مختارات

الداعية الشيخ العالم العامل حسن عبد الحميد الخضر تقبله الله في الصالحين

زهير سالم

مدير مركز الشرق العربي
عرض مقالات الكاتب

في وداع الراحلين…
الداعية الشيخ العالم العامل حسن عبد الحميد الخضر تقبله الله في الصالحين
محطات على طريق الأخوة في الله..والبر لا ينسى..
وكان أول اللقاء لي بالأح والشيخ والداعيةً الكبير سنة ١٩٧٢، عام عينت مدرسا في ثانوية البحتري بعد تخرجي من الجامعة مباشرة.
وقبل أن أفيض في الحديث عن الأخ الراحل الكبير، ربما أجد من الوفاء أن أفرد الحديث عن مدينة الباب بحقيقة مهمة تميز أهلها النجب، الذين مهما تغيرت بهم الأحوال، يبقى إسلامهم هو الحقيقة الأولى التي تشكل ذمامهم.
ووصلت إلى مدينة الباب وتعرفت فيها على رهط من المباركين والطيبيين وكان الشيخ حسن عبد الحميد رحمه الله قمرهم..
ومع العرفان بالجميل لكل من عاشرت وعرفت سأخص الأستاذ الراحل الحبيب بثلاث محطات مضيئات من تاريخ رجل كله مضيء
الأولى وقد كانت الفترة من أوائل السبعينات محطة متأججة شديدة الأوار في تاريخ سورية الحديث، ضد النصل الذي كان يحاولون غرسه في جسد السوريين.
كانت سورية ميدان جهاد حقيقي على المستوى العقائد والأفكار، وبينما هجر الكثيرون موطن التين والزيتون، والتحقوا حيث يضخ النفط، كان الشيخ حسن عبد الحميد من القلة التي ثبتت، ورابطت وجاهدت ، وآثرت الشام ولم تؤثر عليه.
كنت مدرسا في ثانوية البحتري، وما كنت ألحظه عن ذلك الرجل الكبير “مدرس التربية الإسلامية” أنه كان يقضي معظم وقت الراحة، بين التلاميذ، والذين يتحلقون حوله كما يتحلق الأطفال حول أبيهم ، يحترمونه لاعتبارين الأول أنه شيخهم، والثاني أنه ابن بلدهم، وهو لا يكل ولا يمل بل يحنو ويرفق ويعلم ويرشد ويوجه. فإن وجد فرصة في الفرصة دخل إلى حجرة عامل المقسم فاحتسى كأسا من الشاي على عجل.
لم أجده يوما في غرقة المدرسين التي قلما كان الحديث فيها حديثا يليق بمدرسين. بل كان أقرب إلى أحاديث الطبقة الرخوة في المجتمع.
كان الأستاذ حسن رحمه الله يدلف إلى غرفة المقسم، فيخرج مجموعة من الكتب النوعية، فيوزعها على طلاب بأعيانهم، يقول لهذا : تجد جواب ما سألتني عنه في هذا الكتاب، ويقول لآخر اقرأ هذا وأعده إلي بعد ثلاثة أيام. كانت كتبا فكرية وعلميةً وأهمها ما كان يتعلق بنظرية التطور، ووجوه النقد العلمي الموجه إليها، والذي أغفلته الكتب المدرسية، وبعض المدرسين الذين يتولون تسويق النظرية، على أنها حقيقة مسلمة مطلقة.
محطة الانبهار بالاستاذ حسن رحمه الله تعالى، وكانت علاقتي من قبل عابرة سلام وتحية وتمنيات..
يوم فوجئت ببلاغ إداري من مدير الثانوية يدعونا إلى عقد جلسة لمجلس المدرسين، فأستاذ العلوم القادم من دمشق، والمتشح بوشاح الحزب المريد، يريد أن يحتج على توزيع كتب على الطلاب من خارج المنهاج!!
وسمعت هذا الاحتجاج من الأستاذ المذكور قبل الموعد، سمعته يتبجح ويطول ويقصر في الكلام مثل أي كاهن ، وقررت أنني في ساعة الصدق سأواجهه مهما كان الثمن، مع أنني لم أكن طرفا في المشكلة. وكنت أتخوف من قصور الأستاذ مدرس التربية الاسلامية، معتقدا أنني ابن بجدتها، وما أن طرح المدرس المعترض شكواه واستمع إليه المجلس المنعقد، حتى كان لسان حال الراحل الحبيب يقول لصاحبه “إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا” وتحدث الأستاذ رحمه الله لمدة نصف ساعة، في أطر الشريعة والقانون والعلم والفكر والدعوة وأبلغ المعترض عليه رسالة يقول له فيها ولا تنس أنني ادافع عنك، وأنك في الباب، وأنا والله مشفق وخائف عليك، من سوء فهم بعض طلابك عليك، وإن كل الذي أفعله أن أوعيهم بمقصدك العلمي الحقيقي، ووصلت الرسالة، وقطعت جهيزة قول كل خطيب.
جذلان مسرورا مبهورا وقفت يومها أمام قوة هذا الرجل وجرأته ومنطقه الذي جعل مجلس المدرسين ينفض، وهو يشكر الأستاذ الداعية الذي كان يتكلم بلغة أهل العلم والتنوير، وينظر بازدراء إلى أستاذ العلوم الذي يتكلم بلسان رجال الكهنوت والرهبان.
ثم في المحطة الثانية..
أذكر الأستاذ عبد الحميد رحمه الله تعالى كالشعلة بين أهله يطوف عليهم عشية انتخابات نيابية جرت هناك، وخرجت قائمة الحزب هناك بصفر مقاعد. نعم صفر مقاعد لقائمة الحزب الحاكم في الباب عشية أول انتخابات يجريها حافظ الاسد في سورية.وخرج حافظ الاسد بنتيجة أن الريف السوري عصي على الاختراق. وقد ذكر “باتريك سيل” هذا في كتابه عن حافظ الاسد. وكيف انهم اخترعوا لاختراق هذا الريف ” القائمة الريفية” الموحدة يشكلها الحزب وينتخب ابن الباب ممثله من اعزاز أو عفرين، والعكس صحيح.
وكان دور الاستاذ حسن رحمه الله في تلك الانتخابات مشهودا..
ثم أتوقف في حياة الداعية الكبيرةً عند المحطة الأخيرة في فضاء هذه الثورة حيث نذر نفسه مع التقدم في السن رائدا وعضدا ومشجعا للعاملين، ومنورا للعقول والقلوب ومثبتا للأقدام. يمزج تجاربه التاريخية بكل ما في الواقع المعاصر من عقد، ويظل حاضرا في الميدان، يطير من عيهة إلى عيهة، كما كان عهدي به يوم كان يرابط بين تلاميذه في ثانوية البحتري في الباب..
الشيخ حسن عبد الحميد رحمه الله تعالى ودعنا بالأمس وهو ابن التسعين، تاركا وصيته العملية” لا نقيل ولا نستقيل” اللهم أربح له بيعه وثبتنا على الطريق الذي يرضيك عنا.
اللهم إنه قد وفد عليك، وقد كان لنا أسوة ومعلما ومنورا وقائدا فاجزه عنا خير الجزاء، واغفر له وارحمه، وزده إحسانا وعفوا وغفرانا ..
وخالص العزاء لأهل الاسلام في سورية الحبيبة، وللشهباء وأهلها ولمدينة الباب بمن فقدت ولأسرة الفقيد جميعا ولنجله أبي حسان، واجعله خير خلف.
اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى