مقالات

إلغاء “حق الإجهاض” يجدّد الجدل حول المحكمة العليا الأمريكية (1)

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب

فجّر قرار المحكمة الأمريكية العليا بإلغاء الحق القانوني للمرأة في الإجهاض(24 حزيران 2022) جدلاً صاخباً في أمريكا حول أمور مصيرية عند ملايين من الشعب الأمريكي تتعلق بجدلية تشريع الحقوق ودور المحكمة العليا في ذلك.

وكانت المحكمة العليا، في الأسبوع نفسه، قد ألغت قانونًا في نيويورك يقيّد حق حمل السلاح، في أهم حكم للمحكمة بشأن الأسلحة منذ أكثر من عقد، ما عُدّ انتصارًا كبيرًا للوبي السلاح في الولايات المتحدة، كما أصدرت في الأسبوع نفسه، حكمها الذي قضى بأن على حكومات الولايات تقديم الدعم المالي للمدارس الدينية الخاصة. ثلاثة قضايا حسمها الفريق المحافظ في المحكمة (ستة قضاة) في وجه المعارضة الليبرالية (3 قضاة) في المحكمة المكونة من تسعة قضاة، ما أجّج عمق الاستقطاب الحاد بين ضفتين في المجتمع الأمريكي، وصفها تقرير بي بي سي بالقول: “أمريكا اليوم هي بلد يقطنه شعبان منفصلان، يقوم على قبيلتين لكل منهما عقيدة و نظام قيم وأهداف مختلف كليا عن الآخر. اليوم ازدادت الفجوة اتساعًا بين القبيلتين”.
تخبطات وتناقضات المحكمة العليا:
أ‌- قضية العبودية والحرية للسود
نبدأ مناقشتنا للمسألة (تخبط المحكمة العليا) من قضية دريد سكوت Dred Scott التي بدأت المحكمة العليا مداولاتها في شباط 1856 وانتهت بإصدار الحكم في أذار 1857 والذي قضى بأن الدستور الأمريكي لا يقبل منح الجنسية الأمريكية للسود .
هذا الحكم الذي عدّه العالم القانوني برنارد شوارتز بأنه “أسوأ قرار في تاريخ المحكمة العليا”. واعتبره رئيس القضاة شارلز هيوز بأنه “أكبر خطأ ارتكبته المحكمة العيا بحق نفسها”، بينما وصفه المؤرخ يونيوس رودريغز بأنه “القرار الذي أجمع العالم على اعتباره أسوأ حكم للمحكمة العليا”، ورأى المؤرخ ديفيد كونيغ بأن “هناك إجماع، بدون أي تحفظ، على اعتباره أسوأ قرار مطلقا”.
يومها كانت “ولايات” الولايات الأمريكية “المتحدة” منقسمة إلى قسمين: قسم يسمح بتجارة العبيد وقسم يمنعها، مع تفاصيل قانونية تابعة، وكان سكوت رفع دعوى مطالبًا باعتباره مواطناً أمريكياً “حرا” لأن سيده انتقل به من ولاية تسمح بالرق (ميزوري) إلى ولاية تمنعه (ويسكونسين)، فجاء حكم المحكمة ليصبح صاعق تفجير الحرب الأهلية الشهيرة بين ولايات الشمال وولايات الجنوب.
فقد جاء في حيثيات الحكم الذي أصدره رئيس المحكمة العليا القاضي (تاني Taney) بأن” الدستور الأمريكي لا يمنح وصف “المواطنة” للأشخاص من أصول إفريقية” واستند إلى المسودة التحضيرية للدستور الأمريكي الذي أقر في 1787 والتي قضت “بلزوم إقامة حاجز فاصل لا يمكن تجاوزه بين السكان ذوي العرق الأبيض و السود العبيد”.

وبالتالي فالدستور الأمريكي لا يمنح السود حق المواطنة ولا ما يترتب عليها من حقوق قانونية. فالحكم الصادر عن المحكمة العليا في 1858 عكَسَ الثقافة العنصرية المهيمنة عشية ثوة الاستقلال.
نذكّر هنا أن “الآباء المؤسّسين” The Founding Fathers الذين وضعوا الدستور الأمريكي (ومنهم جورج واشنطن و توماس جيفرسون وجيمس ماديسون وبنيامين فرانكلين وألكسندر هاملتون) كان جلّهم من مالكي العبيد، كما كان أول أربعة رؤساء للولايات الأمريكية المتحدة.
وفي رسالة إلى صديق له في 1774، أي عشية ثورة الاستقلال عن التاج البريطاني (1776) كتب جورج واشنطن يبدي تخوفه من “أن ينتهي بهم الأمر ليصبحوا عبيدا للتاج البريطاني يتحكم فيهم كيفما يشاء تماما كما يتحكمون بالعبيد السود الذين يمتلكونهم”.

وتحت تأثير الأفكار الليبرالية كان بعضهم يرفع صوته مطالبا بالحرية للعبيد، دون أن يتخذ أي خطوة فعلية للسير في ذلك، فقد أبدى جورج واشنطن، بطل ثورة الإستقلال، إمتعاضه من كونه يمتلك المئات من العبيد وهذا “أمر مؤسف”، ومع ذلك لم يحرك ساكنا لحظر العبودية. حتى توماس جيفرسون، صاحب العبارة الشهيرة في الدستور الأمريكي: “كل الناس (كل الناس!) يولدون متساوين في الحقوق” ومع ذلك كان من كبار ملاّكي العبيد طول حياته و مات في 1826 و هو يملك المئات منهم.

بعد انتهاء الحرب الأهلية (1860-1865) شرّع الكونغرس الأمريكي التعديل الثالث عشر للدستور (1865) والقاضي بمنع العبودية، ثم التعديل الرابع عشر للدستور والقاضي بمنح الأمريكيين الأفارقة حق المواطنة (1868).
وكان يفترض أن ينهي التعديل الدستوري الجدل القانوني حول العبودية و إقرار حقوق المواطنة للزنوج ، ولكن الواقع المر كشف عن تأصل الحقد العنصري في نفوس المستعمرين البيض، الذين أبادوا جنس الهنود الحمر في العالم الجديد بأبشع وسائل الفتك والتنكيل، ولذا استمر صراع السود في أمريكا للمطالبة بالحقوق المدنية لقرن آخر.

وشهد مد وجزر في محطات عديدة، منها حكم المحكمة العليا في قضية بليسي-فيرغيسون 1896 حيث فرضت المحكمة العليا الفصل العنصري بين السود والبيض في المرافق العامة. ففي العديد من المدن والقرى، لم يكن مسموحا للأمريكيين الأفارقة بمشاركة سيارة الأجرة مع البيض أو أن يدخلوا أحد المباني من نفس المدخل. كان عليهم أن يشربوا من نوافير مياه مختلفة، وأن يستخدموا حمامات مختلفة، وأن يذهبوا إلى مدارس مختلفة، وأن يُدفنوا في مقابر مختلفة، بل حتى أن يقسموا على كتاب مقدس مختلف. كان الأمريكيون الأفارقة مطرودين من الحمامات العامة والمكتبات العامة، كما حظرتهم بعض الحدائق العامة بلافتات مكتوب عليها «غير مسموح دخول الزنوج والكلاب». في 1954، بعد نصف قرن، قامت المحكمة العليا بنقض الحكم بفرض الفصل العنصري في قضية “براون ضد مجلس التعليم” حيث حكمت بأن الفصل غير دستوري. وخلال هذا كله استمر البيض في سن القوانين لمنع السود من الحصول على حقوق المواطنة كاملة بما في ذلك حق الانتخاب. واحتاج الرئيس الأمريكي أيزنهاور في أيلول 1957 لإرسال 1200 عنصر من “الوحدة المحمولة جوا 101 ” العسكرية(101st Airborne Division) إلى مدرسة “ليتل روك”، ولاية أركانسا، لحماية الطلاب السود فيها طيلة فترة دراستهم.
وفي مونتغمري، عاصمة ولاية ألاباما، في كانون الأول 1955 تفجرت قضية روزا باركس (من السود) التي رفضت التخلي عن مقعدها في الحافلة العامة لصالح الركاب البيض وفق قانون الفصل بين الركاب على أساس اللون، فقُبض عليها ودفعت غرامة قدرها عشرة دولارات، ما أثار حملة شهيرة من الاحتجاجات أدت إلى إلغاء القانون؛ واستمر نضال السود في مكافحة التمييز العنصري، وشهد مفاصل مهمة منها إغتيال مارتن لوثر كينغ و مالكوم إكس، وما زال مستمرا حتى الساعة نتيجة تجذر الحقد العنصري لدى كثير من البيض في أمريكا،) من ذلك تصريح القاضي في المحكمة العليا أنطونين سكاليا- توفي في 2020- بأن على الطلبة السود الالتحاق بمدارس على مستوى قدراتهم العقلية(المتدنية) بدل من الشكوى من المستوى العالي لمدارس البيض) ؛ ويشهد على ذلك الحوادث المتكررة بقتل المواطنين السود على أيدي الشرطة الأمريكية ومن أشهرها رودني كينغ في لوس أنجلوس 1987، ومؤخرا جورج فلويد في مينيابوليس- ولاية ويسكونسن (أيار 2020) وصرخته التي أصبحت رمزا للقمع الأمريكي:” لا أستطيع التنفس” نتيجة ضغط رجل الشرطة على رقبته حتى مقتله!

ومن المعروف في أمريكا أن كثيراً من السود يتعرضون للتمييز من رجال الشرطة وصلت إلى فرض غرامات على “السائق الأسود” لا لشيء إلا بسبب لون بشرته السمراء Driving while Black.

فلا عجب ما صرحت به أستاذة في جامعة أمريكية على قناة CNN، تعقيبا على مقتل جورج فلويد: “الحرب الأهلية (1860-1865) ما زالت دائرة ويجب علينا الاستمرار في النضال وفاء لدماء الشهداء الذين قضوا في سبيل الحرية وكامل الحقوق الإنسانية”.
يتبع..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى