بحوث ودراسات

مصادر الشَّرعيَّة لأنظمة الحُكم في الدُّول الإسلاميَّة 1من 8

د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

أكاديمي مصري.
عرض مقالات الكاتب

يستعرض هذا القسم أهمَّ ما جاء في دراسة بعنوان الشَّرعيَّة الدُّستوريَّة في الأنظمة السِّياسة الإسلاميَّة المعاصرة: دراسة مقارنة بين المملكة العربيَّة السَّعوديَّة والجمهوريَّة الإسلاميَّة الإيرانيَّة (2012م) للباحث العراقي الشِّيعي أحمد الكاتب، والَّذي نلقي الضَّوء على نشأته وتكوينه الفكري في البدايَّة.

سيرة أحمد الكاتب

هو باحث عراقي شيعي وُلد عام 1953م، من أتباع الفرقة الإماميَّة الاثني عشريَّة، اسمه الحقيقي عبد الرَّسول عبد الزُّهرة الأسدي. نشأ الكاتب في كربلاء، وتربَّى في حوزاتها العلميَّة، ثمَّ انتقل إلى إيران بعد الثَّورة الخمينيَّة، وتأثَّر بنظريَّة ولاية الفقيه، وشرع في ترويجها. تراجع الكاتب عن موقفه تجاه النظريَّة بعد حرب العراق وإيران، حيث آثر العودة إلى بلاده، وعمل على إعادة قراءة النظريَّة، الَّتي نقضها فيما بعد في دراساته، بعد أن وجد أنَّ النِّظام الخميني شكَّل بولاية الفقيه انقلابًا على التقيَّة ونظريَّة الانتظار في غيبة الإمام الثَّاني عشر، المهدي.

تربَّى الكاتب على أقاصيص كانت أمُّه تتلوها عليه، عن معجزات الإمام المهدي، وظهوره للمخلصين من أتباعه، وإنقاذه المبتلين منهم، خاصَّة قصَّة نجدته لشيعة البحرين، لمَّا تعرَّضوا إلى محنة قاسيَّة على يد أحد حُكَّامهم. التحق الكاتب بمدرسة دينيَّة بالكامل، تدرِّس القرآن الكريم، والتفسير، والفقه الإسلامي، والحساب. وبعد سماع خُطبة للإمام كاظم القزويني، نصح فيها بإعداد أحد أبناء جيل الدَّارسين لنشر الدَّعوة في الغرب، عزم الكاتب على أن يسلك هذا المسلك مستقبلًا. بالفعل، انتقل الكاتب إلى لندن في تسعينات القرن الماضي، ولكن بعد تجربة غنيَّة قضاها في دراسة نظريَّة الإمامة الإلهيَّة، والفرضيَّات المرتبطة بها، وعلى رأسها الإماميَّة الاثني عشريَّة، وغيبة الإمام المهدي، والتقيَّة والانتظار، ثمَّ النِّيابة العامَّة عن الإمام، وأخيرًا ولاية الفقيه. وجد الكاتب تناقضًا جليًّا في مراحل تطوُّر نظريَّة الإمامة، علاوة على صعوبة إثباتها بأدلَّة تاريخيَّة وعقليَّة لا تقبل الجدال. وبعد تهرُّب ملالي الحوزات العلميَّة في العراق من الردِّ على نقده النظريَّة في كتابه تطوُّر الفكر الشِّيعي من الشُّورى إلى ولاية الفقيه، استقرَّ في ذهن الكاتب أنَّ هذه النظريَّة سببٌ في تكريس الدِّيكتاتوريَّة باسم الدِّين.

الشَّرعيَّة الدُّستوريَّة في السَّعوديَّة وإيران

قدَّم الكاتب هذه الدِّراسة (2012م) باعتبارها أطروحة لنيل درجة الدُّكتوراه من King’s College-كليَّة الملك في بريطانيا خلال العام الدِّراسي 2009-2010م، معبِّرًا عن امتنانه للدكتورة مضاوي الرَّشيد، المعارضة السَّعوديَّة وأستاذة علم الأنثروبولوجيا الدِّيني، في قسم اللاهوت والدِّراسات الدِّينيَّة بكليَّة الملوك بجامعة لندن، وهي ابنة طلال بن محمد بن طلال الرشيد الشمَّري، أي حفيدة آخر حُكَّام سلالة آل رشيد، الَّتي حكمت منطقة حائل في جزيرة العرب في عهد الدَّولة العثمانيَّة، ما بين عامي 1830 و1921م. كان موضوع الرِّسالة، وهو المقارنة بين الشَّرعيَّة الدُّستوريَّة للنظام الحاكم في كلٍّ من السَّعوديَّة وإيران، من ترشيح الرَّشيد، الَّتي أشرفت على كتابة جزء من الرِّسالة، على اعتبار أنَّ البلدين المتعاديتين تستند كلٌّ منهما إلى شرعيَّة دينيَّة، تستمدُّها السَّعوديَّة من المذهب الوهَّابي، بينما تستند إيران في تلك الشَّرعيَّة إلى عقيدة الإماميَّة الاثني عشريَّة.

يبدأ الكاتب دراسته بالإشارة إلى اندلاع ثورات ‘‘الرَّبيع العربي’’ خلال فترة إعداده رسالته العلميَّة، ملفتًا النظر إلى تبلوُر النَّزعة الطائفيَّة في الخطاب الموجَّه من الفرق المشاركة في الثَّورات، وسعي السُّنَّة إلى السَّيطرة على النِّظام الشِّيعي، والعكس، ومعتبرًا أنَّ في علو الصيحات المطالبة بالغلبة لفريق طائفي على حساب الآخر تنافٍ صريح مع قيم الدِّيموقراطيَّة. يتعقَّب الكاتب أصل الخلاف العقائدي بين السُّنَّة والشِّيعة، ليجد أنَّ الخلاف الأساسي يتعلَّق بـ “الإمامة وشروط الإمامة”، حيث رأى البعض أنَّ الخلافة والإمامة من حقِّ أي إنسان، بينما حصرهما آخرون في قبيلة قريش وحدها (صـ8). سبقت الإشارة بالتفصيل إلى رأي الإماميَّة الاثني عشريَّة في مواصفات الإمام، وهي، باختصار، الوصيَّة والنَّص، والانتماء إلى آل النَّبي الكريم (عليه وعلى سائر أنبياء الله ورُسُله أزكى الصلوات وأتم التسليم)، وتحديدًا من ذريَّة الحسين بن عليٍّ، والعصمة. وسبق كذلك إيضاح كيفيَّة انسلاخ أتباع الإماميَّة الاثني عشريَّة من تلك العقيدة بالتدريج، وإفلاتهم من قيودها بالإفتاء بجواز تأسيس نظام سياسي يترأَّسه نائب للإمام الغائب، يتَّصف الفقاهة والعدالة، ويتمتَّع بكافَّة ما للرسول مُحمَّد (ﷺ) والأئمة من آل بيته من صلاحيَّات.

بدأ الكاتب دراسته قبل اندلاع الرَّبيع العربي بعامين تقريبًا، وقد يبدو موضوعها بعيدًا عن ثورة الشُّعوب العربيَّة، ولكنَّه وثيق الصلة به؛ لأنَّ أكثر ما يعيق التطوُّر الدُّستوري الدِّيموقراطي في عالمنا الإسلامي، كما يشير الكاتب، هو الشَّرعيَّة الدِّينيَّة الَّتي تستند إليها الأنظمة الحاكمة، لأنَّها ترسِّخ للاستبداد وتقمع الحريَّات والمشاركة الشَّعبيَّة في صُنع القرار. يعيد رأي الكاتب هذا إلى الأذهان رأي العديد من المفكِّرين، أصحاب الدِّراسات المشار إليها عن صراع الحداثة الغربيَّة مع العالم الإسلامي، ممن رأوا أنَّ الأنظمة الحاكمة ترفض التَّحديث والتمدُّن؛ لأنَّ في ذلك انكشافًا لعورتها، الَّتي تسترها بغطاء شرعي تضفيه المؤسسات الدِّينيَّة. وسبق للكاتب أن اتَّهم الحوزات العلميَّة الشِّيعية، في كتبيه تطوُّر الفكر السِّياسي الشِّيعي (1998) و‘‘محمَّد بن الحسن العسكري’’: حقيقة تاريخيَّة أم فرضيَّة فلسفيَّة؟ (2008)، بمنح الشَّرعيَّة للحُكم الاستبدادي، من خلال تأويل النظريَّات العقائديَّة بحسب الأهواء والمصالح، واعتبر أنَّ في ذلك تكرارًا لنظام باباوات الفاتيكان في الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة.

يعرِّف الكاتب الشَّرعيَّة الدُّستوريَّة بأنَّها “حُكم الشَّعب والحريَّة لجميع أفراده، والعدالة والمساواة، وعدم تقديس الحاكم أو إضفاء طابع ديني على نظام الحُكم”، أي أنَّها تخالف الفكر الطائفي، القائم على الاستحواذ على السُّلطة ودحر المعارضة من ناحيَّة، والاستئثار بالسَّبيل إلى الجنَّة في الآخرة، وهو ما ينادي الكاتب بتجاوزه في سبيل تأسيس نظام ديموقراطي عادل، مع اتِّخاذ التمثيل الشَّعبي في الحُكم الدُّستوري وتقليص صلاحيَّات الحاكم أسسًا لذلك النِّظام (صـ10). يعيد الكاتب ما سبق وأن أشار إليه في مؤلَّفه آنف الذِّكر، وهو تاريخ الحُكم الإسلامي من بعد النَّبي الكريم، وحتَّى نهايَّة زمن الخلافة الرَّاشدة، ويجدد اتَّهامه لمعاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه) باغتصاب الإمامة من البيت النَّبوي، بانتزاع الخلافة من الحسن بن عليٍّ. ويرى الكاتب أنَّ منذ ذلك الحين، نشأ مفهوم جديد للحُكم الإسلامي، يتَّخذ من الشَّرعيَّة الدِّينيَّة ساترًا ظاهرًا، بينما يبطن الظُّلم والقمع والفساد، حيث تمنح الشَّرعيَّة الدِّينيَّة للحاكم سُلطة قمع المعارضة وتجريم الخروج عليه. وبعد سقوط الدَّولة العثمانيَّة، “آخر دولة ‘‘خلافة إسلاميَّة’’ تتمتع بالشَّرعيَّة الدِّينيَّة”، اجتهد الحُكَّام في إيجاد سَنَد شرعي شكلي لهم، لكنَّ هذا لم يفلح، لا في ستر العيوب، ولا في منح الشُّعوب الحقوق المرضيَّة.

يتطرَّق الكاتب بعد ذلك إلى مسألة تأسيس أنظمة حاكمة على أساس ديني في السَّعوديَّة وإيران وأفغانستان، معتبرًا أنَّ تلك الأنظمة اتَّخذت من الدِّين واجهة لها لتبرير الاستبداد، وكأنَّ الحُكم الدِّيني ينسجم مع الدكتاتوريَّة ويشرعنها. ويضرب الكاتب المثل بالنِّظام الحاكم في السَّعوديَّة، الَّذي تأسس، على حدِّ تعبيره، على “القوَّة العسكريَّة واحتلال المناطق المختلفة”، لكنَّه استغلَّ المؤسَّسة الوهابيَّة في نشر دعايَّة عن استناده إلى الشَّريعة الإسلاميَّة، وتطبيقه الحدود (صـ13). ولا يختلف الوضع في إيران عن ذلك، حيث يسيطر المرجعيَّات الشِّيعية على مقاليد الحُكم، بفضل نظريَّة ولاية الفقيه، الَّتي أكسبتهم “هالة مقدَّسة وصلاحيَّات مُطلقة” (صـ13). ويضع الكاتب يده على موطن الخلل، وهو، كما يظنُّ، الاعتقاد بأنَّ النِّظام الإسلامي وحده هو مانح الشَّرعيَّة، وأنَّ الدُّستور السماوي هو المرجعيَّة في ذلك، وليس الدَّساتير الوضعيَّة؛ لأنَّ الله هو المانح الفعلي للشرعيَّة، وليس الشَّعب. أمَّا عن سبب اختيار نظامي الحُكم في كلٍّ من المملكة السَّعوديَّة والجمهوريَّة الإيرانيَّة نموذجين للبحث؛ هو أوَّلًا، لتمثيلهما النِّظامين للمذهبين الإسلاميين الأكثر شيوعًا، وهما المذهب السُّنِّي والمذهب الشِّيعي، وثانيًا، لاشتراكهما في الحُكم المُطلق، المحاط بصبغة دينيَّة؛ وثالثًا، لتعبيرهما عن تطوُّر، يعتبره الكاتب سلبيًا، للنظريَّة الدِّينيَّة المُستند إليها في الحُكم، حيث زعمت السَّعوديَّة تأسُّسها على مبادئ إسلاميَّة تحترم الشورى، بينما أسست حُكما وراثيًّا في نظام يسيطر عليه فئة الحُكَّام بالكامل، وكذلك ادَّعت نظريَّة الغيبة اعتزال السِّياسة وعدم جواز الإمامة في زمن الانتظار، لتنقلب على ذلك بتأسيس نظام حُكم ديني يخضع تحت السَّيطرة الكاملة لفئة المرجعيَّات الشِّيعية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى