مقالات

إلغاء “حق الإجهاض” يجدّد الجدل حول المحكمة العليا الأمريكية-3.. فضائح صنم ديمقراطية الأكثرية

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب

استند حكم المحكمة العليا بإلغاء حق الإجهاض على فكرة أن الدستور الأمريكي لم يتضمن صراحة “حق الخصوصية الشخصية” Privacy Right ، وبالتالي ليس للمحكمة البت في هذه المسألة، كما حصل في حكم “رو ضد ويد” (1973)، فأعادت المحكمة الأمر إلى مشرعي الولايات المحلية للبت فيه.

ومن المعروف في أمريكا أن هناك جدالات متكررة حول “حدود” الصلاحيات التشريعية بين الولايات وبين المحكمة الدستورية الفيدرالية.

في هذا السياق نذكر الخلاف الشهير الذي وقع في الانتخابات الرئاسية سنة 2000 والتي شهدت نزاعا علنيا بين المرشحين جورج بوش الابن و آل غور، وقد وصل الفارق بينهما في ولاية فلوريدا على 327 صوتا من بين ستة ملايين ناخب، وكان مصير الانتخابات الرئاسية تعتمد على الفائز بأصوات فلوريدا التي كان حاكمها في حينه جيب بوش أخو جورج بوش، وبالتالي دارت شكوك قوية حول وجود تلاعب في فرز الأصوات لصالح أخيه، فطالب فريق آل غور من المحكمة العليا لولاية فلوريدا الأمر بإعادة فرز الأصوات للتأكد من صحته فحكمت له بذلك، إلا إن فريق جورج بوش سارع إلى المحكمة العليا الفيدرالية للمطالبة باإلغاء حكم المحكمة العليا لولاية فلوريدا، وهذا ما حصل فعلا فقد حكمت المحكمة العليا الفيدرالية، بغالبية 5-4 من أصوات القضاة، بعدم “دستورية” حكم المحكمة العليا لولاية فلوريدا، هذا الحكم أدى إلى ترجيح كفة جورج بوش فصار رئيسا لأمريكا.

مع أن 4 من أعضاء المحكمة فندوا “دستورية” وبشكل صاخب تدخل المحكمة الفيدرالية في صلاحية المحكمة العليا للولاية في أمر الانتخابات ، ولكن قضي الأمر كما أراده أنصار بوش، وانتهى الأمر ب آل غور بالإقرار بخسارة الانتخابات بمرارة.

يومها قال أستاذ القانون الدستوري في جامعة كاليفورينا في لوس أنجلوس، بأن “علينا ألا نتعمق كثيرا في جدالات القضاة كيلا ننتهي إلى اكتشاف الحقيقة المرة بأن من يرتدي ثوب القاضي هو بمثابة كاهن الكنيسة”، مشيرا بذلك إلى الحكمة الشائعة لدى أنصار الكنيسة في أمريكا بتقبل ما يقوله الكاهن دون جدل أو مناقشة على مبدأ الإيمان الذي يفرض التسليم.

في محاججته القانونية لقرار المحكمة الأخير( حق الاجهاض) رأى القاضي توماس كليرنس، مستندا إلى قرار المحكمة بأن الدستور لا يتضمن حق الشخصية، بأن على المحكمة واجب تصحيح خطأ القرارات السابقة ذات الصلة أي المتفرعة عن “سابقة حكم ” رو ضد ويد”، أي الأحكام التي صدرت وأباحت الحق في زواج الشاذين وما يتعلق بذلك ومنها حكم إباحة حبوب منع الحمل، الذي أصدرته المحكمة العليا في 1965 واستندت عليه كسابقة قانونية في حكمها “رو ضد ويد” في 1973.

دعوة القاضي كليرنس، وهو المعروف بدعوته لتصحيح أحكام المحكمة الخاطئة السابقة، أثارت سخطا عارما في أوساط أنصار الشذوذ؛ وحذّر بعضهم من خطورة الأمر والخشية من أن تعيد المحكمة النظر في قرارها الصادر في 2003 الذي نقضت فيه حكمها السابق ، في 1986، بتجريم الشذوذ الجنسي، و قرارها الصادر في 2015 الذي نقضت قراراها في 1972 القاضي بعدم شرعية زواج الشاذين.

وبحسب مكتبة الكونغرس فقد أحصت ، في الفترة ما بين1810 و 2020، 232 قراراً للمحكمة العليا نقضت فيها قراراتها السابقة وذلك في مسائل عديدة، وغالبا ما يتم القرار وفق أغلبية الأصوات (5-4).

وليس غريبا، لمن يتابع مداولات المحكمة العليا، أن يجد أن القاضي نفسه ينقلب على رأيه السابق في المسألة ذاتها( مثال على ذلك موقف رئيس المحكمة العليا القاضي جون روبرتس في قضية تكساس ضد مور Moore، فقد حكم لصالح مور في 2019 بينما كان حكم ضده في 2017).

وفي السوابق القضائية فكثيرا ما تصدر المحكمة قراراتها بغلبة الأصوات 5-4، بمعنى تأرجح صوت كفيل بقلب الكفة لصالح الراي المعارض.
ولكن ما لا يعرفه كثير من الناس أنه على إثر إنقلاب “ميزان” الأكثرية من كفة إلى أخرى فإن الأكثرية الجديدة تقوم بإعادة النظر في قرارات سابقة فتنقضها دون الإعلان عنها للعامة.

هذه المواقف أثارت عاصفة من الردود والمواقف المعارضة والمشككة في حكمة المحكمة العليا، ومنها من دعا الى التمرد ضد المحكمة، ومنها من وجد أن قرارات المحكمة تشكل تهديدا للديمقراطية الأمريكية، ومنها من قال، إن “طالبان المحكمة العليا يريدون فرض الشريعة المسيحية على الشعب”، ومنها من وصف المحكمة بأنها شبيهة بالنازيين إذ تخدم أجندة الفريق المحافظ، فكيف لستة رجال غير منتخبين أن يخالفوا رغبات الشعب الذي انتخب المجالس التشريعية سواء المحلية في الولايات أو في الكونغرس الفيدرالي، فحين يشرع المجلس التشريعي في الولاية قانونا فهذا يصدر باسم الناخبين ويعبر عن إرادتهم، بخلاف القضاة الذين يضعون أنفسهم مكان الرب فيشرعون كما يشاؤون، متحكمين بذلك في مصائر الشعب.

وما زاد في سخط المعترضين على القرار الأخير هو واقع أن الحزب الجمهوري عبر الرئيس ترامب استغل صلاحياته الرئاسية لتعيين ثلاثة قضاة محافظين لم يترددوا، للحصول على تصديق مجلس الشيوخ لترشيحاتهم بالمرواغة في الاجابة على السئلة حول حق الإجهاض بل أجابوا أن هذا حق مقرر وهو القانون فهو مسألة منتهية مبتوتة وهم، كل منهم بدوره، يحترمونه!
أضف إلى ذلك وجود اتهامات) بما في ذلك اعتداءات جنسية وتلقي دفعات مالية تحت غطاء رقيق كالمشاركة في أنشطة) وشبهات قوية ضد الصلات الوثيقة بين القضاة المحافظين وبين الحزب الجمهوري) وآخر ذلك التحقيق في دور زوجة القاضي كليرنس بتحريض أنصار ترامب على إسقاط نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة)، تجعل المعترضين على القرار يتهمونهم بتنفيذ أجندة الحزب الجمهوري وجمهوره من المتدينين، إلى حد تصريح البعض من المعترضين بأنهم سيحملون السلاح في وجه “دعشنة” النظام السياسي_القضائي.!

و هذا يؤكد صحة ما حذرت منه القاضية، عضو المحكمة العليا، سونيا سوتومايور بأن هذا القرار يضرب مصداقية المحكمة أمام الشعب! فإنحياز المحكمة لفريق سياسي (الحزب الجمهوري) يضرب مصداقيتها وهي التي كانت تعتبر الملاذ الأخير العادل و المنصف للبت في القضايا الخلافية، أما الأن فقد اصبحت أداة بيد طرف سياسي ضد طرف آخر، فلم تعد المرجع الصالح صاحب القول الفصل بنزاهة وعدالة.

وهذا ما عبّر عنه العديد من الكتاب والمعلقين، منهم بيتر كوي في جريدة نيويورك تايمز الذي استند الى موقف الاستاذ في القانون دانيال إبس في جامعة واشنطن- سان لويس-ميزوري، إذ قال:” تعتمد مشروعية المحكمة العليا على تقبل الرأي العام لقراراتها وخضوع الناس لحكمها، ومتى فقدت هذه المشروعية فلا قيمة لحكم المحكمة، وهذا يشكل تهديدا مصيريا لوحدة المجتمع الأمريكي”.
أما نوح فيلدمان، استاذ القانون في جامعة هارفرد، فقد رأى أن القرار الأخير يشكل “نهاية الحكم القانون الدستوري” و أنه “كارثة لكل الأمريكيين، ولكل الشعوب في العالم التي أقامت محاكمها الدستورية على أساس النموذج الأمريكي. اليوم انتصر طغيان الأكثرية”.

نعم هذا هو صنم “ديمقراطية الأكثرية” الذي يتقلب مع أهوائهم فيميل كبار الكهنة مع أهوائهم ورغباتهم فيحرّمون اليوم ما أباحوه بالأمس، بل وينقلب أحدهم على نفسه فيناقض نفسه دون وجل فهو صاحب القول الفصل وما على العبيد الصم البكم إلا حرق بخور الطاعة لعجلهم الذي صنعوه بأيديهم.

و هذا شبيه بصنيع أهل الجاهلية كما نقل الحافظ ابن حجر في الفتح عن القرطبي قوله ” إن أهل الجاهلية كانوا يعملون الأصنام من كل شيء حتى أن بعضهم عمل صنمه من عجوة (تمر) ثم جاع فأكله”!

ثم تجد من بين قومنا، ممن هم محسوبون على الإسلام والمسلمين ويرددون لفظ التوحيد صباح مساء ومنهم مشايخ ومدعي العلم، ينعقون بجمال حضارة العم سام وتمثال الحرية في نيويورك، ويدعون إلى دولة ديمقراطية تقوم على المرجعية الإسلامية أي “خمر إسلامي”!

اللهم اهد قومي فإنهم (لا) يعلمون!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى