مختارات

سموم الدولة الوطنية المستوردة (3)

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب


مع أنه “لا يوجد مصطلح مستقل في اللغة العربية يشير إلى مفهوم المواطنة”(1)، فقد قام الشيخ رفاعة الطهطاوي بطرح فكرة “الوطن” لأول مرة في التداول في العالم الإسلامي بعد أن عاش خمس سنوات في باريس(1826-1831م) عاصر فيها السجالات والطروحات الفكرية السياسية التي كانت تعصف بالمجتمع الفرنسي يومذاك، فوقع من حيث يدري أو لا يدري تحت تأثير ما عايشه من نظرة غربية حملها معه ليبشر بها في مصر إثر عودته. “فللمرة الأولى في البيئة الإسلامية نجد كلاماً عن الوطن والوطنية وحب الوطن بالمعنى القومي الحديث في أوروبا الذي يقوم على التعصب لمساحة محدودة من الأرض، يُراد اتخاذها وحدة وجودية، يرتبط تاريخها القديم بتاريخها المعاصر ليكوّنا وحدة متكاملة، ذات شخصية مستقلة، تميزها عن غيرها من بلاد المسلمين وغير المسلمين، وللمرة الأولى نجد اهتمامًا بالتاريخ القديم يوجّه لتدعيم هذا المفهوم الوطني الجديد.”(2)
وكشف المستشرق اليوناني(بي.جي.فاتكيوتس) بوضوح دور الطهطاوي في قوله:” كان (الطهطاوي) معجباً بعقلية التنوير الأوروبي، وكان أول مـن قـدّم بطريقة منظمة وذكية المبادئ العامة للمؤسسات السياسية الأوروبية، ومن خلال شرحه لأفكار عصر التنوير والثورة الفرنسية وهما عماد هذه المؤسسات، فقد فتح الطريق لتابعيه للهجوم المكثف على كل ما هو تقليدي.. أدخل الطهطاوي إلى قرائه، وهو يصف الدستور الفرنسي والمؤسسات السياسية الفرنسـية، فكرة (السلطة العلمانية) ومفهوم (القانون الوضعي).” (3)
ومما يدل على غياب فكرة الوطن بمعنى المصطلح الاوروبي عند المسلمين، ما جاء في مذكرة القنصل الفرنسي في بيروت (بلونش) التي قدمها عام 1856م إلى وزير خارجية بلاده، قال له فيها:”الحقيقة الكبرى والأبرز التي تحضر في أثناء دراسة هذه البلدان هي المكانة التي يحتلها الفكر الديني في أذهان الناس، والسلطة العليا التي يشكلها في حياتهم. فالدين يظهر حيث كان، وهو بارز في كل المجتمع الشرقي، في الأخلاق وفي اللغة والأدب وفي المؤسسات، وترى أثره في كل الأبواب.

الشرقي لا ينتمي إلى وطن حيث ولد، الشرقي ليس له وطن، والفكرة المعبرة عن هذه الكلمة، أي عن كلمة وطن، أو بالأحرى عن الشعور الذي توقظه، غير موجودة في ذهنه، فالشرقي متعلق بدينه كتعلقنا نحن بوطننا…”(4)
إلا أن أدعياء فكرة “الوطنية” لما أرادوا أن يبتدعوا فكرة يكرّسون بها الكيانات التي أقامها الغرب المستعمر في بلادنا،بعد أن قسّمها إلى دويلات هزيلة، حرّفوا كلمة “الوطن” لتصبح دالة على لبنان وعلى العراق و الأردن و فلسطين و سوريا و مصر التي أوجدتها معاهدات الغربيين و مؤامراتهم.وقد ذهب بعض المقلدين للفكر الغربي إلى القول إنّ “الدولة الوطنية إما أن تكون علمانية وإما لا تكون دولة وطنية، بل لا تكون دولة…. فإنّ علمانية الدولة تتأسس على مبدأ الإنسان وعلى مبدأ المواطنة، وهما مبدأن حاكمان على الدولة الوطنية”(5).
وحتى ينجح المشروع الغربي استعمرت المنطقة أولاً، ثم تم تقسيمها، ثم سُلمت لنخب تحافظ على ذلك التقسيم، ووضعت المنطقة داخل إطار سياسي نابع من نموذج الدولة القومية القطرية الغربي، حتى لا تستطيع تحقيق وحدتها، وتظل الدول القائمة وسيلة أساسية في منع توحيد الأمة الإسلامية، ثم يتم بعد ذلك تنميط أسس النظم العامة من خلال استيراد القوانين الوضعية من الغرب، ثم توضع معايير لمختلف جوانب النظام العام، حتى الجوانب الاجتماعية، والتي تؤدي إلى إخضاع النظام العام للمعيار الغربي، وبهذا لن تستطيع الدول العربية والإسلامية، تحقيق النهوض من خلال خصوصيتها الحضارية.(6)
ولعل سكة الحديد التي أنشأها السلطان عبدالحميد الثاني رحمه الله قبل أكثر من قرن من اسطنبول الى الحجاز وما بينهما من بغداد الى حلب ودمشق ووبيروت وحيفا هي ابلغ شاهد عيان على فداحة جريمة الدولة الوطنية التي لم تتحمل هذا المعلم الهام الشاهد على ارتباط المسلمين ببعضهمـ فقامت الدول الوطنية التي فرضها الاستعمار بتخريب هذه السكة، فلا يستطيع ابن طرابلس اليوم، مثلا، الانتقال بالقطار إلى بغداد أو إلى المدينة المنورة، فما هو حلال على الأوروبي الذي ينتقل بالقطار من نيس إلى هامبورغ أو إلى براغ أو لندن، هو حرام على المسلم، وما هذا إلا إحدى ثمرات الوطنية التي فرضها المستعمر الغربي و حافظ عليها أجراؤه من الحكام النواطير!
هكذا يتبين أن مصطلح “الوطن” و”الدولة المستقلة ذات السيادة الوطنية” هي من أهم أدوات الغزو الفكري الغربي، الذي استخدم بعض النصارى و بعض أبناء المسلمين مطية لترويج سموم الحضارة الغربية، وإضفاء المشروعية على الأوضاع التي فرضها المستعمر، بغية الحيلولة دون عودة وحدة المسلمين تحت ظل الدولة الاسلامية الجامعة كما كان الحال منذ عهد النبوة. وهكذا “أفاق المسلمون بعد سبات طال ليجدوا أنفسهم قاطنين في عالم القومية هذا، وحُكم عليهم أن يخدموا إلى الأبد هذه المؤسسات وأن يعبدوها من دون الله، وأصبح شعار المرحلة وعقيدتها هما “وطني إن أخطأ أو أصاب” أو “أمتي فوق الجميع”.

ولم يعد التسبيح بحمد الله هو المطلوب ولا الجهاد في سبيله، بل أصبح الإعتقاد بأن الوطن هو الأعظم والبديل عن شعار “الله أكبر”، بينما أصبح الوطن هو الذي يقاتل في سبيله الناس فيُقتلون ويَقتلون. فلا عجب إذن أن يصيب المسلمين دوار مزمن وفقدان للهوية، بعد أن شهدوا هذا الإنقلاب في المفاهيم دون أن يكونوا جزءاً منه.”(7)
وبذلك تصبح “الوطنية” هي الرابطة التي تجمع الناس الذين يعيشون داخل حدود دولة من هذه الدول، وتفصلهم عن سائر الناس الذين هم خارج تلك الحدود. وبذلك يصبح اللبناني مرتبطا فقط باللبناني ويصبح المصري مرتبطا فقط بالمصري، حتى تنقسم الأمة وتتعدد همومها، ولا تعمل سويا في سبيل قضية واحدة هي قضية الأمة، فما يهم الجزائري لا يهم التونسي…ولتبرير جريمته في إلغاء الخلافة، خاطب مصطفى كمال أتاتورك البرلمان التركي سنة 1923م في مَعرِض تبريرِه لفصل تركيا عن المسلمين من العرب والهنود، الواقعين حينها تحت الاحتلال البريطاني والفرنسي، قائلاً: (أليس من أجل الخلافة والإسلام ورجال الدين قاتل القرويون الأتراك، وماتوا طيلة خمسة قرون؟ لقد آن الأوان أن تنظر تركيا إلى مصالحها، وتتجاهل الهنود والعرب، وتنقذ نفسها من تزعُّم الدول الإسلامية) وهكذا. و من أجل تكريس ذلك المفهوم، بُثت بين الناس شعارات مضللة خبيثة مثل “الدين لله والوطن للجميع” ومثل نحن ننتمي إلى الوطن قبل أن ننتمي إلى الدين” و غيرها من الشعارات التي تتعارض مع الاسلام من حيث الأساس.
فأين الوطنية من قوله صلى الله عليه و سلم : “مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (صحيح مسلم).
من هنا يتبين أن مفهوم الدولة الوطنية الذي نشأ في الغرب وقام على أساسه النظام السياسي في الدولة المعاصرة هو مفهوم دخيل على المسلمين ولا أصل له في الشريعة الإسلامية.

المراجع
(1) المحمداوي، علي عبود وحيدر ناظم محمد، مقاربات في الديمقراطية والمجتمع المدني، ص 31).
(2)حسين،محمد محمد، الإسلام والحضارة الغربية، ص 19.
(3) فاتيكيوتس، بي ج(P.J. Vatikiotis)، تاريخ مصر من محمد علي إلى حسنى مبارك، ص 418.
(4) السماك، محمد، مقال: في معنى استشهاد الإمام الحسين، جريدة المستقبل اللبنانية، الإثنين 29 كانون الثاني 2007 – العدد 2515.
(5) الجباعي، جاد الكريم، مدخل سياسي إلى العلمانية أو مدخل علماني إلى السياسة، موقع الأوان www.alawan.org
(6) حبيب، رفيق، منتج إسلامي.. طبقًا للمواصفات الغربية.

(7) الأفندي، عبدالوهاب، الاسلام والدولة الحديثة، ص 12.




مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى