مقالات

الشيخ محمود أفندي حجة على المتقاعدين

د. عز الدين الكومي

كاتب مصري
عرض مقالات الكاتب

عندما قال الإمام أحمد كما نقل عنه ابنه عبدالله رضي الله عنهما : سمعتُ أبي رحمه اللهُ يقولُ : ” قولوا لأهلِ البدع : بيننا وبينكم الجنائز” .
ويبدو أن المراد هنا من كلام الإمام أحمد رحمه الله .. أن شهود الناس الجنائز يأتي على قدر الميت من العلم والدين وليس قدره من الشهرة أو السلطان ولا نحو ذلك مما يزول بموت صاحبه ، فلا يبقى للناس عناية بجنازته ، ولا دافع لمجاملته ، أو مداراته .
ومن هنا يأتي حديثنا عن الشيخ محمود أفندي رحمه الله ، والذي تبع جنازته مئات الآلاف في تركيا وعلى رأسهم الرئيس أردوغان ، وتابعها الملايين من خارج تركيا .
هذا الرجل الذي مارس الدعوة إلى الله عز وجل في أحلك الظروف وفي ظل الانقلابات العسكرية المتعددة التي عاشتها تركيا ، ولم يصدُّه ذلك عن المضي قدماً في دعوته إلى الله تعالى على الرغم مما تعرض له من الإيذاء والتنكيل ، فقد اعتقل ، واتُهم بالقتل ، وتعرض للاغتيال عدة مرات .
كان الشيخ محمود أفندي قد تبنى المنهج الصوفي على الطريقة النقشبندية ، أما مذهبه فهو المذهب الحنفي وهو المذهب السائد في البلاد التركية منذ دولة الخلافة العثمانية .
وبالرغم من منهجه الصوفي إلا أنه كان حركيا في دعوته ، فكان يؤم الناس في المسجد ويعلم الطلاب العلوم الشرعية فيه ، وكان رحمه الله يخصص ثلاثة أسابيع في كل عام للدعوة إلى الله في عموم الدولة التركية .
وفى عام 1954عين إماما لمسجد إسماعيل آغا في إسطنبول ، وبقي فيه حتى أحيل إلى التقاعد عام 1996، وكان يقوم بواجب الدعوة إلى الله وإرشاد والناس بالحكمة والموعظة الحسنة ، وكان يقول دائماً : “إن واجبنا هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واجبنا هو إحياء الناس وليس قتلهم”.
وبالرغم من منهجه الدعوي الهادئ .. إلا أنه تعرض للكثير من المضايقات من جنرالات الجيش وأعضاء حزب الشعب الجمهوري .
وبعد انقلاب 1960 حكم عليه بالنفي إلى مدينة إسكي شهير ، ولكن قرار النفي لم ينفذ آنذاك .
وفي سنة 1982 اتُهم بالضلوع في اغتيال مفتي منطقة أسكودار الشيخ حسن علي أونال ، ولكن المحكمة حكمت ببراءته من هذه التهمة .
وفي عام 1985 أحيل إلى محكمة أمن الدولة بسبب خطبة ألقاها بزعم أن خطبه ودروسه تهدد مبدأ علمانية الدولة ، لكن المحكمة قضت ببراءته أيضاً .
وقُتِل صهره الشيخ خضر على مراد أوغلو في عام 1998 في مسجده “إسماعيل آغا” ، كما قُتِل صهره الآخر وأحد أكبر طلابه الشيخ بيرم علي أوزتورك وهو يلقي درسه في جامع “إسماعيل آغا” أيضاً في عام 2006 .
وفي عام 2007 أطلق مجهولون النار على سيارة الشيخ محمود أفندي في محاولة لاغتياله لكنه لم يصب بأذى .
وحين أغلقت المدارس الدينية في تركيا .. صار يذهب إلى البيوت يطلب منهم إرسال أبنائهم إليه ليدرسهم خفية ويقول لهم : “إذا ماتت علوم الشريعة فسيموت الإسلام في تركيا” .
ولكن بعد أن فاز الإسلاميون بحكم تركيا وجد الشيخ محمود فسحة للدعوة ونشر العلوم الشرعية ، فابتدأ بفتح المدارس الحلقية على المنهج الإسلامي القديم والتي تقوم بتدريس علوم الشريعة”.
وقد حصل الشيخ رحمه الله في عام 2010 على جائزة الندوة الدولية من أجل خدمة الإنسانية ، كما حصل على جائزة الإمام محمد بن قاسم النانوتوي ، وهي جائزة تمنح للشخصيات التي تترك أثرا في مجال الدعوة الإسلامية .
وتميزت جماعة الشيخ محمود أفندي بسمت خاص من خلال الزي الخاص بأفرادها ؛ فنساء الجماعة يرتدين الشرشف وهو ثياب سوداء لايظهر منها سوى العينين ، أما الرجال فيحافظون على الزي العثماني القديم وهو عبارة عن قميص طويل وسروال عريض وفوقهما جبة ، مع لبس عمامة مميزة أيضاً .
وبالرغم من انتشار جماعة الشيخ محمود أفندي في أرجاء الدولة التركية .. إلا أنهم يتركزون بشكل خاص في مدينة إسطنبول في حي الفاتح حول مسجد محمد الفاتح رحمه الله .
وكما أسلفنا فإن جماعة الشيخ محمود أفندي تتبنى المنهج الصوفي والطريقة النقشبندية ، ولاتتبنى العمل السياسي وهذا واضح من مقولات الشيخ محمود أفندي رحمه الله إذ يقول : “لاعلاقة لي بالسياسة أبدا ، لا أريد كرسياً ولا منصباً فيها ، دعوني حتى أعرض عليكم أوامر ربي جل شأنه ؛ إنني لا أفهم شؤون السياسة ، بل أنظر في الشريعة فأبين أحكامها ؛ وَإِنَّ خالقنا لم يخلقنا لأجل كرسي أو منصب ، بل لمعرفة الله تعالى وعبادته ؛ إن وظيفتنا هي إحياء الناس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا قتلهم” .
ولعل هذه المقولة قديمة وربما قيلت في سياق تاريخي خاص خلال سيطرة العلمانية على تركيا وفرض أفكارها على الأتراك .
لكن هذا لا ينفي أن لجماعة الشيخ محمود أفندى تأثير كبير في الأحداث السياسية في تركيا ، وتلعب دوراً هاماً في الانتخابات والاستحقاقات المختلفة سواء في انتخابات الرئاسة أو الانتخابات البرلمانية والبلديات ، وقد قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعدة زيارات للشيخ طلبا لدعمهم في الانتخابات ، وكذلك أحمد داود أغلو عندما كان يشغل منصب رئيس الوزراء .
ولا أحد ينكر الدور الذي لعبته جماعة الشيخ محمود أفندي في التصدي لمحاولة الانقلاب الفاشلة فى عام 2016 ، بجانب أطياف الشعب التركي .
وقد نعى الرئيس رجب طيب أردوغان الشيخ محمود أفندي قائلاً : “أدعو الله بالرحمة للشيخ محمود أسطي عثمان أوغلو ، أحد القادة الروحانيين لبلادنا ، الذي كرس حياته للإسلام ، أتمنى الصبر والسلوان لأهله وطلابه وكل من يحبونه .. فليرقد في سلام”.
ومن كلمات الشيخ محمود أفندي المضيئة :
“إذا تعرض شخص لأمورك الخاصة فاصفح واعف عنه . لكن إذا تعرض للشريعة أو الطريقة فإذا لا تقف” .
” الواجب على الإنسان أن يرى عيوب نفسه وقبائحها لا أن يرى عيوب غيره” .
“لو لم يبق لي عمر إلا ثلاث نفَسات أقول لكم : أطلب العلم ، أطلب العلم ، أطلب العلم” !!( يعني العلوم الشرعية) .
“أعظم البلاء على السالك (في طريق الحق) الكسل ، إذا كنت كسلاناً فأمرك صعب” .
“إذا ترك الإنسان ما فرضه الله عليه قسى قلبُه بقدر ما تركه” .
“علينا أن نخرج حب الرئاسة من القلوب ، فقد قال أولياء الله تعالى : (آخر ما يخرج من قلوب العارفين حب الرئاسة) ؛ ولذلك يصعب التخلص من شهوة النفس هذه ، لا رزقنا الله تعالى هماً سوى خدمة دينه ونيل مرضاته” .
رحم الله الشيخ محمود أفندي ورزقه الفردوس الأعلى من الجنة وأجزل له المثوبة لما قدم لخدمة دينه ودعوته ، وبذلك فإن الشيخ أصبح حجة على كل متقاعس يتعلل بحجج واهية لترك واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى