مختارات

الأخسرون أعمالاً واتهام النفس

معلوم أن من يخرب ويهدم ما هو مشيد، ومن يفسد ما هو صالح سيبوء بالخسران. ولكن أشد الناس خسراناً من يهدم من حيث يظن نفسه بانياً ويفسد من حيث يظن نفسه مصلحاً.
إن هذه الحقيقة الواقعية صادمة مذهلة توقظ الغافلين المغترين بأنفسهم، كلما تلوتُ قوله تعالى: [ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ً (103) الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ً (104) أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ً (105) ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا (106) ] سورة الكهف.

أشعر وكأنني على شفير ٍ هار ٍ، فمن يتأملها لابد أن يتهم نفسه دائما ً لأنها تنبيه صارخ وإنذار خطير وتحذير من مكر النفس وزخرفة الشيطان ووسوسة الهوى، ولأنها قد تنطبق على الأفراد والجماعات في كل مكان وكل زمان، والآيات فيها مقدمات ونتيجة وحُكـْم وحلّ، كيف ..؟!

المقدمات: الكفر بآيات الله ولقائه والاستهزاء بالرسل وما أنزل إليهم.
النتيجة: ضلال في السعي وخسران مبين.
الحكم: إحباط أعمال وعذاب جزاءً.
أما الحل: فيأتي من سياق الآيات وممّا بين السطور وممّا يسمى (المفهوم المخالف) وهو أن يظلَّ المرءُ – صانعا ً ما صنع – متهما ً نفسه باتباع الهوى والرأي الأوحد غير المسدد بالإيمان بالله أو مشورة الصالحين الفاهمين وأن يسترشد بآيات الله المفطورة والمسطورة أي (الكونية) و(المنزلة) وأن يضع نصب عينيه لقاء ربه.
فمن الناس من يقول – وهم كثير – : (يا أخي نحن في الألفية الثالثة.. والظروف لم تعد تسمح، وثمة حقائق علمية ومجتمعات متقدمة ودراسات معاصرة تجاوزت كتب الأنبياء وسننهم، وهذه الصحائف عتيقة، وهذه التفسيرات متخلفة..) وإلى ما هنالك من استهزاءات بما أُنْزِلَ ومَنْ أُرْسِلَ..
سواءً كان تصريحا ً أم تلويحا ً.. والعياذ بالله.. ولذا فخطورة هذه الآيات قابلة أن تـَمَسَّ جميع الناس بلا استثناء مدى الزمان في أي حال.. فقد يكون كاتب هذه السطور – إذ يكتب الآن – ضالا ً في سعيه من حيث أنه يحسبُ إحسان الصنع.. ولا يقولن أحد إن المقصود الكفار والمشركون والعاصون فقط..

فمَنْ خالف بسلوكِه و أفعالِه قولـَه بالإيمان فإنما هو يستهزئ استهزاءً مبطنا ً ويضمر كفرانا ً.. أرأيتَ إن قـلتَ لأكثر الناس ناصحا ً: (ومن يتـَّق ِ الله يجعل له مخرجا ً ويرزقه من حيث لا يحتسب)، قالوا: ( هذا لا ينطبق على مجتمعاتنا.. ما بقيَ لنا مخرج .. من ياتراه يتقي الآن ؟!.. وهكذا ….).
أرأيت إلى الذين يصلون ويصومون ويرتادون المساجد وقد اعتدوا على أرض هذا، وسرقوا مال هذا، ورشوا هذا، وغشوا هذا – وهم ليسوا بقليل – أليس ذلك استهزاء بالآيات والرسل وبلقاء الله.. وإن نطقوا بالشهادتين. وكل بحسب عمله وسعيه الضال على غير هدى، ومن البديهة أن من كفر بواحا ً وعصى جهارا ً لن يلتفت إلى هذه الآيات المذكورة آنفا ً إلا ما رحم ربي ولذا فالخطورة في من يتلوها (وأخواتها) ولا يعمل بها.. والخطورة في مَنْ كبر عمله وعَظـُمَ دوره في المجتمع من أهل الأعمال المادية أو الفكرية أوالثقافية من إعلام وفنون وغيرها.. والخطورة في من اشتغل بالدين نفسه من العلماء والفقهاء والخطباء والدعاة وحفظة القرآن.. – أستميحهم عذرا ً فلا أتهمهم ولا أزكي على الله أحدا ً وهم أولى مني بالنصح – ولكن أقول: ما لم يتسلحوا بإخلاص النوايا لله.. واتهام النفس الأمارة.. فهم على خطر عظيم.

لقد مر الإمام الغزالي – كما قيل – بالمدرسة النظامية التي كان إماما ً فيها يعلم الطلاب ويعطي الدروس الدينية بعد أن اعتزل الناس ورقت نفسه وصفت حاله فقال المأثور المشهور: (هنا كنا نعصي الله) متهما ً نفسه مشيرا ً إلى أنه كان يعلـّم الدين لا بإخلاص كامل ولا باحتساب تام لله، فماذا نقول نحن اليوم …؟!.

على أن الآيات المذكورة تشير إلى نذارة وبشارة أجدهما في قوله تعالى: [ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ً] يعضده قوله تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل ٍ فجعلناه هباءً منثوراً سورة الفرقان.
فإن في ذلك دلالة على أن المقصودين هم من أصحاب الوزن الثقيل والجاه،
فهي نذارة لمن يتصف بذلك. وبشارة لأصحاب الوزن الخفيف والمحرومين والمسحوقين والمقهورين والمسروقة أعمالهم (وهي رابحة) على انتصاف حقوقهم يوم القيامة من أولئك المعتدين الذين أساؤوا الصنع مدعين الإحسان وأفسدوا الأمور مدعين الإصلاح وحقروا ما بنى غيرهم وهمشوا ما أصلح غيرهم..
علينا في كل خطوة أن نخلص في النية، ونتوكل على الله في العزم، ونتقن العمل، ونستعين بالله، ونخاف لقاءه، ونتذكر آياته ونستهدي بها، لنكون من المحسنين صنعا ً لا من الأخسرين أعمالاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى