بحوث ودراسات

“قمة المناخ” جهود مضنية ودوافع خفية

محمد علي الباز

كاتب وباحث في العلوم السياسية
عرض مقالات الكاتب

أطلقت الحكومة المصرية خلال مايو الماضي، الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ فى مصر 2050، وقالت: “يمكــن النظــر إلــى الاستراتيجية الوطنيــة لتغيــر المنــاخ علــى أنهــا خارطــة طريــق لتحقيــق الهـدف الفرعـي 1.3 مواجهـة تحديـات تغيـر المنـاخ فـي إطـار رؤيـة مصـر 2030.
رؤية مصر 2030، هي أجندة وطنية أُطلقت في فبراير 2016، تعكس الخطة الاستراتيجية طويلة المدى للدولة لتحقيق مبادئ وأهداف التنمية المستدامة في كل المجالات.
وينص الهدف الخامس من رؤية مصر على الاستدامة البيئية: نظام بيئي متكامل ومستدام، نسعى إلى الحفاظ على التنمية والبيئة معاً من خلال الاستخدام الرشيد للموارد بما يحفظ حقوق الأجيال القادمة في مستقبل أكثر أمناً وكفاية ويتحقق ذلك بمواجهة الآثار المترتبة على التغيرات المناخية وتعزيز قدرة الأنظمة البيئية على التكيف والقدرة على مواجهة المخاطر والكوارث الطبيعية وزيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة وتبني أنماط الاستهلاك والإنتاج المستدامة.
انصرفت جهود الدولة ومؤسساتها الى التحضير لقمة المناخ “كوب 27” المرتقبة في نوفمبر المقبل في شرم الشيخ. منذ اختيار مصر كمنظم، وتعيين الوزير سامح شكرى رئيسًا.

وقد تناولنا فى مقال سابق لماذا تغيير مسار الخارجية المصرية؟ من مفاوضات السد إلى اتفاقيات المناخ.
جهود مهدرة
فازت شركة سيمنس الألمانية، في يونيو عام 2015 بأكبر عقد لإنشاء 3 محطات ضخمة لتوليد الكهرباء فى مصر بتكلفة بلغت 6 مليارات دولار، بقدرات بلغت 14.4 جيجاوات أضافت للشبكة القومية المصرية حوالي 25% من قدرتها. وضاعفت الدولة جهودها لإضافة طاقات كهربية أخرى من مصادر متنوعة، بحيث ضاعفت الحكومة القدرات الأسمية للطاقة خلال سبع سنوات لتصل إلى 59.5 جيجاوات تقريبا في منتصف حزيران/ يونيو 2020، رغم أن أقصى حمل (أقصى طلب على الكهرباء) خلال الفترة ذاتها لم يتجاوز 31 جيجاوات، لتحقق المحطات فائضًا كهربائيًا يصل إلى أكثر من 24 جيجاوات. كانت القدرات الاسمية لكهرباء مصر عام 2014، يساوي 32 جيجاوات تقريبا، والحمل الأقصى (أقصى طلب على الكهرباء) يساوي 26 جيجاوات تقريبا، ما يعنى أن مشروع محطات سيمنس بالكامل كان جهدًا مهدرًا من الدولة.
كذب الرواية
أصبح ملف الطاقة الكهربية وتعاظم قدرات الدولة فيه، مبعث افتخار مسؤولي الدولة والإعلام المؤيد لها، فلا يكاد يظهر مسؤول من رأس النظام الى أخمص قدميه، حتي يذّكر الناس بالإنجاز المحقق فى ملف الطاقة، والإشادة بالطفرة التى حصلت فيه، والحقيقة أنها رواية منقوصة بل هي رواية كاذبة بالكامل.

فبينما تتباهى الدولة بزيادة القدرات الكهربية من أجل الدفع نحو نمو الإقتصاد الداخلي وتصدير الفائض من الكهرباء للخارج، نجد العكس هو الصحيح، فقد تقلص الحمل الأقصى (أقصى طلب على الكهرباء)، نتيجة الشره فى زيادة الأسعار وتقلُص القطاع الإنتاجي وإغلاق الآف المصانع.

أما على صعيد التصدير، فكانت الطاقة المُصدرة عام 2012 تساوى 1679 جيجاوات/ساعة، والتى انخفضت بنسبة تتجاوز 55% لتصل الى 885 جيجاوات/ساعة عام 2020، فى نفس الوقت الذي ضاعفت فيه الحكومة القدرات الاسمية بنسب تتجاوز 80% خلال السبع سنوات الماضية.
الإنصاف عزيز
محاولات صمّ الآذان لن تنفع، فلا يمكن تجاهل العمل المبذول فى تعظيم مشاركة الطاقة الجديدة والمتجددة فى شبكة كهرباء مصر، وعلى الرغم من وجود حجم ضخم من الفساد والتساؤلات، إلا أن زيادة مشاركة الطاقة النظيفة كان بشكل كبير، وهو ما يعيد التساؤل حول جدوى التوسع فى المحطات العاملة بالغاز.
قامت مصر ببناء حديقة بنبان للطاقة الشمسية الضخمة خارج أسوان، والتي توصف بأنها أكبر حديقة للطاقة الشمسية الكهروضوئية في العالم، مع قدرة مركبة تبلغ 1.8 جيجاوات، وتبلغ تكلفة الحديقة 4 مليارات دولار. كما ضاعفت الاستثمارات فى طاقة الرياح بالشريط المحازي لخليج السويس الى الزعفرانة، ففي نوفمبر 2019، تم تشغيل أكبر مجمع لتوليد طاقة الرياح في مصر، مزرعة رأس غارب بقدرة 262.5 ميجاوات بالقرب من خليج السويس. كما بدأت جهودًا لإنتاج الهيدروجين الأخضر، وأخرى لحجز ثاني أكسيد الكربون وتدوير المخلفات وتخزين الطاقة، وهى جهود مضنية لتجهيز العديد من مثل هذه الاتفاقيات للتوقيع النهائي عليها خلال قمة المناخ فى شرم الشيخ.

خسائر مركبة
تثبت الأرقام السابقة، اضطراب ميزان الأولويات عند الدولة فى ملف الطاقة تحديدًا، نتيجة سوء التخطيط وفشل الإدارة. فبينما تكبدت ميزانية الدولة قروضًا ضخمة لبناء محطات سيمنس وغيرها من مشاريع الطاقة، لم توظف هذه الطاقة كجزء من مدخلات الإنتاج القومى، كما ضاعفت أقساط وفوائد هذه القروض من أعباء الدين على الموازنة العامة للدولة، فى نفس الوقت الذي لا تعمل فيه أي من هذه المحطات بطاقتها القصوى، وربما توقفت تمامًا. وعلى سبيل المثال محطة سيمنس فى العاصمة الإدارية، العاصمة التى تأجل افتتاحها أكثر من مرة، بالإضافة الى كل ما سبق، حجم الخسائر الناجم عن تعطل عمل هذه الأصول بطاقتها القصوى، وخصوصًا أن جميع مشاريع الطاقة محدد بعمر افتراضي، وعليه فإن هناك حجم ضخم من الخسائر ناجم عن سياسة الدولة فى ملف الطاقة.
لو كانوا صادقين.
تركت مصر ملف سد النهضة الذي يشكل تهديدًا وجوديًا على مصر، وتوجهت للعمل على قمة المناخ، وتكمن المفارقة أن حجم الآثار البيئية الناجمة عن سد النهضة أضعاف ما قد تتكبده مصر من آثار التغير المناخي، فلو كانت الدولة صادقة حقًا فى مقاومة التغير المناخي ومكافحة تداعياته لكرست جهودها لتحييد السد ودفع ضرره عن مصر. وبعيدًا عن سد النهضة والتداخلات الدولية والإقليمية، فإن نظرة سريعة على بعض ممارسات الدولة سوف تعكس حقيقة اكتراثها بملف المناخ من عدمه، فالصرف الصحي والصناعي مازال يتدفق إلى النيل من أسوان إلى الإسكندرية.
وفقًا لدراسة نُشرت في مجلة جورنال أوف أفريكان إيرث ساينسيز Journal of African Earth Sciences يوم 6 أغسطس 2020، وأعدها فريق من الباحثين بالمركز القومي للبحوث والهيئة القومية للاستشعار عن بعد، وجامعة عين شمس المصرية وجامعة كاليفورنيا الجنوبية الأمريكية، فإن مؤشرات جودة المياه لأغراض الري تشير إلى أن عينات المياه الجوفية حول بحيرة أبو زعبل بمنطقة شرق دلتا النيل تتراوح بين المياه المشكوك فيها وغير الصالحة للرى. وتشير نتائج الدراسة إلى اختلاط محتمل بين مياه الصرف الصحي ومياه الصرف الزراعي والمياه الجوفية في طبقة المياه الجوفية الضحلة.

وفى أغسطس 2021 تقدم النائب حسن عمار عضو مجلس النواب عن محافظة بورسعيد، بطلب إحاطة إلى المستشار حنفي جبالي رئيس المجلس، موجه لكل من رئيس مجلس الوزراء، ووزيرة البيئة، بشأن التلوث الناتج عن مصنع «تى سى أى» سنمار للكيماويات بالمنطقة الصناعية بالرسوة بجنوب بورسعيد ولفت «عمار»، إلى أن الصرف الصناعي يتم فى بحيرة المنزلة التى ترتبط بقناة السويس، بكمية تبلغ مليون ونصف المليون متر مكعب يوميًا، دون معالجة، بالإضافة إلى 5 مصانع أخرى تقوم بالصرف فى البحيرة مما يضر ايضًا بالثروة السمكية.
تعكس هذه الممارسات المدمرة للبيئة حقيقة اهتمام الدولة بملف التغير المناخى وقضايا البيئة، وهناك العديد من المسارات الأخرى تسلكها الدولة تعزز من هذا الاستنتاج، مثل التطرف فى إبادة الأشجار والمناطق الخضراء، ما أثار العديد من موجات السخط والغضب لدى المصريين عدة مرات.
أهداف خفية
أطلقت مصر استراتيجيتها الطموحة لتحقيق خمسة أهداف:

1: تحقيق نمو اقتصادي ومنخفض الانبعاثات في مختلف القطاعات.

2: بناء المرونة والقدرة على التكيف مع تغير المناخ وتخفيف الآثار السلبية المرتبطة بتغير المناخ.

3: تحسين حوكمة وإدارة العمل في مجال تغير المناخ.

4: تحسين البنية التحتية لتمويل الأنشطة المناخية.

5: تعزيز البحث العلمي ونقل التكنولوجيا وإدارة المعرفة ورفع الوعي لمكافحة تغير المناخ. بحسب بيان الحكومة.
ولكن هذه الخطة تتطلب تمويلًا يزيد على 324 مليار دولار، المتوفر منه حسب البيان 75.7 مليار، ما يعنى فجوة تمويلية تقدر بـ 248.3 مليار دولار، في حوار لرويترز، قال وائل أبو المجد، الممثل الخاص لرئيس COP27، إنه “يريد التركيز على تأمين أموال منفصلة “للخسائر والأضرار”، أو مدفوعات تعويضًا للبلدان المعرضة للتأثر بالمناخ والتي تعاني بالفعل من تقلبات الطقس المرتبطة بالمناخ”.

الظاهر هنا أن مصر تكافح لتقود الدول النامية وخصوصًا فى إفريقيا، للاستفادة من تعهدات الدول الغنية بتقديم 100 مليار دولار للمساعدة في تنظيف هذه الفوضى، هذه الأموال التى لم تسلم بعد. تنتج إفريقيا أقل من 3٪ من الانبعاثات العالمية. بينما تنتج مصر 0.6٪ فقط من الانبعاثات العالمية، لكنها معرضة بشدة للتهديدات الزاحفة بسبب تغير المناخ. ما يحتم عليها ضبط ميزان الأولويات فى هذا الملف من كل أبعاده.
تعانى مصر عجزًا مزمنًا فى ميزانيتها، نتيجة حاجتها الماسة للعملة الصعبة، وتريد أن توفر تدفقًا من العملة الصعبة ولو بشكل طارئ أو استثنائي، عبر البنوك الخضراء وخطوط الائتمان، وتعزيز مشاركة القطاع الخاص في تمويل الأنشطة المتعلقة بالمناخ، وإدارة حزمة المساعدات الأوربية الموجهة للدول النامية.
خلاصات وتوصيات
بالنظر الى الجانب الإيجابي، الآن تملك الدولة قدرة على دفع عجلة الإنتاج عبر إعادة تشغيل المصانع المتوقفة، والتى ستسهم فى زيادة القطاع الإنتاجي من الاقتصاد المصري، والتى بدورها ستقلص فجوة الحاجة للعملة الصعبة. كما يمكنها إنشاء خطوط ربط كهربي جديدة مع دول الجوار من أجل زيادة حجم صادرات الطاقة.
على الجانب الآخر، أدى اضطراب ميزان الأولويات عند الدولة إلى تبني مسارات متناقضة فى ملف الطاقة، كما عززت الضرائب المفروضة مؤخرًا على واردات بعض مدخلات الطاقة النظيفة من شكوك المجتمعين المحلي والدولي فى حقيقة أهمية قضية تغير المناخ بالنسبة لمصر.
أصبحت الرواية الرسمية الآن حول ملف الطاقة محل شكوك، كما لا يمكن الوثوق بنوايا الدولة حول قضايا البيئة والتغير المناخي، فلم يكن هناك حاجة لكل هذه القروض لتمويل محطات لتوليد الطاقة الكهربية بينما 50% من هذه القدرات لا يُستفاد منها، ما يُؤكد عدم اكتراث الدولة بالموارد الطبيعية والمالية والاستهلاك غير الرشيد لها، وإهمالها العمل على ما يحفظ حقوق الأجيال القادمة في مستقبل أكثر أمناً وكفاية.
ينبغى أن تتجاوز مصر سياسة إطفاء الحرائق فى القضايا المهمة، مثل الفجوة التمويلية وعجز الميزانية المزمن وإعادة تموضع مصر على خريطة السياسة الدولية.
وكما لا يمكن اختزال الجهد المبذول على القمة المقبلة فى شرم الشيخ فى هدف واحد، لايمكن توقع إنجاز كبير من مثل هذه التحركات.
المصادر

  1. https://arij.net/investigations/electricity-egypt/
  2. Egypt’s Synergy Between Natural Gas and Green Energy Transition: Cairo’s Advances in LNG and Green Hydrogen are Shaping the COP 27 Agenda | Middle East Institute (mei.edu)
  3. http://www.nrea.gov.eg/Content/reports/Annual%20Report%202021(Ar).pdf
  4. https://www.eeaa.gov.eg/portals/0/eeaaReports/N-CC/EgyptNSCC-2050-Summary-Ar.pdf
  5. Special Briefing: Iran is on the agenda as Lavrov heads to Riyadh for GCC talks | Middle East Institute (mei.edu)
  6. https://www.scientificamerican.com/arabic/articles/news/industrial-and-sanitary-waste-is-behind-high-rates-of-groundwater-pollution-in-southeastern-delta/
  7. https://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=04082021&id=7884870b-f98a-4f4c-9023-4e9642c26bd0
  8. https://www.reuters.com/business/environment/egypt-wants-shift-focus-developing-countries-climate-talks-official-2022-05-25/
  9. https://2u.pw/RQVxO
  10. https://www.presidency.eg/ar/%D9%85%D8%B5%D8%B1/%D8%B1%D8%A4%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%B5%D8%B1-2030/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى