مقالات

حرب أوكرانيا.. الصين أكبر المستفيدين

د. ياسر محجوب الحسين

صحفي ومحلل سياسي
عرض مقالات الكاتب

فيما تتعاظم خسائر الشرق والغرب جراء الحرب المستعرة في أوكرانيا، هناك مستفيد يبدو في حالة كمون وترقب يوزع الابتسامات الماكرة هنا وهناك، وإن رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم. ليست الحرب في أوكرانيا نزهةً وحرباً خاطفةً حاسمةً، تستعيد بها روسيا توازناً مع الغرب ترى أنه اختل ولابد من إعادة الأمور إلى نصابها، أو أنها كرة تصد بها الولايات المتحدة وصويحباتها الأوروبيات هجمة روسيا على أوكرانيا وترد بها الصاع إلى روسيا صاعين. لكن الأمر يبدو حرب استنزاف عسكري واقتصادي طويلة لا يعلم مداها الزمني ولا مآل حجم خسائر أطرافها المتورطة فيها. فهذه الحرب المشتعل أوارها، قائمة على نسق مفهوم الحروب التقليدية المكلفة، إذ أن القوة العسكرية هي المعيار الأبرز لقوة الدول حتى وقت قريب. بيد أن الصين ذلكم العملاق الماكر مكرا تهابه الثعالب، قد جاءت بنموذج مختلف في الصراع الدولي لا يعطي اعتبارا للقوة العسكرية التقليدية.فبينما هناك 800 قاعدة عسكرية أميركية تنتشر في 70 دولة بها 200 ألف جندي، نجد أن للصين فقط قاعدة وحيدة أقامتها في جيبوتي في2017، وكانت أول قاعدة عسكرية خارج حدودها.
الصين وفي صمت جعلت من الاقتصاد رافعة لتقدمها والاقتراب من موقع القوة العظمى، مع ابداء عناية من نوع خاص لمعطى. ومنذ العام 2016أعلن صندوق النقد الدولي أن حجم اقتصاد الصين قد تجاوز نظيره الأمريكي من حيث تعادل القوة الشرائية، بل أن العديد من المؤسسات البحثية الدولية رأت أن الاقتصاد الصيني أصبح عملياً ومنذ العام 2010، الأول في العالم وهذا ما أكده الباحث الاقتصادي أرفيند سوبرامانيان من معهد برينستون الأمريكي في حين اعتبرت دراسة أجراها آنذاك الخبير الاقتصادي في جامعة كاليفورنيا روبرت فينسترا أن الزعامة الاقتصادية العالمية ستنتقل إلى الصين في العام 2014م.
ظلت الولايات المتحدة تشعر بالخوف، وربما بالغيرة تجاه الصين منذ أن بدت ماردا اقتصادياً يخطو بسرة فائقة نحو القمة. ولعل الغيرة الأمريكية تبدت في حديث المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما أهم مفكري المحافظين الجدد، الذي سبق أن قال بأن النظام الصيني سينهار بسبب فقدان قنوات الاتصال بين قمة الهرم السياسي والقاعدة الجماهيرية.ورأى مؤلف كتاب (نهاية التاريخ والرجل الأخير) منذ نحو عقد من الزمان أن الصين دولة مركزية قوية تاريخياً استطاعت أن تقود نمواً اقتصاديا مستمرا، ويعود لها الفضل باداء رائع في السنوات الثلاثين الماضية، لكن غياب آليات المحاسبة تجعل البلاد معرضة لما أسماه “مشكلة الامبراطور السيء”. ومن المفارقات أنه في ذات الفترةحافظت الصين على مرتبة السوق الأكثر جذبا للإستثمارات المباشرة في العالم، حيث وصل حجم السوق آنذاك إلى 111.7 مليار دولار. ووفقا دراسة أمريكية حديثة نشرها مركز بلفور للعلوم والشؤون الدولية بجامعة هارفارد الأمريكية هذا العام، فقد تفوقت الصين في عدة مجالات؛ حيث أصبحت ورشة التصنيع الأولى في العالم، كما أنها الشريك الاقتصادي الأول لمعظم الدول في العالم، وهي أيضا الحلقة الأكثر أهمية في سلاسل التوريد العالمية الحيوية في العالم، وكذلك هي موطن العدد الأكبر من الشركات العالمية الأكثر قيمة.
وهكذا رضي من رضي وأبى من أبى فإن الصين نجحت في أن تتحول من دولة معزولة وتوشك أن تصبح قطبا حقيقياً بذاتها. وحسب الدراسة المشار إليها، فإن الولايات المتحدة التي ظلت الاقتصاد الرائد عالميا منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، غير أنها باتت اليوم تواجه منافسا جديًا وهو الصين، التي نجحت في سد الفجوة مع الولايات المتحدة في معظم السباقات الاقتصادية، بل وتجاوزتها في البعض الآخر. وأقرت الدراسة بأن النمو الاقتصادي للصين بلغ 4 أضعاف مثيله في الولايات المتحدة على مدى العقود الأربعة الماضية. وبلغعددالسكانفي 2020 نحو 1.4 مليار نسمة، فخُمس سكان العالم يعيشون في الصين، وتجاوز حجم القوة العاملة أكثر من 800 مليون شخص بما يفوق إجمالي سكان قارة أوروبا، كما تجاوز عدد خريجي الجامعات حاجز 9 ملايين عام 2021، حسب مصادر حكومية صينية.
ويمكن تفسير موقف الصين من الحرب في أوكرانيا التي انتهجت فيها ما يعرف بسياسة الحبل المشدودن إذ هناك اعتبارات دفعت بكين إلى تبني موقفا محايدا بشكل متزايد بشأن الحرب. فالصين من ناحية تعتمد بشكل كبير على التجارة مع الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، على الرغم من التحركات الأخيرة لتوسيع العلاقات الاقتصادية مع دول الآسيان وغيرها من الشركاء غير الغربيين. ومن هنا فإن الدعم المفتوح لموسكو قد يؤديلفرض عقوبات غربية من شأنها الإضرار باقتصاد البلاد. ولروسيا أيضا اعتبار في هذه السياسة التي تنتهجها الصين حيث الأهمية الاستراتيجية لروسيا بالنسبة للصين تتبدى في سياق التنافس الأخير مع الولايات المتحدة وحلفائها الديمقراطيين. ومن تلك الاعتبارات تركيز الصين الاستراتيجي طويل الأمد على تنمية العلاقات الوثيقة مع الدول النامية في العالم، التي يعتبر مبدأ السيادة الوطنية بالنسبة لها أمرًا مقدسًا.
وتجدر الإشارة إلى أنه من العوامل المهمة طويلة المدى التي يجب مراعاتها عند تحليل موقف بكين من نزاع أوكرانيا أنها تنظر إلى روسيا كشريك استراتيجي حاسم في محاولتها لتحدي هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها – وهو صراع تتوقع الصين أن تستمر فيه. هدفها أن تصبح “دولة اشتراكية حديثة عظيمة” بحلول الذكرى المئوية لجمهورية الصين الشعبية في عام 2049.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أبدأ تعقيبي على المقال بفرضية ذات مغزى :لو كان هنالك طالب جامعي بريء عليه امتحان نهائي في كتاب مقرر عدد فصوله عشرة مثلاً ، فقيل له من طالب “له صلات مع إدارة الجامعة” أن الدكتور سيضع الأسئلة بحيث تكون جميعها من الفصل السابع ليفاجئ الطلبة . تصديق الطالب البريء لزميله و دراسته ذلك الفصل وحده دون سواه سيؤدي – في الاحتمال الأكبر- لرسوبه لكون البريء مفتقد لمعلومة أساسية و هي أن أي أستاذ جامعي يتوجب عليه أن يضع أسئلة تشمل المنهاج كله .
    كما وقع هذا الطالب في تضليل ، من الممكن أن تقع دول كبرى في مطب التضليل و يصير صناع القرارات فيها من “الضالين” الذين نرجو من الله يومياً 17 مرة على الأقل في صلواتنا أن لا نسير في صراطهم . واقع الأمر ، أن صناع القرار في أمريكا انطلت عليهم كذبة أن الخطر الداهم على الإمبراطورية الأمريكية سيكون من المسلمين . حين كان يترنح الإتحاد السوفيتي نحو السقوط في سبعينات القرن الماضي ، ابتلعت الدولة العميقة في أمريكا طعماً أو وهماً عن خطورة “الإسلام السياسي القادم” فاعتبرته عدواً يحتل المرتبة الأولى تنبغي محاربته لدرء خطره بأعمال إستباقية منها دعم الطراطير النواطير الطغاة و إفقار الجماهير و تكميم أفواههم و إخضاعهم و تخويفهم من السعي لنيل حقوقهم الأساسية الطبيعية المتمثلة بالحرية و الكرامة و العدالة و اصطناع القاعدة و مشتقاتها لتبرير الهجوم الشرس على المسلمين في بلدانهم ومناطق تواجدهم في كافة بقاع العالم .
    صارت أخبار المسلمين هي المنتشرة في الإعلام العالمي و كان من النادر أن يوجد في الإعلام أخبار أمم أخرى لفترة 3 – 4 عقود .
    في غضون ذلك ، سعت بعض بلدان العالم “التي لم تكن تحت الأضواء الساطعة ” إلى التقدم و التطور على نار هادئة و بخطوات دقيقة محسوبة ، و كان في سعيهم زيادة قواهم متعددة الجوانب بطرق ظاهرة أو بوسائل خفية ليس من السهل رصدها . من ضمن ذلك ، كانت روسيا و الصين و الهند .
    استمر ضلال الدولة العميقة في أمريكا ليومنا هذا ، فأعداؤها على الترتيب حالياً : 1) روسيا . 2) الإرهاب “المقصود به الإسلام ، بالطبع” . 3) الصين . من الواضح لكل مثقف متابع أن هذا الترتيب في منتهى الحماقة ، لكن لله في خلقه شؤون !!
    ستكون عملية الإطاحة بأمريكا عن عرش العالم سهلة ميسورة لو قامت تكتلات فعَالة مثل اتحاد أوروبي مستقل له جيش موحَد ، تحالف صيني – روسي – هندي ” بعد إخراج الهند من سيطرة أمريكا” ، تحالف روسي – ألماني – فرنسي فيه تقاسم نفوذ يرضي الأطراف الثلاثة .
    أمريكا هي “المديونير !!” الأول في العالم حيث تبلغ ديونها 32 تريليون – ألف مليار أو مليون مليون – دولار . هذه الحقيقة لوحدها كفيلة بسقوطها ناهيك عن عوامل أخرى من بينها نسيجها المجتمعي المهلهل و بشاعة أفعالها حول العالم و ظلمها الذي تجاوزت فيه المدى .
    مع تقدم الزمن و ربما يكون ذلك قريباً ، ستتغير الأحوال و ربما تكون هنالك دول لا تخطر بالبال فعالة في الساحة الدولية مثل البرازيل . كانت الإمبراطورية البريطانية يقودها أذكياء – بمعنى الكلمة – لكن رغم حذرهم و احتياطهم أتى عليهم هذا الدهر ليفقدوا إمبراطوريتهم لأسباب تحدث عنها الجنرال كلوب في كتابه المشهور ( The Fate of Empires and Search for Survival) أي ” مصير الإمبراطوريات و البحث عن البقاء”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى