعالى قد أمره بتطبيق الشُّورى في تسيير الأمور الدنيويَّة، كما جاء في قول الله تعالى ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ [سورة الشُّورى: 38]، وقوله ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [سورة آل عمران: 159].

السِّلميَّة في الدَّعوة إلى سبيل الله

يتطرَّق الكاتب إلى مسألة السلميَّة في الدَّعوة الإسلاميَّة في مهدها، من خلال عرض الإسلام على الأمم والأمصار، بلا أيِّ إكراه على الدُّخول في الإسلام. لم ينازع النَّبي (ﷺ) ملكًا على مُلكه، كما لم يهدد أيَّ ملك إن لم يستجب إلى دعوته، إنَّما طلب منهم توفير العدالة والأمن لمواطنيهم، وإحقاق الحق، وقبل كلِّ شيء، نبذ الشِّرك بالله تعالى، واتِّباع الهوى في العبادة؛ لأنَّ في الكفر، أي كتْم الحقِّ ونسيان العهد الربَّاني مع بني البشر، المنصوص عليه في الآيتين 172 و173 من سورة الأعراف، هو أساس الزيغ عن طريق الحقِّ، ونشْر الظُّلم، وإفساد ذات البين. جاء النَّبي الكريم لدعوة النَّاس إلى التَّوحيد بالله، ليس إلى معرفته؛ لأنَّ العرب في الجاهليَّة كانوا يعرفون الله، وعبدوا الأصنام في سبيل التَّقرُّب إليه، كما توضح الآية الكريم ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [سورة الزُّمر: 3]، بل وكانوا يحجُّون، ويختتنون. ولم تكن دعوة النَّبي (ﷺ) إلى التَّوحيد واتِّباع سبيل الله، إلَّا لأنَّ في ذلك تنظيم لحياتهم، ونهايَّة لمآسيهم الناجمة عن حُبِّ الدُّنيا ونسيان الدَّار الآخرة، الَّتي هي دار القرار.

أمَّا عن جمع الزكاة وجباية الجزية، فكان ذلك لسدِّ حاجات المسلمين من الفقراء، لتوفير احتياجات أوقات الشدائد والطوارئ من ناحيَّة، ولتطهير الآثمين من الأغنياء من ذنوبهم وتزكيَّة أعمالهم الصَّاحة من محبطات العمل، مصداقًا لقوله تعالى ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [سورة التَّوبة: 103]. رفض النَّبي(ﷺ)، كما يشير الكاتب، تسليم الإمامة لأيِّ قوم من بعده، بما في ذلك قبيلته قريش، ويستشهد الكاتب بحديث ورد في السيرة النَّبوية لابن هشام، يقول “«أتى النَّبي ﷺ بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى الله عز وجل، وعرض عليهم نفسه، فقال رجل منهم يقال له: بحيرة بن فراس: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال لهم رسول الله ﷺ: ‘‘الأمر لله يضعه حيث يشاء’’ فقال له: ‘‘أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك’’.”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى