مقالات

إلغاء “حق الإجهاض” يجدد الجدل حول المحكمة العليا الأمريكية-2

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب

ب- قضية “رو ضد ويد” Roe Vs Wade، وحكم المحكمة في “حق” الإجهاض..
أصدرت المحكمة الأميركية العليا يوم الجمعة(24-6-2022) قراراً، في قضية “دوبس ضد منظمة صحة المرأة في جاكسون Dobbs v. Jackson Women’s Health Organization، قضى بمنح الولايات سلطة وضع قوانين الإجهاض الخاصة بها من دون القلق من أن تتعارض مع الدستور.
بذلك، تكون المحكمة قد عكست قرار السماح بالإجهاض خلال الثلثين الأولين من الحمل في حكمها الذي صدر سنة 1973 ويعرف بقرار “رو ضد ويد”.

وعلى الرغم من هذا القرار يومها، سعى مشرعون في عدد من الولايات الأمريكية المحافظة، التي يحكمها فريق الجمهوريين، إلى إصدار قوانين من شأنها وضع عوائق تقيّد قدرة النساء على الحصول على الإجهاض.

وفي عام 1992، حكمت المحكمة العليا بأنه ليس من حق الولايات وضع “قيود غير محتملة” على النسوة اللواتي يسعين للحصول على الإجهاض, قبل مرور 24 أسبوعا من الحمل، وهي الفترة التي يصبح الجنين بعدها قادرا على العيش خارج الرحم.

بعد نصف قرن على قرار المحكمة في قضية رو، انقلبت على حكمها السابق ومن المتوقع أن القرار الجديد سيغير حقوق الإجهاض في أمريكا، حيث أصبح من حق كل ولاية على حدة حظر عملية الإجهاض، ومن المتوقع أن تفرض نصف الولايات الأمريكية قيودًا أو إجراءات حظر جديدة، ومررت 13 ولاية بالفعل قوانين تقضي بحظر الإجهاض تلقائيا فور إصدار حكم المحكمة العليا.

ومن المحتمل أن يقضي عدد آخر من الولايات بفرض قيود على الإجهاض، بينما تقوم ولايات “ليبرالية” (ومنها كاليفورنيا وأوريغون وواشنطن في الغرب الأمريكي) بتكريس تشريع حق الإجهاض، ما سيجعلها “قبلة” الراغبين في إجراء الإجهاض من الولايات التي تحظره.

جاء الحكم الأخير ليقرع جرس الإنذار في وسط جمهور المعترضين على قرار المحكمة، وتعالت الدعوات التي تطعن بمصداقية المحكمة العليا، ووصل الأمر بالبعض الى المطالبة بشطبها وإلغائها، فأعضاؤها غير منتخبين من قبل الشعب، وبالتالي فلا يمثلون إرادة الشعب، بخلاف المجلس التشريعي في الكونغرس ومجلس الشيوخ، وقد إتهم الكثيرون قضاة المحكمة بأنهم ينفذون سياسات الحزب الجمهوري المحافظ، و جمهوره المتدينين، أي أن القضاة لم يحكموا في الأمر بمنظار العدل والحقوق المشورعة وإنما بمنظار التبعية للحزب الجمهوري وفريقه.

والواقع أن الجدل الساخن لم يتوقف بين أنصار حق الإجهاض وبين معارضيهم منذ صدر قرار المحكمة العليا في 1973.

وكان الرئيس ترامب تعهد بأنه سيعين في المحكمة العليا قضاة محافظين يقومون بإلغاء قرار “رو ضد ويد”، ونفذ وعده حين قام بتعيين ثلاثة قضاة هم: نيل غورسوش و برت كافانو و آيمي باريت، مما جعل كفة القضاة المحافظين (أصبح عددهم 6) ترجح في وجه القضاة الليبراليين( عددهم 3).

بينما في العادة كان هناك شبه توازن بين الفريقين، وكثيرا ما حُسمت القضايا بأغلبية 5 ضد 4، بحيث إن انضمام قاض إلى كفة من شأنه أن يقلب كفة الأكثرية وبالتالي الحكم الصادر، أما بعد تعيين ترامب لثلاثة قضاة محافظين فهذا أوجد أكثرية مهيمنة للمحافظين (6 مقابل 3 لليبراليين)، وهذا يعني أن قرارات المحكمة ستخدم خطط فريق الجمهوريين المحافظين و(معهم المتدينين) في حسم المسائل التي ترفع للمحكمة العليا التي لها القول الفصل النهائي.

ولذا شن الجمهوريون بقيادة السيناتور (ماكونيل) معركة شرسة، إثر وفاة القاضي المحافظ أنطونين سكاليا في شباط 2016، لمنع الرئيس أوباما من تعيين قاض بديل له في المحكمة العليا، إذ يتطلب القانون الأمريكي موافقة مجلس الشيوخ على القاضي المرشح من قبل الرئيس ليصبح عضوا في المحكمة العليا؛ ورغم أن أوباما رشّح القاضي ميريك غارلاند لعضوية المحكمة في أذار 2016 إلا أن مجلس الشيوخ (تحت سيطرة الأغلبية الجمهورية يومها) رفض مناقشة الترشيح، ولجأ إلى عرقلة التصديق عبر “فيليباستر” وهي عملية لا تنتهي من الجدالات العبثية، ولكن قانونية، لمنع طرح الترشيح للتصويت، وبقي المقعد شاغرا في سابقة من نوعها حتى انتهاء ولاية أوباما، مما جعل المحكمة العليا منقسمة بين فريقين متساويين 4 للمحافظين و4 لليبراليين، وهذه سابقة بحد ذاتها.

بعد أيام من دخوله البيت الأبيض قام ترامب بترشيح القاضي نيل غورسوش وفورا قام مجلس الشيوخ بالمصادقة على الترشيح، بعد تمكن الجمهوريين من تعطيل الديمقراطيين من اللجوء إلى “فيليباستر” للحيلولة دون التصويت. هذه الخصومات الحزبية بين الفريقين الديمقراطي والجمهوري ألقت بظلالها على واقع إنحياز قضاة المحكمة العليا للفريق السياسي صاحب التأثير، وهذا ما كرسته تعيينات ترامب التي أدت إلى هيمنة أكثرية جمهورية على المحكمة العليا (Super majority).

مع العلم أن القضاة المرشحين لعضوية المحكمة العليا يتم التصديق على ترشيحهم في مجلس الشيوخ، وأن القضاة الذين عينهم ترامب أجابوا، في جلسات التصديق في مجلس الشيوخ، بأنهم “يحترمون” حق الإجهاض والذي هو القانون المعتمد في البلاد، وهذا ما جعل المعارضين يتهمونهم بالكذب في جلسات المصادقة.

المثير في حكم المحكمة الأخير أنه لأول مرة في تاريحها يتم تسريب “مسودة” الحكم إلى الإعلام، فقد قام موقع بوليتيكو بنشر فحوى الحكم بشكل دقيق إلى حد بعيد في أول أيار الماضي، بعد أن أكدت المحكمة العليا صحة التسريب ثارت عاصفة من الاحتجاجات من قبل المؤيدين لحق الإجهاض، الذين نظموا الاعتصامات والمسيرات رافعين الصوت في محاولة لثني القضاة عن المضي في القرار كما تسرب؛ ووصل الأمر إلى قيام بعض المتظاهرين بالاعتصام أمام بيوت بعض القضاة المحافظين، مما اعتبر تهديدا لسلامتهم، وقد تم اعتقال شخص كان يحمل سلاحا بقرب منزل احد القضاة.

هذا التسريب ألقى بظلالٍ ثقيلة على الثقة في مداولات أعضاء المحكمة العليا، الذين كان يشار إليهم ب “الإخوة” من قبل، وحريتهم في مناقشة القضية المعروضة عليهم، وحتى الآن كان هناك إجماع على “قدسية” المحكمة العليا ووجوب النزول عند قراراتها مهما كانت، إذ يعود لها القول الفصل في مدى “دستورية” الأحكام الصادرة عن المجالس التشريعية سواء في الولايات أو في الكونغرس.

في المداولات في مسودة القرار بين القضاة التي جرت في كانون الأول الماضي سألت القاضية سونيا سوتومايور” هل تستطيع المحكمة تحمل التداعيات الخطيرة (حرفياً هي قالت: الرائحة النتنة) لهذا القرار حين يرى الناس أنه قرار سياسي (يعني يعكس رغبة الحزب الجمهوري)؟” فهي لم تجادل في صوابية القرار أو خطأه وإنما حرصت على الحفاظ على “سمعة” المحكمة ومصداقيتها بنظر الجمهور، محذرة من غضب الشارع المؤيد لحق الإجهاض.

وقد أقر كثير من المحللين بأن “قدسية” المحكمة العليا قد انتهكت وصار واضحا تبعية المحكمة للطرف السياسي الذي عين أعضاءها، وهذا ما يفقدها المصداقية في نظر المجتمع الذي كان يتطلع إليها بإحترام وتبجيل لحسم القضايا الخلافية.

ووصل الأمر ببعض الغاضبين إلى الدعوة لإلغاء المحكمة العليا التي تفرض دكتاتوريتها ضد رغبات الناخبين، بينما أعضاء المحكمة غير منتخبين من الشعب. فرغم أن ترامب خرج من البيت الأبيض إلا أنه أحكم قبضة المحافظين على المحكمة التي تستطيع شطب قرارات المجالس التشريعية في الولايات، بل وفي الكونغرس، وهذه مجالس منتخبة من عامة الشعب، من خلال الحكم بعدم دستوريتها! ما جعل البعض يتساءل: ما جدوى الانتخابات طالما أن المحكمة تفرض ما تريد ، فهذا نقيض الديمقراطية وصنو الدكتاتورية!

هذه الاحتجاجات الصاخبة، نظرا لحساسية المسألة التي تمس الحرية الشخصية للنساء وما يترتب عليها من تداعيات واسعة، فرضت السؤال: هل على القضاة النزول عند “رغبة” عامة الناس، أو المتظاهرين على الأقل؟ علمًا أنه في مقابل المؤيدين هناك فريق آخر معارض ذو نزعة محافظة يؤمن بأن الإجهاض جريمة قتل وأنه يخالف التشريع السماوي بوجوب المحافظة على الحياة، ويتبع هذا أيضا الدعوة إلى تقييد الفوضى الجنسية العارمة، فتجريم الإجهاض يفرض على النساء التفكير مليا قبل التورط في علاقات غير مشروعة، كما أن هذا الحكم بحد ذاته فتح الباب أمام المحكمة العليا لإعادة النظر فيما سبق إقراره من “حقوق” الشاذين جنسيًّا سواء من إباحة زواج الشاذين أو غيرها من “حقوق”؛ ففكرة “الحقوق” أصبحت سائبة عرضة للتبدل والتغيير وفق قرارات المحكمة العليا المتقلبة.

وهذا ما يفسر الغضب الواسع وسط جمهور أنصار الإجهاض، وأنصارهم من الشاذين الذين يخشون ان تقع الدائرة عليهم في قرارات المحكمة العليا لاحقاً.
وهذا ما جعل هيئة التحرير في صحيفة “واشنطن بوست” تتخوف من انتشار الإجهاض غير الآمن بفعل قرار المحكمة الذي وصفته بـ”المتهور” و”الخطير” و”الراديكالي” مطالبة الأميركيين بالتحرك للدفاع عن حقوقهم. و محذرة من أن “هجوم” المحكمة على “حقوق الإجهاض” يثير أسئلة عن ضمانات مستقبلية أخرى مثل زواج الشاذين والسماح بحبوب منع الحمل والزواج بين أشخاص ينتمون إلى أعراق مختلفة.

كما أشارت الصحيفة إلى قول القضاة إنّ حكمهم لا يؤثر على هذه المسائل، لكنهم يفشلون في توضيح كيف أنّ تبريرهم لحكمهم الأخير لن يُستخدم كسابقة قضائية لتبرير أحكام مستقبلية بشأن هذه القضايا.

وشددت ال “واشنطن بوست” على أهمية مفهوم أن القضاة هم في الواقع مجرد سياسيين يرتدون ثوب المحكمة، بينما عليهم تفسير القانون بالاستناد إلى التقاليد والتاريخ والمنطق عوضاً عن فرض آرائهم السياسية الخاصة.

و رأت أن أميركا تدخل حقبة جديدة من غياب الثقة والتقلب في النظام القضائي. وقد أظهرت استبيانات الرأي العام تدني نسبة القبول للمحكمة العليا الى 25%.
كما ظهرت دعوات إلى ضرورة “التحكم” في قرارات المحكمة التي انحرفت عن الطريق السليم، خاصة بالنظر إلى أن هيمنة القضاة المحافظين قد يمتد لعقود قادمة، فولاية عضو المحكمة تمتد إلى نهاية عمره أو حتى قراره بالتنحي.

وهنا بيت القصيد: هذه الزوبعة من الجدالات الساخنة تشير إلى الإنقسام الحاد في المجتمع الأمريكي، كما جاء في تقرير بي بي سي الذي ذكرناه في الجزء السابق، الذي صار أشبه بقبيلتين تحملان قيما متناقضة ما يهدد الوحدة المجتمعية، وقد عبر أحدهم عن سخطه بوصفه قضاة المحكمة العليا بأنهم يقومون بدور الرب وتشريع ما يوافق أهواءهم، وهذا يعني أن المحكمة العليا فقدت مصداقيتها وصارت معول هدم ضد الديمقراطية الإمريكية.

كما اعترض آخر: “كنا نعرف أن اليمين(المحافظين) سيسيطرون على المحكمة العليا ولكن كنا نظن أنهم حريصون على الحفاظ على مصداقية المحكمة أمام المجتمع”. بل ظهرت دعوات علنية إلى التمرد على قرار المحكمة والثورة عليها، بينما رأى آخرون أنه يجب إعادة النظر في الدستور الأمريكي والبحث في صياغة دستور جديد، بسبب مخالفة المحكمة العليا لروح الدستور.

بينما رأى البعض أن “تهاون” الحزب الديمقراطي في وضع حد لتغول المحكمة العليا يكشف وجود “تفاهم” ما بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري على محاولة الحد من تدني نسبة العرق الأبيض في التكوين السكاني للمجتمع الأمريكي، بسبب عزوف عائلات البيض عن الإنجاب و تفضيل الاستمتاع بالجنس بعيدا عن مسؤولية تربية الأبناء.

على الضفة الأخرى وصف الرئيس السابق ترامب حكم المحكمة بأنه “إرادة الرب”، وهو الوصف نفسه الذي عبّرت عنه (بيكي كيري) وهي عضو المجلس التشريعي في ولاية ميسيسبي الذي شرع قانون لتقييد حق الإجهاض والذي رفع أمام المحكمة العليا للبت في “دستوريته”.

قرار المحكمة العليا لا يعني أن القضية حسمت، بل سيفتح بابا للصراع الشرس بين ضفتي المجتمع الأمريكي المتناحرتين، وسيكون له تداعيات كبرى على الانتخابات القادمة في تشرين الثاني، فإذا نجح الديمقراطيون في تجييش الشارع ضد الجمهوريين، فقد ينقذهم من الخسارة التي كانوا يسيرون إليها تحت إدارة بايدن الفاشلة، أي أن حكم المحكمة قد يكون قبلة الإنقاذ للحزب الديمقراطي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى