مختارات

حكم الإسلام في الدولة الوطنية المستوردة (4)

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب

ذكرنا في المقالة السابقة أن “مفهوم الدولة الوطنية الذي نشأ في الغرب وقام على أساسه النظام السياسي في الدولة المعاصرة هو مفهوم دخيل على المسلمين ولا أصل له في الشريعة الإسلامية”.
فالإسلام له نظامه السياسي الخاص به والقائم على العقيدة الإسلامية التي تربط بين أفراد الأمة الإسلامية وليس على العصبية الوطنية المرتبطة بكيان متوهم من الأرض، تبنى عليه أمجاد وبطولات وأساطير لا تستند على حجة عقلية ولا إنسانية، بل تثير العصبيات والعداوات الغريزية.
وقد جاءت النصوص الشرعية لتدل على وجوب اجتماع أمر المسلمين على إمام واحد، و حرمة تجزئة الأمة أو تفتيت وحدتها بتعدد الكيانات السياسية، وقد وضع الشرع العقوبة الزاجرة لردع من تسول له نفسه السعي في ذلك. فلا يجوز أن يكون في الدنيا إلا خليفة واحد، فقد روى مسلم عن عبد الله ابن عمرو بن العاص قوله: إنه سمع رسول الله، يقول: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر»(1). وعن أبي سعيد الخُدري عن رسول الله ?أنه قال: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما»(2). وروى مسلم عن عرفجة قال: سمعت رسول الله ?يقول: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه»(3).
ولا عبرة بما يطرحه البعض من الملوثين بلوثة الحضارة الغربية الذين ينعقون بأن جمع الأمة اليوم تحت إمام واحد هو ضرب من الخبال والمثاليات لا يقول به عاقل، مع أنهم لا ينكرون توحد أوروبا برغم تعدد شعوبها وتاريخهم المليء بالصراعات الدموية، فمقياسنا في الرد هو الاحتكام إلى ما جاءت به الأدلة الشرعية الواضحة والقاطعة بحرمة تعدد الخلافة؛ ومن أراد منهم المشاغبة بأنّ التاريخ الإسلامي شهد تعدد الخلافة في الاندلس و مصر فلا نسلّم له بذلك أولا، وثانيا لا حجة له فيه على فرض صحة هذا الزعم، فالشرع هو الحكم والفيصل على أعمال الرجال وليس العكس، فما قد يكون فعله فلان أو فلان من الحكّام والسلاطين فإن خالف الشرع أُخذ بجريرته، ولا يصح القول إن فعله دليل على أن الشرع يبيح هذا وذاك من تصرفاته، كما أن إباحة الربا اليوم وشيوعها في بلاد المسلمين، بما فيها البلد الحرام، اليوم لا يمكن بحال أن يُتخذ حجةً للدلالة على إباحتها.
وهنا مفرق الطرق بين النظام الاسلامي القائم على العقيدة الاسلامية وبين النظام العلماني القائم على عقيدة فصل الدين عن الحياة ، والذي صاغ هذه المفاهيم الوطنية التي تجعل من الانسان عدوًا لأخيه الإنسان بسبب الانتماء إلى الأرض أو العرق تحت ظل الخرقة المسماة “الوطن”. فالإسلام يجعل من آصرة العقيدة هي آصرة التجمع في المجتمع الإنساني؛” فلا دم أو نسب أو عشيرة أو قوم أو جنس أو عنصر أو لون أو لغة. فكل هذه العناصر فُرضت على أي إنسان قبل مجيئه إلى الأرض، ولا يؤخذ له فيها رأي أو مشورة، انما هي تفرض عليه فرضا، سواء أحب أم كره!، فإذا تعلق مصيره في الدنيا والآخرة معا ، أو حتى في الدنيا وحدها، بمثل هذه المقومات التى تفرض عليه فرضا، لم يكن مختارا ولا مريدا، وبذلك تُسلَب إنسانيته مقوما من أخص مقوماتها, وتُهدر قاعدة أساسية من قواعد تكريم الإنسان!
فالإسلام يجعل العقيدة، التى يملك كل فرد اختيارها بشخصه منذ أن يبلغ سن الرشد ، هي الآصرة التى يقوم عليها التجمع الإنسانى في المجتمع الإسلامي، والتى يتقرر على أساسها مصير كل فرد بإرادته الذاتية، وينفي أن تكون تلك العوامل الاضطرارية، التى لا يد له فيها، ولا يملك كذلك تغييرها باختياره، هي آصرة التجمع التى تقرر مصيره طوال حياته.
فأما العقيدة والتصور والفكرة والمنهج، فهي مفتوحة دائماً للاختيار الإنساني، ويملك الإنسان في كل لحظة أن يعلن فيها اختياره وأن يقرر التجمع الذي يريد أن ينتمي إليه بكامل حريته فلا يقيده في هذه الحالة قيد من لونه أو لغته أو جنسه أو نسبه، أو الأرض التي ولد فيها وهنا كرامة الإنسان في التصور الإسلامي.(4)
من شأن قيام المجتمع على آصرة العقيدة، وعدم قيامه على العوامل الأخرى، أن ينشأ مجتمعا إنسانيا عالميا مفتوحا، يجىء إليه الأفراد من كل الأجناس والألوان واللغات والأقوام بكامل حريتهم واختيارهم الذاتى، لا يصدهم عنه صاد، ولا يقوم في وجوههم حاجز،ولا تقف دونه حدود مصطنعة،خارجة عن خصائص الإنسان العليا، و أن تصب في هذا المجتمع كل الطاقات والخواص البشرية، وتجتمع في صعيد واحد، لتنشىء “حضارة إنسانية” تنتفع بكل خصائص الأجناس البشرية.
ولقد كان من النتائج الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية؛ أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعا مفتوحا لجميع الأجناس والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق السخيفة.
وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة؛ و لم تكن هذه الحضارة يوما ما “عربية”، إنما كانت دائما “إسلامية”، ولم تكن يوما ما “قومية”، إنما كانت دائما “عقدية”.

وما كان الإسلام ليخلص الناس من الأصنام الحجرية والأسطورية، ثم يرضى لهم بعد ذلك أصنام الجنسيات والقوميات والأوطان وما إليها، يتقاتل الناس تحت رايتها وشعاراتها، وهو يدعوهم إلى الله وحده وإلى الدينونة له دون شيء من خلقه! (5)

في الخلاصة، فإنّ الإسلام يأبى إلا أن يقيم قواعد المجتمع الإسلامي على ما يرضي الله سبحانه، و ليس على مقاييس البشر أو أهوائهم، و مفهوم “الوطن” و
ما يبنى عليه من رابطة الوطنية هي من باب العصبية الجاهلية التي يرفضها الإسلام ، وقد تبين معنا أن مفهوم “الوطن” هو من نتاج الحضارة العلمانية الغربية وما واكبها من منظومة فكرية سياسية لا تمت للإسلام بصلة. والإسلام يأمر أن تكون رابطة الإيمان بالله وما انبثق عنها من مفاهيم شرعية وأحكام حاكمة على حركة الفرد والمجتمع ، تشكل في مجملها الحدود الشرعية التي لا ينبغي تعديها.
فالمسلم إن اختار لنفسه العيش في دار الكفر فليس له حقوق الرعوية على الحاكم المسلم في دار الاسلام، أما الكافر الذي ارتضى العيش مع المسلمين فله حق الرعوية على الحاكم والدولة(6). “فالذّمّيّ بقبوله أحكام الإسلام، وبالإقامة الدائمة في دار الإسلام، يصبح جزءا من شعب الدولة الإسلامية، ويحمل رعويتها. ومن منطلق كون الدولة الإسلامية دولة دعوة تهدف إلى تحويل كل دار كفر إلى دار إسلام فمن باب أولى قيامها بمنح رعويتها لمن أراد الإقامة الدائمة فيها”.(7)
فالوطنية لا يمكن بحالٍ أن تكون هي “هويَّةَ” المسلم، ولا مجرَّدَ جزءٍ في هذه الهويَّة؛ فهذا يؤدِّي إلى تشتُّتِ انتماء المسلم، وفقدان فاعليَّة الهويَّة الإسلاميَّة، فضلاً عن مخالفته للشريعة الربانيَّة، و”الهويَّةُ الوطنية” مفهومٌ يرفضه الاسلام؛ لأنَّها:
• تشوبُ صفاءَ التَّوحيد، وتنقض عقيدة “الولاء والبَراء” فيه إنْ جعلَها الإنسان محورَ ولاء؛ بأن يكون ولاؤه منعقِدًا على أبناء الوطن الواحد، بغضِّ النَّظر عن معتقداتهم وأفكارهم، بل حتَّى لو كانوا من المشركين!
• اتِّباع للأهواء وعقول البشر فيما ينبغي أن تكون مرجعيَّتُه هي الشَّرعَ وحده، فهي زعم أنَّ هناك قيماً إنسانيَّة يكون لها مصدر يَمْلك فَرْضها أو إباحتها أو حَظْرها غير الشريعة الإسلاميَّة،التي أنزلها الله-سبحانه وتعالى- وهذا المصدر هو “الوطنيَّة”، أو “الحسُّ الوطني”، أو “الثوابت الوطنية”!
• تفتقرُ إلى الموضوعيَّة؛ فلا يوجد ضابطٌ يحدِّد “القيم” التي تقتضيها، بل كلٌّ يزعم لها ما يَشاء، ويُدخل في مقتضياتها ما يَشاء. وهذا يعني أن ما هو محرم في بلد قد يكون مباحا (بموجب القوانين الوطنية) على الجانب الآخر من الحدود والعكس بالعكس؛ فإذا علمنا أن الخطوط الوهمية التي رسمها المستعمر للكيانات المفروضة لا تقوم على أي أساس موضوعي، بل تفرق بين أبناء المنطقة نفسها فتجعل هذا سوريا وذاك عراقيا او اردنيا، أدركنا خطورة هذه الجريمة، فضلا عما تقوم به الأنظمة من رفع رايات الوطنية لتبرير التقاتل فيما بين أفراد الأمة الواحدة! وما الذي يجعل هلال رمضان يُرى في الأردن ولا يُرى في سوريا أو فلسطين أو لبنان؟ لا شيء غير التبعية للاستعمار الغربي!
• تُفْضِي إلى التَّبعية للغرب؛ فحين تجزَّأَت الأُمَّة إلى كيانات وطنيَّة متفرِّقة هزيلةٍ، كان أن التحق كلُّ كيانٍ بقوَّة كبرى تسنده، لأنَّه لا يعتمد على هويَّةٍ أصيلة عند الأمَّة، فكان من البديهيِّ أن يكون تابعًا لإحدى القوى الكبرى.
• نزعةٌ عَمِلَ الغرب على زرعها بين المسلمين، لتفريقهم، والحيلولة دون وحدتِهم، بإثارة البغضاء والخصومات فيما بينهم، و”خلق” ولاءات متعارضة لحماية “خطوط وهمية” وحماية “أوثان” مصطنعة.
• تقليد لا مُبَرِّر له؛ فمُلابسات ظهورها ونشأتها في أوروبا لم تمرَّ بها الأمة الإسلامية، فكان اعتبارُها شيئًا حتميًّا -على الأمة الإسلاميَّة أن تتعايش معه – أمرًا منافيًا للموضوعيَّة! ولا نحتاج إلى أن نبرِّر تَوافُقَ الإسلام مع كلِّ وافد يأتينا من قِيَم الغرب؛ ففي ديننا من القِيَم والمَوازين ما يُغنينا.
وهكذا نخلص إلى القول إن منظومة “الدولة الوطنية” التي عمل الإستعمار الغربي على فرضها على الأمة الإسلامية ، بعد أن مزّق وحدتها بأن خلق كيانات “سياسية وطنية” سمّاها دولاً ذات سيادة، هي من نتاج الاستعمار الغربي على مستوى الفكر والممارسة، وتتناقض مع العقيدة الإسلامية التي تفرض وحدة الأمة ،التي ترتبط فيما بينها برابطة العقيدة الواحدة القائمة على الإيمان برب الكون ورسوله الذي بلّغ رسالة القرآن للعالمين، هذه العقيدة التي لا تعرف ولا تعترف بأي حدود موهومة مصطنعة تفرق بين الإنسان والإنسان، بل تسعى لوحدة البشرية في عبوديتها لخالقها.

المراجع:
(1) صحيح مسلم، باب إذا بويع لخليفتين، ج 3، ص 1480. ورواه بنفس اللفظ ابن ماجه في سننه عن عبدالله بن عمرو بن العاص، سنن ابن ماجة، ج 2، ص 1306.
(2) صحيح مسلم، باب اذا بويع لخليفتين، ج 3، ص 1480.
(3 ) صحيح مسلم، باب اذا بويع لخليفتين، ج 3، ص 1480.
(4) قطب، سيد، في ظلال القرآن، ج3، ص 1562.
(5) المرجع نفسه، ص 1562.
(6) في قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً ۚ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا ۚ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) (النساء،92) سقطت الدية عن المؤمن الذي قتل خطأ وهو من دار الحرب، أما إن كان المؤمن من دار الكفر وبين أهلها ودار الاسلام معاهدة وميثاق فتؤدى ديته إلى أهله.
(7) المفتي،محمد، مفاهيم سياسية شرعية، ص 178.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى