مختارات

دور عملاء الاستعمار الغربي في هدم حصوننا (1)

د. عثمان محمد بخاش

باحث في الفكر الإسلامي والقضايا المعاصرة
عرض مقالات الكاتب


توحدت الجهود كلها في أوروبا في حرب شنتها أولاً من ناحية ثقافية بتسميم العقل المسلم كله بما شوهوه من أحكام الإسلام ومُثُله العليا، وبالتسميم الأجنبي لعقول أبناء المسلمين بما يقولونه عن الإسلام وتاريخ المسلمين باسم البحث العلمي والنـزاهة العلمية، وما هو إلا السم الثقافي الذي هو أخطر من الحروب الصليبية. وكما كان دعاة التبشير يقومون بهذا التسميم باسم العلم والإنسانية، كان المستشرقون يقومون به باسم الاستشراق.
كانت الغزوات التبشيرية، التي قام بها حشد من مؤسسات التبشير والإرساليات الأجنبية ورجالها، هي الطلائع التي مهدت الطريق للاستعمار الأوروبي ليفتح العالم الإسلامي فتحاً سياسياً بعد أن فتحه فتحاً ثقافياً(1).

وبعد أن حمل المسلمون القيادة الفكرية الإسلامية للغرب حين فتحوا استانبول والبلقان وأدخلوا الإسلام في أوروبا، صارت البلاد الإسلامية هدفاً للغرب، يحمل قيادته الفكرية إليها، ومسرحاً لحضارته ومفاهيمه عن الحياة، يذيعها بشتى الوسائل تحت اسم العلم والإنسانية والتبشير الديني. ولم يكتف بحمل حضارته ومفاهيمه، ولكنه كان يطعن بالحضارة الإسلامية ومفاهيم الإسلام عن الحياة حين كان يوجه حملاته ضد الإسلام، فأثّر ذلك في الفئة المثقفة، وفي رجال السياسة، بل في حملة الثقافة الإسلامية، وفي جمهرة المسلمين.
ومن قبيل المثال لا غير، نذكر الخطبة المرتجلة التي ألقاها محمد رشيد رضا في احتفال للأرمن في القاهرة بشهداء الحرية:”يعلم كثير من الأرمن الحاضرين أنني من مؤسسي إحدى جمعيات الأحرار الماسونيين التي سبقت غيرها إلى التأليف بين جميع العثمانيين بالفعل، قبل أن تفكر في ذلك جمعياتنا في أوروبا، بل إنّ هذا الفقير هو رئيس اللجنة المؤسسة لهذه الجمعية الماسونية التي من بعض أعضاء إدارتها أحد خطباء الأرمن في هذا الاحتفال”، وعلّق فارس نمر على هذا الكلام بقوله:”إن تأثير هذه الوقفة أعظم من تأثير”المنار” في عشر سنين”(2).

هذا فضلاً عن عشرات من الشخصيات التي أدّت دورًا هداماً في الترويج لمشاريع الغرب في بث الفتن بين المسلمين، والدعوة للمذاهب العلمانية والفلسفات المادية، بل وكانوا رأس حربة سامة في الأعمال السياسية التي آتت أكلها في هدم الخلافة العثمانية أولًا، ثم في تركيز النهج الغربي في مرحلة ما بعد الخلافة.ويضيق المجال هنا عن ذكر كثير من هؤلاء، وبعضهم، على شاكلة رشيد رضا، من الأسماء اللامعة في عالم الفكر والثقافة والسياسة بل والدين، ممن يصح اعتبارهم طابوراً خامساً وسادساً وسابعاً، كان لهم دور هدام في الترويج لمخططات الغرب.(3)
من ذلك ما نقله موفق بني المرجة عن خليل حاوي قوله عن “جمعية الحلقات الذهبية” التي شارك جبران خليل جبران بتأسيسها، تحت ستار الرابطة الأدبية، “إن جميع أعضاء الجمعية كانوا ماسونيين وإن الجمعية لم تقبل في صفوفها إلا من كان ماسونيا” ،ثم يعقّب بني المرجة:”ومما يُذكر أن هذا الرعيل من “الوطنيين” قام بدور خطير في البلاد العربية عقب انهيار الخلافة الإسلامية، فقد استعانت سلطات الانتداب البريطاني أو الفرنسي بأولئك الماسونيين الذين تربعوا على كراسي الحكم والوزارة، كما عمد الاستعمار إلى تسليط هؤلاء “الفلاسفة” لغسيل أدمغة الأمة بأدبهم وشعرهم وقصصهم ومسرحياتهم ورواياتهم وأفلامهم، فلم يتركوا فرصة لم يجرحوا فيها الخلافة، أو ينفذوا لطعن الإسلام، تحت ستار الإصلاح والتجديد والتحديث والتطوير”.(4)
ويفضح محمد عمارة(5) حقيقة الدور الذي قامت به”مدارس الإرساليات التبشيرية الاستعمارية- وخاصة الفرنسية منها في لبنان- بتخريج “جيش الغزو الفكري الثقافي” بحسب تعبير القناصل الفرنسيين في بيروت إذ وصفوا هدف إقامة هذه المدارس لأبناء الطائفة المارونية بأنه تكوين “جيش متفان لفرنسا في كل وقت يجعل البربرية العربية- كذا- تنحني لاإرادياً أمام الحضارة المسيحية لأوروبا.

ولقد هاجرت “كتيبة” من هذا “الجيش” إلى مصر، وأقامت فيها المنابر الإعلامية والثقافية والمنتديات الفكرية والمؤسسات الثقافية وأخذت – في حماية الاستعمار الإنجليزي و بمعاونته- تمارس حملةً شرسةً من التغريب الفكري والثقافي لإحلال الحضارة الغربية محل الحضارة الإسلامية:

  • – فأول صوت ارتفع بالدعوة إلى إحلال العامية محل العربية الفصحى كان صوت واحد من هذه “الكتيبة الثقافية” هو أمين شميل.
  • و أول صوت ارتفع في بلادنا مبشّرا بالفلسفة الإلحادية في النظرية (الداروينية) كان شبلي شميل شقيق أمين شميل.
    -وأول صوت ارتفع بالدعوة إلى تعميم العلمانية في الثقافة والفكر والمجتمع- بعد علمنة القطاع الأكبر من القانون والقضاء- كان هو صوت فرح أنطون أحد أفراد هذه “الكتيبة”.
  • أما مجلة “المقتطف”، التي أسسها اثنان من فرسان هذه “الكتيبة” يعقوب صرّوف وفارس نمر، فلقد ظلت لأكثر من ستين عامًا (1293-1371هـ/1876-1952م) تترجم من العلم الغربي النظريات ذات الفلسفة المادية والظلال الالحادية والايحاءات اللادينية، لتحل نموذج العلم الغربي ذي النزعة المادية محل نموذج العلم الاسلامي، الذي وظفته حضارتنا في دعم التدين وتنمية الايمان.ولقد كانت هذه المجلة- التي تستّرت بالعلم لتشيع المادية،والشك، والعلمانية، والالحاد- “الديوان الفكري” الذي جمع هذه الكتيبة من كتائب جيش الغزو الفكري.
  • أما جريدة “المقطم” التي كانت أركان حرب الإعلام للاستعمار الانجليزي في مصر- فلقد أصدرها ثلاثة من فرسان “كتيبة التغريب” هذه، هم يعقوب صرّوف وفارس نمر وشاهين مكاريوس. ودام عمرها عمر الاستعمار الانجليزي(1306-1371هـ/ 1889-1952م)، ووصفها عبدالله النديم بأنها ” الصحيفة الإنجليزية التي تصدر في مصر”.
  • ولقد تربى على أيدي هذه الكتيبة الفكرية وتعلم في منابرها ومنتدياتها الثقافية واستعار مناهجها المتغربة نفر من صفوة المثقفين والمفكرين المصريين، بعضهم عن كراهية للإسلام وعمالة حضارية لأوروبا، من مثل سلامة موسى (1305- 1377هـ/1888-1958م) الذي امتلك من الجرأة ما بلغ به حد الوقاحة، فأعلن عن مرامي هذه المدرسة التغريبية وقال:” كلما ازددت خبرة وتجربة وثقافة توضحت أمامي أغراضي وهي تتلخص في أنه:
  • يجب علينا أن نخرج من الشرق و أن نلتحق بأوروبا. فإني كلما زادت معرفتي بالشرق زادت كراهيتي له، وكلما زادت معرفتي بأوروبا زاد حبي لها وتعلقي بها، وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها.
  • أريد تعليمًا أوروبيًا لا سلطان للدين عليه ولا دخل له فيه.
  • وحكومة كحكومات أوروبا لا كحكومة هارون الرشيد والمأمون.
  • وأدبا أوروبيا أبطاله مصريون، لا رجال الفتوحات العربية.
  • وثقافة أوروبية لا ثقافة الشرق، ثقافة العبودية والتوكل على الآلهة.
  • واللغة العامية، لغة الهكسوس، لا لغة العربية الفصحى، لغة التقاليد والقرآن.
  • والتفرنج في الأزياء لأنه يبعث فينا العقلية الأوروبية. هذا هو مذهبي، الذي أعمل له طول حياتي سرًا وجهرةً، فأنا كافر بالشرق، مؤمن بالغرب”.(6)
    وهكذا تمكّن قادة الغرب من بث الفرقة ،وفتنة العصبية القومية بين العرب والترك، واتخذوا من ذلك أداة لشق وحدة المسلمين، حيث قام بعض العرب (بقيادة الشريف حسين في الحجاز ومعاونة الجمعيات السرية في الشام) بإشعال ما عُرف بالثورة العربية الكبرى ضد الخلافة العثمانية إبّان الحرب العالمية الأولى، التي أسفرت عن هزيمة الدولة العثمانية،ولاحقا إلى هدم دولة الخلافة بالكلية على يد مصطفى كمال أتاتورك في 3-3-1924 م/ 28 رجب 1342هـ.

(1) انظر في ذلك: بني المرجة،موفق، صحوة الرجل المريض، و زلّوم،عبدالقديم، كيف هدمت الخلافة، ومصطفى خالدي وعمر فروخ، الاستعمار والتبشير.
(2) بني المرجة، موفق، صحوة الرجل المريض، ص 291.

(3) وقد أجاد موفق بني المرجة في كشف الكثير منهم فانظره، ايضا راجع زلّوم، عبدالقديم كيف هدمت الخلافة، و حسين، محمد محمد ، حصوننا مهددة من داخلها.
(4) يضيق المقام هنا عن تفصيل الجمعيات السرية، على شاكلة “العربية الفتاة” و”تركيا الفتاة” و”جمعية العهد” التي عمل الغرب على تشجيع اقامتها في البلاد العربية وفروعها في الغرب، خاصة فرنسا، وصولا إلى عقد المؤتمر العربي الأول في باريس في 1913، وقد قام نصارى لبنان بدور أساسي في هذه الجمعيات، انظر في ذلك: زلّوم، عبدالقديم، كيف هدمت الخلافة، وموفق بني المرجة،صحوة الرجل المريض، حيث “، ص 311.
(5) عمارة، محمد، الدكتور عبدالرزاق السنهوري اسلامية الدولة والمدنية والقانون ، ص 166-168.

(6) عمارة، محمد، الدكتور عبدالرزاق السنهوري اسلامية الدولة والمدنية والقانون، ص 169.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى