مقالات

ميراث النبوة..

اقتضى حكم الله في البشر أن يختم الرسالات السماوية بالإسلام، وأن يختتم الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم ولكن جعل لنبوته ميراثاً والعلماء ورثة الأنبياء فما هي رؤيتنا لميراث النبوة.. ؟
إن المتتبع المتأمل لسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام وللتاريخ وللمجتمع سيجد خصائص هامة في النبوة يمكن أن تورث أبرزها مايلي:
أولاً _ الخلوة والتأمل: لا يمكن إعادة المنتج الاجتماعي بثوب جديد بدون انعزال مؤقت يعطي فرصة للتأمل والتفكر الراقي السامي على مظاهر الناس وظواهر الكون لحصول الصفاء الذهني وتحليل المشاهد اليومية واستخلاص العظات والعبر وتأسيس المبادئ والمثل الصالحة لبناء المجتمع الجديد لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حبب إليه الخلاء وكان يتعبد (وعبادة التفكر خير عبادة) ويتأمل الكون بصفاء نفسي وروحي وهذه ميزة وسلوك فكري مهم.
ثانياً _ الصدق والأمانة: وهما خلقان عظيمان بل هما جوهر النبوة والدليل عليها، فالصدق: هو النقل الصحيح عن الذات (النفس) والأمانة هو النقل الصحيح عن الغير، فإذا شُهد لرجل بهما كان نبياً أو وارثَ نبي فما ثقتنا بعلم أو بخبر من حامل ٍكاذب أو غير أمين، وقد شهدت كل قريش بهما في النبي بما لا يطعن في قوله تعالى:{ وإنك لعلى خلق عظيم}.
ثالثاً _ العمل ومعرفة علاقات الناس: لقد عرفت البشرية أنماطا ًمن العلاقات الاقتصادية والاجتماعية (الرعي– الزراعة – التجارة – الصناعة الاتصالات وثورة المعلومات) ولم يعرف مجتمع النبي غير نمطين (الرعي والتجارة) ولذا فإنه زاولهما وكان مثالاً فيهما برغم خلوته وعزلته المثمرة اختلاطاً سامياً بالناس ولكي لا يُطعن فيه – حاشاه – بأنه خامل كسول عاطل عن العمل، فالعمل (بالصدق والأمانة) مدعاة للتآلف والتقارب وإدراك ما عليه الناس بغية تغييرهم وفق المشروع الجديد.

رابعاً_ عدم الانبتات عن الجذور في الدعوة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، وقال: (أنا تلك اللبنة) لأنه لا يمكن التغيير من دون تجذير وتأصيل وإحياء لما تعارف عليه الناس من مبادئ ومثل راقية وحتى لا يكون هناك قطيعة معرفية ( إبستمولوجية )، وأرشده الوحي إلى الإيمان بالرسل جميعاً وما أنزل إليهم في مواضع كثيرة قال تعالى: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيداً عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) الآية 78 / سورة الحج.
فحتى التسمية (المسلمين) لها جذور قديمة فهذه الآية تقدم مشروعاً قديماً جديداً على يد النبي.
خامساً _ التأكيد على الغد الأفضل والمستقبل المشرق : ففي غمرة الحصار في غزوة الأحزاب ( غزوة الخندق ) في المدينة المنورة تهوي الفأس على الصخرة لحفر الخندق فتنفلق فيقول النبي [ فتحت بصرى الشام ] وفي الضربة الأخرى (فتحت بلاد فارس) فشتان بين من يرى إتمام المشروع في الآتي فيندفع إلى أمام بالعمل والسعي وبين من يبكي أمجاداً ماضية فيرجع القهقرى، إن هذا الإرث النبوي إرث مهم فهو محرك نفسي واجتماعي غير مكذوب إذا ترافق بالإيمان الحقيقي.
سادساً _ رفض الواقع: إن المجاملة والمهادنة في الحق ليست من شيم النبوة فالنبوة تغيير مستمر -لا ينتهي- نحو الأفضل حتى فيما تدعو إليه والدليل حصول النسخ بأشكاله وصوره بل إن النبوات نسخت بعضها بعضاً في بعض أحكامها تمشياً مع السنة الخلقية العظمى وهل مصدر ذلك إلا الله، إن الجاهلية هي نقيض الإسلام الاجتماعي أما نقيضه الاعتقادي فهو الكفر ولذا فالصدع بالأمر والتبليغ والسعي والعمل والجهاد من الأركان الأساسية النبوية الموروثة التي تخلص من جاهليات المجتمع فلا ضير من أن ينسخ وارث نبوي ما دعا إليه وارث نبوي قبله إذا اقتضى الأمر والحكمة ذلك بنية الإخلاص وعلى هدى فإن التبدل في الأحوال سنة جارية غالبة.
سابعاً _ الهجرة من مسقط الرأس إلى مرتقى الروح: إن السماع بالدعوة أدعى إلى تصديقها من المواطن المؤالف وتحقيق الانتشار المكاني بعد الانتقال المكاني إرث نبوي مهم ولقد أصبحت الهجرة النبوية بداية تأريخ إسلامي لما اشتملت عليه من انطلاقة مرحلية مهمة من الموطن الأصلي حيث الاستضعاف إلى النصرة القوية لموطن الروح وانبعاثها (ولد الرسول في مكة وتوفي بالمدينة المنورة)، حتى إن الآيات اتسمت بالمكي والمدني، وإجمالاً واختزالاً، نقول:

  • الخلوة والتأمل: يورث الفهم والعلم النظري بالحقائق.
  • الصدق والأمانة: يورث السلوك والأخلاق الفاضلة.
  • العمل: يورث إدراك علاقات المجتمع .
  • عدم الانبتات عن الجذور: يورث حاضنة اجتماعية فكرية للتجديد.
  • الوعد بالغد الأفضل: يورث تحريكاً ودفعاً إلى أمام.
  • رفض الواقع: يورث هدماً بنـّاءً لقيم صالحة على أنقاض قيم فاسدة .
  • الهجرة: تورث انتشاراً وانطلاقاً مكانياً وغنىً ثقافياً.

وعلى الوارث النبوي أن يتحقق بهذه الموروثات، والتقصير فيها تقصير بالإرث النبوي.
وأخيراً فإن الميراث النبوي هو انطلاق زماني ومكاني وفكري وخلقي وروحي إلى حيث الرقي والسعادة في الدارين.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى