دين ودنيا

الفجوات التي تردمُها فريضةُ الحَجّ!

أ.د فؤاد البنا

أكاديمي ورئيس منتدى الفكر الإسلامي
عرض مقالات الكاتب


الإسلام دين لا فجوات فيه من أي نوع، والمسلمون أمة واحدة لا فواصل بينها من أي حجم، هذا هو الأصل لكن أفكار كثير من المسلمين وممارساتهم حينما تبتعد عن المنهج النبوي في الفهم والتنزيل والتطبيق، تصنع الكثير من الفجوات، ومن أهم وظائف الحج ردم هذه الفجوات، وفي مقدمة هذه الفجوات:

الأولى: الفجوة المكانية والقومية:
يُقبل الحجيج إلى مكة من كل فجّ عميق في شتى أصقاع الأرض، وينحدرون من قوميات وسلالات مختلفة ويحملون ألوانا وألسنة متعددة، فيتجاوزون البحار ويعبرون المحيطات نحو مقصد واحد، يصعدون الجبال ويتجازون الصحاري لا يلوون على شيء، ويستظل جميعهم تحت راية عالمية الإسلام متمتعين بأخوته السابغة.
إن الحج تجسيد عملي لعالمية هذا الإسلام العظيم والتي تضم في أكْنافها العربيَّ والعجميّ، الأبيضَ والأسْودَ، القريبَ والبعيدَ، ولنتأمّل ملياً قوله تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] لتنبعث هذه المعاني في أرجاء جوانحنا فتمتلئ بمعاني هذا الحج.
وفي أصقاع مكة وأكنافها وفي أنحاء جبل عرفة وسفوحه، تذوب الفوارق وتَضْمحلّ الخصوصيات، ويصبح الجميع كتلة واحدة في المظهر المادي، ويتحقق ذلك في المَخْبَر القلبي على قدْر الاجتهاد السببي والدأب في اسْتَمْطار سحائب التوفيق الرباني.
وفي مكة يطوف الحُجّاج حول كعبة الله بانسجام تام، نابذين الدوران حول أفلاك العصبيات، ويعتلون في عَرَفة تلالَ الأخوة الواحدة، ويَبيتون بمُزدلفة في أحضان الوحدة الجامعة، وفي منى يَرْمون أصنامَ الجاهليات وجمرات العصبيات، ويَقذفون أباليسَ الإغراء والإغواء!
لقد وضَع الإسلام كل عصبيات الجاهلية وهدَم كل دعوات التميُّز، ورفَع الجميعَ إلى هضاب الأخوة وتلال التسامح، ومَدَّ جسور المساواة والتآخي، وحَثَّ على التآزر والتناصر، ودرّب أتباعه على تمزيق أثواب الاستعلاء البغيض، وحثّهم على توسيع عرصات الأخوة الجامعة.
ولاستعلاء القريشيين على قبائل العرب ببعض المظاهر، كالإفاضة من مكان مختلف بحكم أنهم سدَنة الكعبة، فقد حثَّهم الله على أن يفيضوا من حيث أفاض الناس!

الثانية: الفجوة الطبقية:
وما فعله الحج في ردم الفجوة القومية والمكانية فعله في ردم الفجوة الطبقية، فالغنى والفقر لا مكان لهما في ميزان الله، فهو عزّ وجلّ لا ينظر إلى الطبقات ولا إلى الأشكال وإنما إلى القلوب، والملَكان رقيب وعتيد لا ينظران إلى وسامة الوجوه أو قبحها، ولا يلحظان مدى تزيّن الأجسام أو رثاثتها، ولا يهتمان بامتلاء الجيوب أو خوائها، إنما يُسجلان الأعمال سواء كانت حسنة أو قبيحة ويراقبان مدى تجسيدها للتقوى أو الفجور.
ووصل تشدد الإسلام في هذا السياق إلى حد إيجاب الإحرام بقطعة قماش أبيض، ومن دون تخييطها، مع التلفع بها بذات الطريقة؛ حتى لا تظهر الفروق الطبقية في طريقة التخييط أو الارتداء أو في الألوان، وهي دورة تدريبية صارمة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد!

الثالثة: الفجوة الزمانية:
إن الإسلام دين متصل منذ آدم إلى قيام الساعة، ولا يصح لكل أمة أن تبدأ تجاربها من الصفر، بل لا بد أن تتعرف على خبرات من سبقها وتبني عليها، ومن هنا وجدنا أن طقوس الحج تستدعي الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل وزوجه هاجر من أعماق التاريخ البعيد إلى زماننا، من أجل العيش في بعض ظروفهم، كما في السعي بين الصفا والمروة وفي رمي الجمرات بمنى، بهدف استنباط الدروس العملية من حياتهم بطريقة عملية.
وأخبرنا القرآن الكريم بأن الخليل إبراهيم قد دعا ربَّه بأن يجعله مستجاب الدعوة، ودعا مع فلْذة كَبِدِه إسماعيل بأن يجعل من ذرّيّتهما أمةً مسلمة، وأن يُريَهم مناسكَهم ويتوب عليهم، وأن يبعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم الآيات ويُعلّمهم منهج القراءة (الكتاب) ومنهج التنزيل على الوقائع (الحكمة)، قال تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيم. رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة : 128 – 129]ولا بد أن الله قد استجاب الدعاء؛ إذ بنى إبراهيم الكعبة ثم بنى الأقصى الذي ظل قبلة الأنبياء طيلة ردْح من الزمن، ثم استدار الزمانُ كهيئته أول مرة معيداً المسجد الحرام إلى الصدارة، فصار قبلةَ الأمة والملّة إلى قيام الساعة، إذ فُرض على المسلمين الصلاة نَحْوَه ودُعُوا للحجّ إليه، وذلك بغرض تخليد الرسالة الحنيفية الممتدة وربط الأجيال المتتابعة ببعضها، وتذكير المؤمنين بأن دينهم واحد ولو تنوّعت الشرائع وبأن الأزمنة متصلة ولو اختلفت الظروف وتغيّرت الوقائع، مما يفيض عليهم بقيم التسامح ويدفعهم للنّهْل من أنهار العِبَر والدروس!

الرابعة: الفجوة القيمية:
فمن علل التدين السابق التي انتقلت إلى بعض المسلمين، الفصل بين الدنيا والآخرة، ويسهم الحج في تجسير الفجوة بين الدنيا والآخرة من خلال التأكيد على أن الحج موسم لحصد المنافع المادية والمعنوية، قال تعالى: {لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28]،
ولا شك بأن المنافع هنا متعددة، فمنها ما تخص المعاش ومنها ما تخصّ المعاد، ومن ذلك طلب الرزق حيث أجمع العلماء على جواز التجارة في موسم الحج، مستدلين بالآية السابقة، وبقوله تعالى:{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْۚ} [البقرة: 198].
وفي سياق التوجيه للاستعداد لموسم الحج قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ} [البقرة: 197]، والأمر بالتزود في الآية يختص بالزاد المادي، وبذلك يتعانق الزادان المادي والمعنوي، وتتعاون حاجات الجسم ومطالب الروح في بناء الشخصية المتوازنة التي تستعمر الأرض وهي تتطلّع نحو السماء، والتي تُبَسْتِنُ الدنيا وهي تَسْتَشْرف الأخرى وتستشوف الفردوس السماوي!
ولوضوح هذا الأمر في بال النبي ﷺ فقد كان يدمج بين الدنيا والآخرة في أدعيته حتى أثناء الحج، إذ كان أكثر ما يدعو بالدعاء القرآني: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].

الخامسة: الفجوة العبادية:
ظل أتباع الأديان السابقة يُحرفون مللهم ويبدلون أديانهم؛ حتى جعلوها أديانا لاهوتية تهتم بإقامة بعض الأواصر بين الله وعبيده ولا شأن لها بالناس، ولأن علل المتدينين السابقين قد سرت إلى المسلمين باستثناء تحريف القرآن الكريم، بسبب تعهد الله بحفظه؛ فقد ظهر انفصام كبير في صرح العبودية الشامخ، بحيث وجدنا مسلمين كثيرين ينفعلون إذا انتهك أبسط حق لله لكنهم قد يمارسون بأنفسهم انتهاكات فظيعة لحقوق الناس دون أن تهتز لأحدهم شعرة!
ومن هنا فقد كانت إحدى مقاصد الحج تجسير الفجوة بين شقي العبودية لله.
وكم من آيات وأحاديث أبانت عظمة الكعبة المشرفة حتى أنها سميت بالبيت الحرام، وأعطيت من الفضائل والمكارم ما لم يُعط لأي مكان أو مبنى في الأرض بل في الكون كله، لكن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حرمة المسلم أشد من حرمة الكعبة المشرفة، واعتبر بأن هدم الكعبة حجراً حجراً أهون على الله من إراقة دم مسلم!
وفي هذا الشأن روى ابن ماجة أن رسول الله وقف أمام الكعبة وقال: “ما أطيبك وأطيب ريحك، وما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك: ماله ودمه وعرضه”!
ومن منافع الحج في هذا الشأن، تدريب الحجاج عمليا على تجسيد حقوق الإنسان وتعظيم النيل من أي منها؛ أموالاً ودماء وأعراضا، حيث لا بد من الحساسية الشديدة نحو حقوق الآخرين، والانشغال بالذات تخلية وتحلية، بمعالجة عيوب النفس ومحاسبتها عليها، والإقلاع عنها، والاتصال بالله لطلب المدد المحقق للنصر المؤزر على النفس الأمّارة بالسوء، حتى يتحقق الحج المبرور، ويعود الحاج كيوم ولدته أمه.
ومن تأمل معاني الحج المبرور وجد أنه هو الذي يجعل صاحبه أكثر تعظيما لحقوق الله وحقوق الناس مما كان قبل الحج.
وقد حرّم النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الإطار على الأقوياء مزاحمة الضعفاء عند استلام الحجر الأسود، كما فعل مع عمر بن الخطاب، وحرّم التزاحم عند رمي الجمار، وكذا في سائر المناسك.
وفي ذات السياق حرّم بعض العلماء على الأمراء والأغنياء الحج في مواسم الكوارث وانتشار الفقر، وأوجبوا عليهم دفع الأموال للفقراء والمحتاجين، وحرّموا الحجّ على المصاب بأمراض معدية، حتى لا تنتقل العدوى إلى المسلمين، كما فعل الفاروق عمر مع المرأة المجذومة.

السادسة: الفجوة الغيبية:
هناك أناس تأسرهم المادة ويعجز خيالهم، فضلا عن إيمانهم، عن استيعاب عالم ما وراء المادة؛ فيأتي الحج ليساعد من أراد منهم في تحطيم الحجب التي منعتهم من رؤية عالم الغيب؛ من خلال ممارسة بعض الطقوس التي تردم الفجوة بين عالمي الغيب والشهادة، كالطواف حول الكعبة التي هي بيت الله الذي هو أكبر حقائق عالم الغيب، أما رمي الجمرات فهو تجسيد للشيطان وهو كائن غيبي ويمثل النقيض لله رمز الخير والحب والجمال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى