مقالات

المغمورون الجدد

صالح موسى الحمزة

محام وكاتب سوري
عرض مقالات الكاتب

أربعون عاماً ولم يحصل “المغمورون” على جنسية الأراضي التي هُجِّروا إليها عنوة بعد أن زحفت إليهم المياه التي حجزها سدّ الفرات، فغاصت أراضيهم وما بقي من أحلامهم تحت أمواجها “العكرة”، وتلاشت ذكرياتهم فيها كما يتلاشى النّدى مع حرّ الظّهيرة.

كان ذلك سنة ١٩٧٤ (سنة الغمر) قُدِّرَ عدد الأسر الّتي حُرمت من أراضيها ومنازلها يومها ١٤١٥٠ أسرة، حوالي النصف منهم بقي على ضفاف البحيرة النّاشئة حديثاً، لم تقوَ عزائمهم على هجر مرابع الصّبا وأرض الأجداد، وقسم منهم استقر به المقام في مزارع الدولة ومدينة الرّقة وقليل منهم انتهى به المطاف في محافظة حلب.
أما القسم الباقي (حوالي ٤٠٠٠ أسرة) لم يجد بُدّاً من الرّحيل والانتقال مكرهاً للعيش على طول الحدود الشماليّة السوريّة بدءاً من جنوب غربيّ رأس العين حوالي ٣٥ كم (قرية مبروكة) إلى المالكيّة (قرية عين الخضرة) على ما يزيد عن ٤٦ قرية تناثرت قريباً من الحدود التركيّة كحبّات مسبحة انفرط عِقدها.

رغم تفاني (المغمورين) في استصلاح الأراضي البور الّتي وُزِّعت عليهم وتحويلها إلى أراضٍ خصبة بعد أن كانت جرداء قاحلة.

ورغم تولّي أبنائهم مناصب إداريّة مهمّة في سلك الدّولة نتيحة اهتمامهم الزّائد بالتّعليم مع حالة الفقر والعوز التي مرّوا بها.
ورغم أنّهم تفاعلوا مع عشائر المنطقة بالمصاهرة والواجبات الإجتماعيّة على السرّاء والضّراء وضعف الحال.

ورغم أنّهم عرب قحطانيون أقحاح و (غمر) لم يكن أباً ولا جدّاً لأحد منهم ولن تجد له ذكراً في سلسلة أنسابهم التي يتفاخرون بحفظها جيّداً ويتناقلونها جَدّاً عن أب حتّى آدم عليه السلام…!

إلا أن وصمة “مغموري” ما زالت تلاحقهم وهي تشبه في نبرتها وإيقاعها العنصريّ كثيراً كلمة “سوريلي” التي يسمعها السوريّون كثيراً في تركية وكلمة “وافد” المنتشرة جِدّاً في بلاد الخليج أو كلمة: Refugee (لاجىء) في أوربا.

اليوم وعلى ذات البقعة الجغرافيّة الّتي انطلقت منها الحالة ” المغموريّة” الأولى، تعمد الحكومة التركية إلى إنشاء وحدات سكنية لمن قذفت بهم أتون الحرب على أراضيها وذلك قبيل انتخابات ٢٠٢٣ حيث أن المعارضة التركيّة تجاهلت كلّ المشاكل الواقعة على ثمانين مليون تركي وعلى مساحة 783,562 كم² ووضعت المجهر على السوريين كيف ينامون، وكيف يمشون، وكيف ووو..
فأصبح السوريون شمّاعة تضع عليها المعارضة التركيّة فشلها السياسيّ و الخدميّ.

الشعب التركيّ شعب طيّب ومهنيّ عمليّ، ولكنّه محدود الثّقافة، ثقافته يتحكّم بها الإعلام ومع الأسف الإعلام تسيطر عليه المعارضة التركيّة؛ لذلك انتشرت وبشكل منظّم حملات العنصريّة ضدّ السورييّن مع ضعف وندرة القوانين الرّادعة لهذه الجريمة في بلد يسعى جاهداً أن يكون ضمن الاتحاد الأوربي.

يعمل الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) على إيجاد حلّ بأي طريقة لحرق الورقة الأخيرة للمعارضة ولكن اللاجئ السوريّ كان الحلقة الأضعف في هذه الحرب المستعرة بين الأحزاب التّركية.

٢٤٠ ألف منزل ضمن تجمعات سكنيّة في ١٣ منطقة في جرابلس والباب وتل أبيض ورأس العين، مشاريع سكنيّة تعمل الحكومة التركيّة على إقامتها.
ومساحة الأرض المخصّصة للمشروع في تل أبيض تبلغ ١٢٠٠ دونم، وأنّه من المخطّط أن يتمّ في المرحلة الأولى بناء عشرة آلاف وحدة سكنيّة، وأن يعيش فيها حوالي ٦٤ ألف شخص.
هذه المشاريع سيتم ترحيل السوريين المقيمين في تركيا تحت بند الحماية المؤقتة إليها وهم خليط سكاني غير متجانس من محافظات دمشق وحمص وحماة وحلب ودير الزور والرقة.

لا شكّ أن هذا المشروع يخدم العمليّة الانتخابية القادمة لحزب العدالة والتنمية ويحرق آخر ورقة تتمسّك بها المعارضة.

ولا شكّ أن هكذا مشروع يصبّ في صميم الأمن القومي التركي ويهدم آخر أمل لقيام دولة انفصاليّة كرديّة في شمال سورية.

ولكن:
ماذا عن حقوق الشّعب السّوري في هذه المعادلة صاحب المعاناة الحقيقية؟
المنطقة المزمع إقامة هذا الحزام الأمني عليها منطقة فقيرة وتصنف (نائية) محدودة الموارد بالكاد تكفي لمعيشة أهلها، كيف يمكن حشر أربعة ملايين شخص فيها؟
وماهي خطط التنمية المستدامة والأمن الغذائي والسكاني والخدمي والتعليمي المعدة لهكذا مشروع؟

هل هذا هو الحلّ الأمثل للقضية السورية؟ بنقل السكان من شتات إلى شتات؟

هل يعتبر التغيير الديمغرافي للمنطقة حلاً مناسباً أم أنّ الحلّ الأمثل إزالة النّظام الّذي تسبّب بكلّ هذه الفوضى وإعادة النّاس إلى مساكنهم وقراهم بدلاً من إعادة تهجيرهم وضغطهم في تجمعات سكانيّة دون وجود خطط واضحة تحدّد مصيرهم؟

يحقُّ لنا أن نتساءل بهذه الأسئلة وأكثر فنحن المعنيون في آخر المطاف بهذا القادم المجهول.

تتشابه حالة الغمر التي تعرّض لها سكان وادي الفرات سنة ١٩٧٤ مع حالة الغمر الجديدة الّتي يتعرّض لها كلُّ أبناء الشّعب السّوري باختلاف المسبّبات وتوحّد النّتائج، إلّا أن طغيان الماء في الأولى كان أخف ضرراً بلا شكّ من طغيان الظّلم المحلّي، والإقليمي، والعالمي، في الثّانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى