بحوث ودراسات

تداعيات الحرب الأوكرانية على الشرق الأوسط

المرصد الاستراتيجي


نشر موقع (Defense One) دراسة بعنوان (What Russia’s Invasion of Ukraine Means for the Middle East ) رأت فيها أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد كشف العديد من الحقائق حول سياستها الخارجية، كما كشف ضعف أداء الجيش الروسي في أوكرانيا، واعتبرت أن رهان دول الخليج على توثيق علاقاتها مع موسكو لملء الفراغ الناتج عن التراجع الأمريكي في المنطقة كان “تضييعاً للوقت”.
فروسيا، التي أرهقتها العقوبات الدولية، تجد نفسها أكثر ضعفاً اليوم نتيجة ابتعاد العالم عن استهلاك وقودها الأحفوري الذي تشكل عائداته الجزء الأكبر من اقتصادها، وتعاني من تباطؤ تمويل القطاع العسكري، وضعف مبيعات السلاح، وتضاؤل فرص جذب الاستثمارات الأجنبية لصناعتها الدفاعية، فيما تنشغل روسيا بإعادة بناء جيشها الممزق بفعل الحرب.
ورأت الدراسة أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قد شن عمليته العسكرية في أوكرانيا لتحقيق هدف إستراتيجي يتمثل في “كسر الهيمنة الأمريكية”، وإنشاء نظام عالمي يُنظر فيه إلى روسيا على أنها قوة عظمى، مُعتبراً أن قيامه بشن عملية خاطفة للسيطرة على أوكرانيا سيكون له الأثر البالغ في زعزعة الثقة الدولية بالولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وسيساعد روسيا على تخطي العقوبات الغربية، وسيفتح لها قنوات التبادل التجاري في المسرح الدولي، ويسمح لها بإنشاء قواعد عسكرية في العديد من الموانئ، بحيث تصبح روسيا الدولة ذات الثقل الأكبر على المستوى العالمي، والشريك المفضل للحكومات الهشة التي تسعى للاحتفاظ بسلطتها.
إلا أن تحقيق تلك الأهداف يبدو بعيد المنال، إذ إن موسكو لا تقدم حوافز تجارية أو تنموية، كالتي تقدمها الولايات المتحدة وأوروبا والصين، بل يعتمد نجاح سياستها الخارجية في سوريا على دعم دكتاتور غير مرغوب فيه، فيما يُنذر استنزاف الجيش الروسي في أوكرانيا بانهيار السياسة الروسية في سوريا.
في هذه الأثناء؛ يدفع التدهور الاقتصادي بموسكو للبحث عن الموارد خارج الحدود، وخاصة في دول الجوار، حيث يتطلع بوتين إلى جيرانه من أجل تحقيق الأمن الغذائي وتطوير قطاع التعدين والوصول إلى الأسواق الدولية، ويُظهر سلوكه في كل من بيلاروسيا وكازاخستان تنامي رغبته في إنشاء “حكومات دمى” في العواصم المجاورة له، بل إنه عندما فشل في تحقيق مسعاه ذلك بأوكرانيا قرر غزوها.
وفي ظل الأوضاع الصعبة التي تواجهها روسيا؛ يتنامى اهتمام الكرملين بمنطقة الشرق الأوسط، حيث يعتمد بوتين سياسة “لي الذراع” داخل “أوبك بلس”، ويضغط لمشاركة تكنولوجيا الطاقة الخضراء، ويستمر في استخدام نفوذه في الأمم المتحدة، ويتعاون مع إيران لتقوية -أو إضعاف- الميلشيات المسلحة، كالحوثيين و”حزب الله”، حيث يستخدمهم كأدوات لابتزاز ابتزاز المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وإسرائيل، وأوروبا، ويعمل على الاستفادة من نفوذه في كل من العراق وسوريا وليبيا لتعزيز تلك السياسة.
ويكمن مأزق روسيا في عدم قدرتها على كسب الحرب التي شنتها، فيما أثبتت الولايات المتحدة أنها لا تزال قادرة على بناء تحالفات عالمية عند الضرورة، وفرض العزلة على روسيا، والتي أصبحت منبوذة وغير قادرة على إبرام شراكات قوية في المسرح الدولي.
وحذرت دراسة نشرها مركز (Wilson)، بعنوان: “تداعيات حرب أوكرانيا على الشرق الأوسط”، من استمرار تعطيل الخدمات اللوجستية لنقل المواد الغذائية داخل أوكرانيا وعبر حدودها؛ بسبب تعليق الشحن من الموانئ التجارية في أوكرانيا، والتي تُعتبر منتجاً عالمياً رئيساً لزيت عباد الشمس وللحبوب، حيث توفر ثلث احتياجات العالم من القمح والشعير.
ورأت الدراسة أن تزامن الغزو الروسي مع بداية موسم الزراعة قد أثر سلباً على محصول عام 2022، الذي سيبدأ حصاده أواخر شهر يونيو، ما يثير قلق بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتي تعتمد على الصادرات الروسية والأوكرانية بشكل رئيسي، حيث تؤمّن مصر (أكبر مستورد للقمح في العالم) نحو 85% من قمحها من روسيا وأوكرانيا، وتملك احتياطيات إستراتيجية من القمح لمدة شهرين ونصف فقط.
ومن المتوقع أن يتأثر اقتصاد لبنان وأمنه الغذائي بصورة كبيرة، إذ إنه يستورد نحو 60% من احتياجاته من القمح، ولا يتوفر في مخزونه الإستراتيجي سوى كمية ضئيلة تكفي مدة شهر واحد فقط، وذلك لأنها فقدت احتياطياتها في انفجار بيروت عام 2020.
وكذلك الحال بالنسبة لتونس، التي تعتمد على أوكرانيا لإمدادها بنحو 50% من إمداداتها من القمح، ولم يبق في مخزونها الإستراتيجي من القمح سوى شهرين فقط.
ويمكن أن يتسبب نقص الإمداد من المواد الغذائية الأساسية بأزمات طاحنة في تلك البلدان التي تعاني من حالة غليان سياسي وتذمر شعبي غير مسبوق، حيث كان ارتفاع أسعار المواد الغذائية أحد أهم العوامل التي أججت ثورات “الربيع العربي” قبل عشر سنوات.
وحذرت الدراسة من أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية من جديد، سيؤجج الاضطرابات السياسية ويدفع بالمزيد من حركات النزوح، ولا سيما في تونس، التي بلغت الهجرة غير الشرعية منها رقماً قياسياً عام 2021، حيث وصل نحو 16 ألف مهاجر غير شرعي إلى الشواطئ الإيطالية، ومن المرجح أن تزداد أعداد المهاجرين غير الشرعيين عام 2022؛ عندما تبدأ إمدادات الخبز في التضاؤل والأسعار في الارتفاع.
وكذلك الحال بالنسبة للبنان، والتي تشير التقديرات إلى أن نصف مواطنيها يعيشون تحت خط الفقر، فيما يمثل ارتفاع أسعار المواد الغذائية المشكلة الأكبر لجميع المواطنين، حيث أصدرت جمعية المطاحن في لبنان بياناً، أعلنت فيه أن الحرب الأوكرانية تسببت في إلغاء جميع صفقات بيع القمح، ما أدى إلى ارتفاع سعر طن القمح إلى نحو 50 دولاراً.
في هذه الأثناء؛ تبحث بلدان المنطقة عن سبل التخفيف من وطأة ارتفاع الأسعار وتأمين مصادر أخرى للحبوب، حيث تعمل وزارة التموين بمصر على تنويع مصادر الواردات من القمح، وبدأت في قبول الواردات من لاتفيا وفرنسا وكندا والهند والولايات المتحدة.
وبينما اضطرت العديد من البلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى إعادة التفكير جذرياً في استراتيجيات استيراد الحبوب؛ فإن الحرب في أوكرانيا تُعيد أيضاً تشكيل العلاقات الجيوسياسية، وخاصة في الخليج العربي، حيث تشعر كل من الرياض وأبو ظبي بالقلق إزاء موقف الولايات المتحدة من المتمردين الحوثيين في اليمن ومن احتمال إحياء الاتفاق النووي الإيراني، ما اضطرهما لتعزيز تواصلهما مع روسيا.
وكان امتناع دولة الإمارات عن التصويت في الأمم المتحدة لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا (27 فبراير 2022) قد فاجأ إدارة بايدن، وأثار قلق الدول الغربية التي توقعت أن تنضم إليها دول الشرق الأوسط في دعم المقاومة الأوكرانية، لكن دول الخليج العربي لم تكن ترغب بالمقامرة في تأجيج الموقف الدولي، وآثرت قصر دعمها على تقديم المساعدات والمواد الإغاثية.
ودفع ذلك بالعديد من المشرعين الأمريكيين للمطالبة بإبرام صفقة كبرى تعمل بموجبها الولايات المتحدة على تحسين العلاقات مع السعودية، فيما تتطلع الدول الأوروبية إلى قطر لتعويض إمدادات الغاز الروسية المفقودة، فيما تخطط الدوحة لتوسيع إنتاجها من الغاز الطبيعي المسال بنسبة 40% سنوياً بحلول عام 2026 من خلال مشروع حقل الشمال.
وترى دول الخليج العربي أن التزام الحياد يوفر الطريق الأكثر أماناً، ويساعد في المحافظة على العلاقات الاقتصادية والجيوسياسية المفتوحة مع كل من الغرب والشرق، إلا أن فرص الاستمرار في هذه السياسية تتضاءل في ظل التصعيد الغربي وتشديد العقوبات الاقتصادية على روسيا.
أما بالنسبة لإيران فقد رأت دراسة نشرها موقع “كارنيغي” أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد أحدث انعطافة في المفاوضات الرامية إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، وذلك نتيجة إعادة موسكو تقييم دورها “التيسيري” كوسيط أساسي بين واشنطن وطهران، وتلويحها بضرب الاتفاق النووي الإيراني، حيث ترغب روسيا، التي حلّت مكان إيران في موقع الدولة الأكثر خضوعاً للعقوبات في العالم، بإشعار المجتمع الدولي بالوطأة الاقتصادية التي تترتّب عن فرض الحظر على النفط الروسي.
ولا تبدو روسيا متحمسة لإعادة إحياء الاتفاق النووي، خاصة وأن عزلة إيران كانت مفيدة للمصالح الروسية؛ فإيران تعتمد على التكنولوجيا الروسية من الدرجة الثانية، وتناصب العداء للولايات المتحدة، وهي عاجزة عن استثمار مواردها الطائلة في مجال الطاقة، ولا شك في أن غياب التغيير على مستوى القيادة في موسكو وطهران، سيدفع باتجاه تنامي نقمة البلدين إزاء الغرب وتعزيز الاعتماد المتبادل بينهما بدلاً من تراجعه.
في هذه الأثناء؛ تعاني تل أبيب من مصاعب في الاستمرار بالتزام سياسة الحياد، حيث رجحت الدراسة أن تُضطر حكومة بينت إلى حسم خيارها، لا سيما إذا انزلقت الأمور في أوكرانيا إلى نزاع بين حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة وبين روسيا.
أما بالنسبة لسوريا، فقد توقعت الدراسة أن يكون تأثير الحرب الأوكرانية “محدوداً” على الصعيدين الجيوستراتيجي والأمني، خاصة وأن الوجود الروسي في سوريا ليس مجرّد مصلحة إستراتيجية لموسكو بل هو ضرورة وجودية، ونظرت للوجود العسكري الروسي غرب سوريا ضمن سياقين رئيسين:
أولهما: قيام الكرملين بدور الوساطة الدولية في الأعوام الأخيرة، حيث ساهمت روسيا في تيسير العملية السياسية التي أُطلِقت برعاية الأمم المتحدة، وضغطت على بشار الأسد للانخراط في محادثات مع المعارضة، ودفعت باتجاه اعتماد إطار جديد لتسوية أمنية بين أنقرة ودمشق عند الحدود التركية-السورية.
والثاني: العامل الإستراتيجي، حيث يكتسي الوجود العسكري الروسي في قاعدة حميميم الجوية المطلة على البحر المتوسط في سوريا طابعاً حيوياً، فبالإضافة إلى أن القاعدة تشغل موقعاً يُطلّ على مشاريع التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، فإنها تتيح لروسيا ممارسة نفوذ خارج الجمهوريات السوفياتية السابقة، ما يشكّل خرقاً في عزلة روسيا عن المجتمع الدولي. وتقع هذه المنطقة أيضاً في قلب الشرق الأوسط، وهي على احتكاك مباشر بدول المنطقة، وعلى رأسها دول الخليج العربية ومصر وإسرائيل وتركيا.
ومن خلال نفوذها في العملية السياسية ووجودها العسكري في سوريا، باتت لموسكو أهمية كبرى لا يمكن تجاهلها في الشرق الأوسط، حيث يتدخّل الكرملين بصورة متزايدة في المنطقة من خلال حماية نظام الأسد وتعزيز تحالفاته الإقليمية.
إلا أن الدراسة توقعت أن يكون لاستمرار الوجود العسكري الروسي في البلاد ثمناً باهظاً، حيث تقف دمشق على أعتاب تحولات كبرى، ما يولّد أجواء أمنية غير مستقرة ستلقي بضغوط إضافية على الكرملين وتُرغمه على زيادة انخراطه على المستوى المحلي.
ورجَّحت الدراسة أن تُلقي تداعيات الحرب الأوكرانية بظلالها على سوريا بصورة أكبر في الفترة المقبلة، حيث شكّل التعاون الأميركي-الروسي، في السنوات الماضية، أهمية كبيرة في تحقيق نتائج سياسية مستدامة، إلا أن احتمالات استمرار هذا التعاون باتت أضعف من أي وقت مضى، فيما تتخوف دول الجوار من تبعات سحب روسيا قواتها من سوريا، وتخشى ميلشيا “قوات سوريا الديمقراطية” من أن تضطر لدفع ثمن مقايضة أمريكية-تركية في هذا الصراع الجيوسياسي الأوسع، وتتخوف إسرائيل من تنامي التعاون الروسي-الإيراني ومن إمكانية فرض قيود على عمليات قصف الأهداف الإيرانية في سوريا.
وتزداد المخاوف بشأن تأثيرات الحرب الأوكرانية على المساعدات الإنسانية والأمن الغذائي في المنطقة، ولا سيما في البلدان التي تعاني أصلاً من أوضاع هشة، فالأعداد المتزايدة من اللاجئين الأوكرانيين والارتفاع المستمر في تكاليف إعادة الإعمار بعد النزاع؛ يثيران مخاوف احتمال وقف المساعدات الإنسانية الأساسية إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بهدف تحويلها لمعالجة تداعيات النزاع الأوكراني، وسيكون ذلك أشبه بقطع شريان الحياة الأساسي لملايين الفلسطينيين واللبنانيين واليمنيين والسوريين وسواهم ممّن يعيشون في بلدان تشهد نزاعات، والتسبب بانهيارات اقتصادية كارثية، وظهور حاجات متزايدة على الصعيد الإنساني.
وتتفاقم حدّة الأزمة بفعل تنامي المخاطر على الأمن الغذائي، حيث ينذر استمرار الأزمة بارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية ومصادر الطاقة عالمياً. ومع مرور الوقت، قد يدفع ذلك بالمواطنين للخروج إلى الشوارع احتجاجاً على الأوضاع الصعبة… من جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى