مختارات

الأكابر يستوصون خيراً بالأكابر.. وقفات عبّاسيّة

هند عودة_كاتبة سعودية|

ومما جاء في “قصص العرب” قصة إبراهيم بن المهدي مع ابن أخيه المأمون. وكان إبراهيم قد ادعى الخلافة لنفسه بالريّ، وأقام مالكًا لها مايقارب العامين. وقد عُـرِف عنه فصاحة اللسان، وحسن المنادمة، مع ضربٍ بالملاهي ويدٍ طولى في الغناء.
والمهم، أن أحداث القصة تدور حول تلك الفترة التي اقتحم فيها المأمون الريّ، ورصد جائزةً قيّمة لمن يأتيه بعمه إبراهيم، وكيف خرج الأخير هائمًا على وجهه يلتمس النجاة، فكان أن اختبأ في دار عبدٍ حجّام عدة أيام(وتطول أسطر القصة في سرد ماكان من شأن منادمتهما لبعضيهما شرابًا وغناء)، ولما تذمم ابن المهدي من الإقامة، تزيـّا بزيّ النساء وخرج من دار الحجام، وعلى لسانه أنقلُ ماأريدُ الاستشهاد به: ” ولما صرتُ في الطريق داخلني من الخوف أمرٌ شديد، وجئت لأعبر الجسر، فإذا أنا بموضعٍ مرشوشٍ بماء، فأبصرني جندي ممن كان يخدمني، فعرفني وقال: حاجة المأمون!! ثم تعلّق بي، فدفعته هو وفرسه، فرميتهما في ذلك الزلق، واجتهدت في المشي حتى قطعت الجسر، ودخلت شارعًا فوجدت باب دار، وامرأة واقفة في دهليز، فقلت: ياسيدة النساء؛ احقني دمي، فإني رجلٌ خائف.ففعلت، وأطلعتني إلى غرفٍة مفروشة، وقدّمت لي الطعام، قائلة: ليهدأ روعك، فما علم بك مخلوق. وإذ بالباب يُدق دقًا عنيفا، وإذ هو صاحبي الذي دفعته على الجسر، مشدوخ الرأس، ودمه على ثيابه. فقالت له المرأة: ياهذا! مادهاك؟ فقال: ظفرتُ بالمُـغنيّ وانفلت عنيّ. فأخرجتْ خرقًا وعصبتْ رأسه، وفرشت له، فنام قليلاً ثم خرج. وأقمتُ عندها ثلاث ليال، ثم خرجتُ، وقد ارتديتُ زيّ النساء، فأتيتُ إلى بيت مولاةٍ كانت لنا، فلما رأتني بكت وتوجّعت وحمدتِ الله على سلامتي، وخرجتْ كأنها تريد السوق للاهتمام بالضيافة، فظننتُ خيرًا، فما شعرتُ إلا بأحد رجال المأمون في خيلِه ورَجله، والمولاة معه حتى سلّمتني إليه، فرأيتُ الموت عِيانًا، وحُمِلت بالزيّ الذي أنا فيه إلى المأمون” ا.هـ.

وهنا وقفات لابد من تأملها، وأخذ العظة منها. أهمها موقف الجندي الذي كان يخدم ابن المهدي، ثم سريعًا ماانقلب عليه، وتنكّر له، حتى غدا يعيّره بـ”المغنيّ” في تحوَلٍ عجيب، يؤكد خساسة هذه الفئة، وعِظم غدرها. وهو إن أنعمت النظر، ليس بالغريب على صنفٍ رضوا لأنفسهم أن يكونوا هُريّ باطشة في أيد الحكام، يتسلطون على الشعب دون أن تأخذهم فيهم رحمة، ولا مروءة، ولا حتى دين. مجرد بيادق جوفاء إلا من الصلف والقسوة.
والوقفة الثانية، عند موقف الجارية من سيدها، وهي على حالات، فإما أنها عانت من الظلم على يديه، فوجدت في لجوئه إليها فرصًة للثأر منه. وإما أنها لم تكن توقّر ابن المهدي، الذي كان يُـعيّر بالغناء كما أورد الكتاب، ووجدت المأمون أهلاً لأن يقتص منه ويخلعه. والاحتمال الثالث، وهو الأقرب، أنها لئيمةٌ، وضيعة الأصل، دنيئة النفس. بدليل أنها أظهرتْ له التوجّع والرثاء، وبكت لحاله، وقامت بخداعه، حين أرته غير ماتبطن. وكان بإمكانها بكل سهولة صدّه ورفض استقباله، خصوصًا وأنه في موقف ضعف، ولايملك عليها سلطانًا. وفي هذا عبرة لأن يسمو الإنسان بنفسه عن الالتجاء-بعد الله- إلا لمن خبر دواخلهم، وأيقن نبل أصلهم، وسلامة صدورهم، وعظيم مروءتهم.
والوقفة الأخيرة، هي بخصوص موقف المأمون من عمه، حين عفى عنه، وردّ إليه ماله وضياعه، ثم أمر بإحضار المرأة التي خبأته، وأدخلها القصر، وقال: هذه امرأة عاقلة تصلح للمهمّات! وأحضر الحجّام، وخلع عليه، وأجرى له ألف دينار ٍ في كل عام. والخلاصة، أن الأكابر يستوصون خيرًا بالأكابر، ويرأفون لحالهم، لأنهم يرون فيهم أنفسهم، فيكرمون وفادتهم، ويحولون دونهم ودون ذل الأيام، تحسّبًا ليومٍ يكونون فيه مكانهم. فياأيها المغلوب على أمره، اجعل عينك في السماء، وراقب الله، واعمل لآخرتك، ودع عنك المزاحمة على أبواب الأسياد، فوالله مانهانا المصطفى صلوات الله وسلامه عن ذلك، إلا لحكمٍة بالغة، ونفعٍ وفير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى