مختارات

هل ينضب مَعين الأديب؟

هند عودة_ كاتبة سعودية|

مقولة أن “الأديب نضب معينه، فقدَ قدرته و بات يكرر نفسه”؛ مقولٌة خاطئة تنفي مبتدأها من حيث أن المعنيّ بها لم يكن أديبًا من الأساس. لا يمكن لمن امتلك الموهبة أن يفقدها. هذا محال. ما يحدث أن وهج الأديب يخبو ويخفت بسبب فقدانه للدافع، للحماس، لما يثيره و يربكه ويشتته. نعم، السكون لايناسب الأديب، والاكتفاء يلجم توقه و إبداعه، و هاهما سيدا الشعر والحكمة و الفلسفة (المتنبي و المعري)، قد صنعت لهما الأقدار حاجة لتجلي في مرآة نفسيهما الناصعة صور حاجاتنا البكماء. وما قيل عن كون كل ذي عاهةٍ جبار يؤكد أن الثغرات الروحية قد تكون مخارج للإبداع. وقد يصنع الحرمان مما في أيدي الطين أرواحًا تشرئب لما في غيب السماء. ولو امتلأت أيدي الأدباء مما في أيدي المترفين لما وجدوا وقتًا للبحث عن الجمال في فتافت الحروف وزوايا الصور.
و كما يظهر الجفاف على أديم الجسد، يظهر قرينه على أديم الروح، حين يبخل الكون بغيثٍ تزهر به جنة الأديب. إما ذاك وإما فهو لايعدو عن كونه سارقًا. والسارق لايكتب إلا في ظل المسروق منه، و تحت شمعة فكره، فلا تأتي كلماته إلا بظل سيدها الحقيقي. وليس إلا الأديب الحق من يستحضر المرارات التي أصبحت جزءً من طاقةٍ أحفورية. ليس إلا هو من يجيد غرز إبرته من ثوبٍ إلى ثوب رغم تباعد الأقمشة، ليحيك منها في النهاية ثوبًا قشيبا.

الأديب جوّاب آفاق، ينهب أطراف فكرته من حواف السماوات، يخط ملاك موهبته النور في وجدانه، لتخرج حروفه لنا بيضاء من غير سوء تشع فتنةً و هداية !
الأدباء واسعو مدى التردد بين الأطياف، يقرأون ما لم يُكتب في السطور، ويسمعون مالم تنطق به الشفاه. يتخطون مدنهم والأقدار والحدود. يصغون لصوتٍ من أعماق المدى، على ترددٍ مرسل لهم لا لغيرهم. ليس معينهم ما ينضب، ولا خيالهم ما يتبخر، ولا لغتهم ما تشيخ، ولا سحرهم ما يزول. هي استراحة محارب، قد يوافيه الأجل وهو يهمّ بمغادرة الظل، لكنه لن يفعل إلا وقد بث الكون حنينه ولواعج نفسه.
تلمع نجمة ويعوي ذئب، وتظل تدوي الريح تبذر بصماته في الحقول، وتنشر آهاته على الطرقات وبين الجفون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى