مقالات

وفي الأرض متسع..

مصعب الأحمد

كاتب وباحث وشاعر سوري
عرض مقالات الكاتب

وفي الأرض متسع

كتب أحد الشباب السوري يستنصح الأخوة بحل، وقد ضاقت عليه إسطنبول بما رحبت، بعد حملات ترحيل عشوائي، وحوادث الإيذاء والقتل، وصاحب البيت يريد بيته أو يرفع الآجار الفاحش، والشاب يبحث عن بيت فلا يجد من يعطيه لأنه “سوريلي” بعد تنامي خطاب العنصرية الذي تشنه بعض الجهات المستأجرة، وإذا وجد بيتاً فكل راتبه لايكفي ما يسد أجرة البيت إذ كيف يأكل ويشرب .
دخلت لأقرأ التعليقات، وأرى كيف ينصح الناس بعضهم وبماذا. فقائل: إن كان معك مال فاذهب إلى أوربا فوراً.
وقائل: إياك أن تفعل، سيضيع دينك وأولادك.. وقائل: هل صارت بلاد الكفر أرحم من بلاد الإسلام؟ وهذا شيء مؤلم للغاية.
وقائل: إذهب إلى محافظة أخرى رخيصة، ولكن فرص العمل قليلة! ولكن ثمة مشكلة! قد يجد فرصة في غير إسطنبول للسكن الرخيص، لكن العمل قليل فما جدوى السكن بدون عمل؟
الناس تختار المدن الكبرى لوجود العمل، وهم يريدون العمل والكسب لا التسول والاستجداء. وأما خيار العودة إلى سوريا فلم ينصحه به أحد لأنها باعتبارهم كالعودة الى الجحيم حيث لامأوى ولا عمل ولا أمان.
الحكومة التركية يريدون تخفيف الضغط عن المدن الكبرى، وهو حقهم، لأن هناك حاضنة شعبية لايريدون إستغلالها من قبل المعارضين، ولكن ما الحلول البديلة؟
لقائل أن يقول أهل المحافظات الأخرى لا يعدمون العمل، أقول نعم ولكنهم في أراضيهم وبيوتهم ومزارعهم، أما هذا فشريد طريد فر من الموت ليجد وأطفاله مأوى ولقمة عيش.
وكتب كثيرون: اذهب إلى مصر. مصر، أو السودان، أو إثيوبيا التي كانت رحاباً طيباً ومأمنا لمهجري الصحابة -رضي الله عنهم- يوم ضاقت بهم مكة.
في كل الدول المجاورة أُسكن الناس المخيمات إلا في مصر لم يسكن أحد مخيماً. في مصر شعب طيب استقبل السوريين بأكرم استقبال، وأقبلوا عليهم أكرم إقبال، ولم نسمع عن عنصرية مقيتة، أو حسد أو تبرم، أو اعتداء، أو مشكلة تذكر.
بنى السوريون في مصر المصانع والمعامل والورشات والأعمال ونجحوا بدعم الناس وحبهم وعطفهم. مصر خيار جيد، قد لا يكون أفضل من تركيا وأوربا، لكنه على الأقل أفضل كرامة، وإحسانا، وطيباً، وراحة نفسية. وحسن جوار، مع الأمن ولن يعدم هناك رزق الله.
وأزيدكم من الشعر بيتاً، لم يفر الناس إلى أوربا وفي أفريقيا ملاذات آمنة، وممتازة وخيارات رائعة بكل المقاييس. الصورة التي تصورها وسائل الإعلام عن القارة السمراء صورة مجحفة، عنصرية، قذرة، لا تنتمي إلى الإنسانية والعدالة.
هرب إبان الحرب الأهلية اللبنانية نحو نصف مليون لبناني الى ساحل العاج، وانتهت الحرب فلم يعد أحد ممن فر إلى لبنان، وقد وجدوا من الرزق والراحة والطمأنينة والاستقرار الشيء العظيم مع الطبيعة الخلابة والشعب الودود.
نعم ساحل العاج وغيرها ففي إفريقيا عموماً شعب ودود لاينظر إليكم كما ينظر الأوربي والأمريكي، على أنكم عبيد أو متخلفوا دول العالم الثالث، وكما تأثر بهم بعض الأتراك ممكن لا يرى في العرب إلا عدواً، ولا يرى في الإسلام إلا غازياً، ولا خلاق لهم، ممن غزت قلبه العنصرية والوحشية واللا إنسانية.
وقبل أن تقول ولكن الناس تفر من مصر وأفريقيا وتريدنا أن نذهب هناك؟
أقول: نعم. الناس يفرون من هناك خوفاً أو طمعاً، وقد انتفى عنك الخوف، فبقي الطمع، الطمع في الأفضل والأحسن، ولم تضق لهم أوربا ولاجربوا العنصرية والتضييق، وهم يحلمون بغد أفضل، ولكنكم جربتموها فلم لا.
السودان على ما فيها ملاذ آمن وخيار جيد، وفرص عمل ممتازة، ولي تواصل مع كثيرين هناك، يعيشون بطمأنينة وسلامة ورضا حياتي.
والخلاصة: يقول تعالى: {ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة}. أي بلد لمن يريد أن يعمل ويجتهد ممتازة مع تفاوت الجودة، وأي بلد ضيقة لمن يريد أن يجلس لتنفق عليه الدولة والكنيسة والأمم المتحدة.
حتى أوربا ضاقت بالعنصرية ومحاكم التفتيش المعاصرة، وجرائم ضد المساجد، ولعلي أرى أن لعنصرية بدأت تعصف بالزبد، وما هي إلا أيام ويندم من حل هناك ولات ساعة مندم، وما خبر السويد عنكم ببعيد.
وكم هو مؤلم أن أقول: كلنا عنصريون، وفينا من هو أسوأ بكثير من غيرنا، كنت في دمشق يوم قامت الثورة، ورأيت بعيني وسمعت بأذني وشهدت حوادث كثيرة جداً، كيف تنكر الصديق لصديقه، والأخ لأخيه، والجار لجاره، والمسلم للمسلم، والإنسان للإنسان.
يوم دخلت لأعود أحدهم، فرأيت أناساً يفترشون مداخل الأبنية لوجود سقف الرواق يحميهم من المطر، ويمر الناس من امامهم فيحوقلون ولا تمتد إليهم يد، وعندهم القدرة على رفع معاناتهم، والمحسن منهم يعطيهم فضلة طعامه، وكم وكم رأيت قريباً طرد قريبه من بيته وقال له (دبر راسك ) يعني اهتم بشؤنك، لن أستطيع استقبالك طيلة العمر.
كنت أسمع أهل القرية يمنعون الفارون إليهم من الموت لكي لا يدحل الجيش قريتهم، ويبلغون عن المظاهرات لكي تبقى مدنهم آمنة وهم يلهون ويلعبون، وكأن الأمر لا يعنيهم، والقرية بجوارهم تقصف ولا من سامع، بل ويرسلون أبناءهم للخدمة العسكرية ليقصفوا أبناء المحافظات الأخرى، وكم رأينا فصائل تحسب على الإسلام، تملك السلاح فتمنعه عن إخوانها بحجة أنها قد تحتاجه وتقدم الآجل على العاجل، ويجلسون دون تدخل، والفصيل الآخر يذبح ولا من مجيب ولا من ناصر.
لا يستطيع أحد أن ينكر مئات بل آلاف حالات التخاذل، والتخلي، والتسليم، والخيانة. كانت بعض الفصائل لا تقدم الطعام والمال إن كان من فصيل آخر، مالم ينضم إليهم.
فكيف نطلب من غيرنا أن يرحمنا ولم نتراحم فيما بيننا. كانت درعا وحمص تقصفان وأهل دمشق وحلب لايحركون ساكناً، وعندما تحرك بعضهم من أهل النخوة والشجاعة والعقيدة، أول من حاول كفهم ووقف في وجههم أعيان البلد، وبياض الناس كما يسمون أنفسهم، وتأخروا كثيراً، ولم يقوموا قومة رجل واحد، حتى تناولتهم روسيا وإيران قطعة قطعة.

كم هو مؤلم أن أقول: وقد شعرت بالرعب حين كلمت بعض المهاجرين وعلمت أنه دفع أكثر من خمسين ألف دولار حتى يدخل الشام ويقاتل روسيا والنظام، بينما غيره من أبناء البلد يدفع أكثر منها ليخرج ..
بالمصري يقولون (من خرج من داره قل مقداره)، لا عز لأي مسلم إلا بالتوكل على الله والدفاع عن دينه وأرضه، وييسر الله تعالى له سبل الخير. فالكافر الذي يأتي من روسيا وفرنسا وسويسرا ليس أرجل منك. والدنيا دار زوال، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور.
وإن كان لابد فأرض الله واسعة، ألم يعد أحدهم يستطيع أن يعيش إلا بجوار “الإلزيه”؟ أو في قرى سويسرا؟
وحتى إدلب على مافيها، هناك مجال للسكن والعمل لمن أراد ذلك، لن تكون مطلقة الأمن والراحة والطمأنينة، لكن الناس تعيش فيها، ويتأقلمون مع الواقع، وينجبون الأبناء ويسعون على كسب معيشتهم ويعمرونها.
ولله طبيبة مسلمة سورية عاشت عمرها في أوروبا، وعند الحرب غادرت النروج الى سوريا ودخلت لتعيش في مناطق النزاع لتعالج الجرحى، وتداوي المرضى، وهرب عشرات آلاف الأطباء، تاركين “الشقى على من بقى”.
ارجعوا إليها فاعمروها حتى لايعمرها غيركم، وارحموا بعضكم ليرحمكم غيركم وتعاونوا على البر ليعينكم ربكم .
والله تعالى هو الموفق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى