مختارات

حصوننا مهددة من داخلها.. حرب المصطلحات(5)

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب

يدرك المفكرون والعلماء والباحثون أهمية الدلالات التي تتضمنها المصطلحات التي تمثل اختزالاً لمنظومات فكرية متكاملة، ولذا أولى العلماء والمفكرون _ من مختلف التخصصات- المصطلحات أهميةً خاصة، حيث صنفوا لها المعاجم التي تشرح معانيها وتاريخها، وكيف تطورت و إلى ماذا انتهت؛ ولقد قرر أهل المنطق أنّ الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
ومما يؤكد عليه المختصون ومصنفو الموسوعات أنّ المصطلحات “أصبحت كالشيفرة التي تنقل للمتلقي مدلولا واحدا بحيث أنه لو استخدمت الكلمة ومشتقاتها، فسيعرف الجميع على الفور من أنت وما هي توجهاتك الفكرية والسياسية..
ويؤكدون على أنّ اللغة السياسية في أي بلد تعتمد على هذه الكلمات /الشيفرة التي تنقل للمتلقي لا مدلولاً واحدًا، وإنما رؤية متكاملة وأساس تصنيفيا”.(1)
وهذا ما يفسر احتدام الجدل بين التيارات الاسلامية والتيارات العلمانية، حيث يسعى كل فريق إلى فرض مصطلحاته وجعلها هي الشائعة والمتبناة في الساحة الفكرية والسياسية والثقافية.
ففرض المصطلح يعني تمرير منظومة فكرية متكاملة تدور في فلك ذلك المصطلح بهدف تشكيل الرأي العام لكسب الأنصار، فمن ينجح في فرض مصطلحاته يفرض تصوراته وثقافته على واقع المجتمع المتلق للمصطلح.

يقول محمد أسد، رحمه الله:”إن من أهم الأسباب في اضطراب الصورة التي تسود اليوم الأذهان عن الدولة الإسلامية هو أنّ المنادين بضرورة قيام هذه الدولة، والذين يخاصمونها على حد سواء، يخطئون في استعمال المصطلحات السياسية الغربية للدلالة على فكرة تختلف في حقيقتها عن فكرة الدولة الإسلامية”.(2) و يوضح أسد أنّ المصطلحات الغربية (كالديمقراطية، و الإشتراكية) تعكس مضامين تطور الفكر السياسي الغربي، فالمصطلح هو مرآة للقالب الاجتماعي السياسي الذي ولد من خلاله، مع ملاحظة أنّ هذه الدلالات تتغير وتتعدل، ومن ذلك أنّ “الديمقراطية” التي دلت، أول ما أطلقت، على النموذج الأثيني الذي كان يحصر الحقوق السياسية في عُشر سكان أثينا، عُدّلت لاحقًا، بعد الثورة الفرنسية، لتدل على المشاركة الشعبية في صنع القرار السياسي عبر آلية الانتخاب..
وهذا السياق الغربي كله لا علاقة له ولا ارتباط بالواقع التشريعي عند المسلمين لا من قريب ولا من بعيد…”3
مما سبق يتبين في جلاء أنّه حتى في الغرب فإنّ مصطلحات “الديمقراطية” و”الحريات الديمقراطية” تُستعمل، وقد استعملت فعلاً، للدلالة على معان متفاوتة كل التفاوت، وعلى هذا فإن تطبيقها _ سواء في صيغة الاثبات أو النفي- على نظرية الإسلام السياسية قمين بأن يخلق نوعاً من الغموض بالاضافة إلى أنه من خداع الألفاظ.
“فالمصطلحات السياسية والدستورية التي اتفق على استخدامها أرباب القانون الوضعي– كالديموقراطية، والاشتراكية، والشيوعية، والرأسمالية، والدكتاتورية-ترتبط بواقع حضاري وثقافي غربي، وتستمد مدلولاتها من تاريخ التجربة الغربية، الأمر الذي يجعل نقلها إلى مجتمعات تختلف فلسفياً وحضارياً عن نظائرها في الغرب مغالطة تؤدي إلى إغفال مبدأ أساسي خطير هو أنّ للأنظمة السياسية والاقتصادية في كل بلد وفي كل حضارة (سواء أكانت صالحة أم فاسدة) أسساً اعتقادية تبني عليها، وليست هي إلا مظاهر خارجية لعقيدة أو فلسفة تؤمن بها تلك الحضارة وتقوم عليها، وليست هذه الأنظمة إلا تعبيراً سياسياً أو اقتصادياً لتلك الفلسفة وتلك الحضارة”.(4)
ويرى د. نايف معروف، رحمه الله، أن “المصطلح ليس مجرد لفظ لغوي فحسب،بل هو تجريد مكثف لواقع معين بجزئياته و تفاصيله، لا بل قد يبدل أي حرف من حروفه دلالة فكرية معينة، تجعله مقبولاً أو مرفوضاً. وهذه المصطلحات تختلف لدى الشعوب والأمم باختلاف فلسفاتها وعقائدها وحضاراتها.”(5)
مقولة: لا مشاحة في المصطلحات
تتردد عبارة (لا مشاحة في الألفاظ والمصطلحات)على الألسنة وفي الكتابات بمعنى: أنّه لا حرج على أيّ باحث أو كاتب أو عالم في أن يستخدم المصطلح، أيّ مصطلح، وبصرف النظر عن البيئة الحضارية أو الإطار الفكري أو الملابسات المعرفية والعقائدية التي ولد ونشأ فيها. فالمصطلحات والألفاظ ذات الدلالة الاصطلاحية هي ميراث لكل الحضارات ولجميع الناس..

أما إذا نظرنا إليها من زاوية “المضامين” التي توضع في أوعيتها، ومن حيث “الرسائل الفكرية” التي حملتها “الأدوات: المصطلحات” فسنكون بحاجة ماسة وشديدة إلى ضبط معنى هذه العبارة. فعند الفحص والتدقيق سنجد أنفسنا أمام “أوعية” عامة، وفي الوقت نفسه أمام “مضامين” خاصة و”رسائل” متميزة تختلف لدى أهل كل حضارة من الحضارات المتميزة، بحسب الأنساق الفكرية والمذاهب و العقائد الدينية..

فمن المصطلحات الشائعة في ميدان “التشريع” القانوني مثلاً، مصطلح “الشارع”، يوصف به من “يشرع” القانون، فرداً كان أو جماعة- مؤسسة- فواضع القانون “شارع” و”مشرع” له، والمجالس النيابية التي تمثل سلطان الأمة في “تشريع” القوانين، هي “هيئات تشريعية” “تشرع” القوانين.
فهذا المصطلح – “الشارع”- يعكس الحضارة الغربية التي تضع الإنسان في موقع المشرع، وترفض أن يكون للخالق أي دور في الحياة العامة انسجاماً مع عقيدتها الرأسمالية القائمة على فصل الدين عن الحياة.فلا يصح أن يكون هذا “المصطلح” من المصطلحات الإنسانية العامة التي تعبر عن الحضارات الأخرى. (6)
ففي الحضارة الإسلامية يدل مصطلح “الشارع” على واضع أصول الشريعة ويختص به.

وإنما هي “وضع إلهي” نزل به الوحي، ديناً يتدين به المسلم.( شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِۦ نُوحٗا)(7) و(ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ)(8) و(لِكُلّٖ جَعَلۡنَا مِنكُمۡ شِرۡعَةٗ وَمِنۡهَاجٗاۚ)(9).
وهكذا فالمسلم لا يستطيع- وهو مؤمن بدينه- أن يُعطي سلطة التشريع و وصف “الشارع” لغير الله..هنا نجد أنفسنا أمام نموذج من نماذج “المشاحة في الألفاظ والمصطلحات”، ليس في المضمون فقط ولا الرسالة فحسب، بل وفي “اللفظ والوعاء والأداة” أيضا!(10).
جاء في تفسير السعدي لقوله تعالى:} يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

جاء في تفسير السعدي لقوله تعالى: “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ” كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين (رَاعِنَا) أي: راع أحوالنا, فيقصدون بها معنى صحيحا، وكان اليهود يريدون بها معنى فاسدا, فانتهزوا الفرصة, فصاروا يخاطبون الرسول بذلك, ويقصدون المعنى الفاسد، فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة, سدا لهذا الباب، ففيه النهي عن الجائز, إذا كان وسيلة إلى محرم”.
والتاريخ الحديث، على امتداد القرنين التاسع عشر والعشرين، مليء بشواهد هذه السجالات سواء منها السياسية العاصفة أو الفكرية والثقافية، بل والأكاديمية، وصولا إلى منابر المعاهد الشرعية والفتاوى في جواز أو عدم جواز استيراد الألفاظ والمصطلحات الغربية، وما تحمله من مضامين ومفاهيم فكرية لها علاقة وثيقة بوجهة النظر في الحياة.
ومن ذلك الجدل الذي دار في أواسط القرن العشرين، في ذروة صراع المعسكرين الدوليين الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي والرأسمالي بقيادة أمريكا، حول الإشتراكية ومدى قربها أو بعدها من الإسلام. ووصل الأمر ببعضهم إلى وصف النبي، بأنه “إمام الاشتراكيين”، وهذا جدال طواه التاريخ الان بعد أن طويت صفحة الاشتراكية. أما جدل مصطلحات “الحضارة” والمدنية والديمقراطية والدولة المدنية فلا يزال مستعرا ولنا له عودة في مقالة لاحقة بعون الله.
والغربيون يرون أنّ ما هم عليه من دين أو فكر أو ثقافة أو حتى عادات في المأكل والملبس والجد واللعب، بل وما كان لهم من تاريخ وما مارسوه من تجارب، وسائر ما ألفوا من جوانب الحياة، هو الأمر الطبيعي، وأن ما خالفه هو الشذود الذي يحتاج إلى تقويم لينضبط مع ما وضعوه من “معايير دولية”.
وتشكل هذه النظرة جوهر سياسة الاستعمار الفكري والثقافي الهادف الى جعل الحضارة الغربية هي”المرجع” والمقياس الذي يحكم بواسطته على مشروعية قبول أو رفض مفاهيم الشعوب التابعة فيما أطلق عليه ب”العالم الثالث”. وهذه النظرة تضع المسلمين، وغيرهم، في موقف الدفاع عن النفس وتبرير ما قد يرونه من نظرة مغايرة لما يفرضه الغرب.
ولا يمكن بحال فصل جدل، بل حرب، المصطلحات عن الصراعات السياسية التي عصفت وتعصف بالعالم .ففي “كل موقع من بلاد الإسلام قامت فيه للاستعمار الغربي سلطة ودولة، أخذ هذا الاستعمار-شيئا فشيئا- يُحل النزعة العلمانية في تدبير الدولة وحكم المجتمع وتنظيم العمران محل “الإسلامية”، ويزرع القانون الوضعي العلماني حيثما يقتلع شريعة الإسلام وفقه معاملاتها..
وعن هذا الغزو القانوني بالوافد العلماني يحدثنا عبدالله النديم(1261-1313هـ /1845-1896م) فيقول:”إنّ دولة من دول أوروبا لم تدخل بلداً شرقياً باسم الاستيلاء، وإنما تدخل باسم الإصلاح وبث المدنية، وتنادي أول دخولها بأنها لا تتعرض للدين ولا للعوائد، ثم تأخذ في تغيير الاثنين شيئًا فشيئًا، كما تفعل فرنسا في الجزائر وتونس، حيث سنّت لهم قانونًا فيه بعض مواد تخالف الشرع الاسلامي، بل تنسخ مقابلها من أحكامه، ونشرته في البلاد ، و إتخذت لتنفيذه قضاة ترضاهم، ولما لم تجد معارضاً أخذت تحوّل كثيرًا من مواده إلى مواد ينكرها الإسلام، توسيعا لنطاق النسخ الديني،ولم نلبث أن جاريناها (في مصر) وأخذنا بقانون يشبهه”.(11)

ويقول محمد أسد، رحمه الله: “أما مؤلفات الكتّاب المعاصرين من المسلمين، فقد كانت تعاني على العموم من آفة ذلك الاستعداد السريع لتقبل المفاهيم السياسية، والأنظمة، وأساليب الحكم التي تسود أوروبا على أنها “النموذج” الذي يجب – في ظنهم- أن تؤسس الدولة لإسلامية الحديثة على مثاله، وهو موقف في التفكير كثيراً ما نشأ عنه قبول مفاهيم هي وغايات العقيدة الاسلامية على طرفي نقيض”(12).
والحق أن هذا القول ينطبق على معظم كتّاب القرن الأخير، بما في ذلك خريجي المعاهد والجامعات الإسلامية، التي تعكس أشد التأثر بالغزو الفكري الغربي وتسليم الكتّاب بمقولة تفوق الغرب على الأمة الإسلامية والتطلع لمحاكاته وتقليده واقتباس نظمه وشرائعه، ولم يسلم من هذا التأثر إلا ما ندر.
يقول أحدهم: ” آن الأوان لكي يدرك المسلمون أننا نعيش ضمن منظومة عالمية مترابطة، وأن أفكارنا وأعمالنا تتعرض للتفحص والنقد من قبل جيراننا في هذه القرية الكونية. وحينما نكتب أو نفكر أو نتحدث، يجب أن نضع في اعتبارنا أولئك الذين يساكنونا في هذا الكوكب المزدحم بأهله. وهذا يتطلب أن نستصحب، دون المساس بهويتنا وخصوصيتنا، القواسم المشتركة للثقافة العالمية المهيمنة..”(13)
وهذا القول يكشف عن “عقدة” تقليد الغرب و التفكير ضمن سقف قيود الفكر الغربي المهيمن بقوة الحديد والنار وليس بقوة الحق والحجة والبرهان.

المراجع:

(1) المحمداوي، علي عبود، و حيدر ناظم محمد، مقاربات في الديمقراطية والمجتمع المدني، ص 28.
(2) أسد،محمد، منهاج الحكم في الإسلام،ص45.
(3) أسد، محمد، منهاج الحكم في الإسلام، ص 50.
(4) مفتي، محمد أحمد، ضمانات الحكم الإسلامي، ص 4.
(5) معروف، نايف، الديمقراطية في ميزان العقل والشرع، ص 243.
(6) عمارة،محمد،معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، ص 3-4.بتصرف.
(7) الشورى، 13.
(8) الجاثية، 18.
(9) المائدة، 48.
(10) عمارة،محمد،معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، ص 5-6.بتصرف.
(11) النديم، عبدالله، مجلة الاستاذ، العدد الثاني والعشرون، ص 514-515، 29 جمادى الثانية 1310هـ/17 كانون الثاني 1893م، نقلا عن محمد عمارة، معركة المصطلحات بين الغرب والاسلام، ص 27.
(12 ) أسد، محمد، منهاج الحكم في الاسلام، ص 8-9
(13) عبدالوهاب الأفندي، الإسلام والدولة الحديثة نحو رؤية جديدة، ص 7.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى