مقالات

نظرية العثماني عن آيات القتال .. عرض ونقض

د. عطية عدلان

مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
عرض مقالات الكاتب

 الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

لم يجرؤ أحد من المنتسبين للعلم الشرعي – فيما أعلم – على ردّ هذه الفريضة المحكمة وإنكارها؛ ذلك لأنّ ظهورها كالشَّامَةِ بين شعائر الإسلام وشرائعه يُلْجم كلَّ لسان أو بَنَان يجمح عن الاتباع والتوقيف ويجنح للمعاظلة والتجديف، فأقصى ما يطمح فيه طامحٌ أن يُشَوِّشَ على هذه الفريضة؛ ليبطل عملها ويضعف أثرها ويعطل مسيرتها.

    حتى جاءنا الأخ العزيز الدكتور سعد الدين العثماني بما جاءنا به، من أنّ آيات القتال في القرآن الكريم كانت تخاطب النبيّ ومن معه من جيل الصحابة خاصة، وأنّها موقتة بذلك التاريخ لا تجاوزه إلى ما وراءه من الأزمان، وليست الأمّة ملزمةً بما تضمنته الآيات من أحكام شرعية، وإنّما يكفيها أن تنطلق من واقعها الذي تعيشه لتحقق المقاصد التي قررتها الآيات بالوسائل التي تراها مناسبة للزمان والمكان والحال!

    هذا الكلام البالغ الخطورة أذاعه فضيلة الدكتور، في بحث متوسط الحجم، اختصره في محاضرة، حضرها مجموعة من العلماء وطلبة العلم، جُلُّهم خالفه وبعضُهم وافقه، والبحث قد أشار إليه في محاضرته، والمحاضرة منشورة([1])، ادعى فيهما أنّ القتال من التصرفات “الدنيوية” المفوضة في كل زمان إلى السلطة السياسية، بلا أدنى تدخل من الشريعة، اللهم إلا بما أقامته من مبادئ عامّة ومقاصد كلية.

    يقول الدكتور العثماني: “هذا النوع من الأحكام خاص بزمان نزول القرآن الكريم أو بقوم معينين ممن خاطبهم … وهي ليست أحكاما مرتبطة بعللها وجودا وعدما؛ لأنّها مرتبطة بمصالح عامّة وليس بعلل خاصة، وليست أحكاما مرحلية لأنّها لا تتطور نحو حكم تشريعيّ ديني نهائيّ، بل هي أحكام مرتبطة بمقاصد عامة تعالج ظروفا معينة عاشتها الجماعة المؤمنة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بما يكافئها، وليس مطلوبا من المسلمين معالجة ظروف مماثلة بمثل ما واجهها به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل المطلوب منهم الاجتهاد لتحقيق مقاصد الشرع في الواقع بإبداع الوسائل المكافئة لعصرهم وظروفهم”([2]).

    وحتى لا يظنّه القراءُ واقفا في خندق الحداثيين الذين يقولون بتاريخية النصوص ووقتية الأحكام – ذلك القول الذي استبشعه علماء الأمّة ودعاتها ومفكروها – رأيناه يتدسس إلى الفكرة من مدخل أصوليّ، فيدعي أنّ هذا من قبيل العام الذي أريد به الخاص، فيقول: “ومن أنواع العام المراد به الخصوص في القرآن الكريم تلك الآيات التي عالجت أوضاع المجتمعات التي نمت فيها دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانت خاصة بها وبفاعليها، ومن هنا فقد تتلبس الأوامر الشرعية في القرآن بظروف ذلك العصر وتعبر عن حاجات الواقع الذي نزل فيه خاصة”([3])!

    وقبل أن أباشر الردّ على هذا الكلام الخطير أحبّ أن أنوه إلى أمر غاية في الخطورة، وهو أنّ ما انتهى إليه الدكتور هو ذاته غاية ما يسعى إليه العلمانيون والحداثيون لإبطال الشريعة – وإنْ كنّا نظنّ أنّه حسن النية لا يسعى إلى مرادهم الخبيث – وإذا كانوا هم قد تعوقوا كثيرا بسبب خطابهم المتبجح المتوقح فإنّ أخانا الحبيب قد وجد المسلك الذلول الذي ينفذ من خلاله إلى الغاية التي عجزوا هم عن بلوغها، فما أسهل أن تُرَدَّ أحكام الشريعة كلها بهذه الذريعة، فلا يلبث العابث من أيّ فصيل أو قبيل أن يدعي نفس الدعوى لأحكام أخرى من أحكام الشريعة، ولن يعجز عن إيجاد الحيل والذرائع، ولو عن طريق التأويل الصعب لأقوال الفقهاء والأصوليين، مثلما فعل أستاذنا هذا، مما سيأتي بيانه بعد أن نطوف تطوافة سريعة على بعض أحلام الحداثيين وأوهامهم.

    فهذا أحدهم يدعي أنّ آية الأحزاب (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ) موقته بزمن النبوة لتمييز الحرائر عن الجواري”([4])؛ فبماذا ترد عليه سعادة الدكتور، وقد ساق من الظروف التاريخية الكثير من مثل ما عولت أنت عليه؟! وبماذا ترد على الجابريّ وهو يُخَرِّج مسألة ميراث الابنة هذا التخريج التاريخانيّ، حيث ادعى أنّ توريث البنت نصف حظ الإبن إنّما جاء مراعاة لطبيعة المجتمع القبليّ آنذاك؛ حيث كان توريث البنت من حيث الأصل سيؤدي إلى الإخلال بنظام اقتصاديّ قائم على ملكية القبيلة للمرعى ولحق الرعي على الشيوع، وهذا هو السبب الذي من أجله لم تكن البنت ترث في أغلب القبائل؛ فجاء الإسلام بحل وسط؛ مقصده رعاية مصلحة الناس (في ذاك الأوان)([5])، يعني ذاك الأوان وحسب.   

    وبماذا ترد على عبد المجيد الشرفيّ وقد زعم أن القصاص والدية والعاقلة كانت أحكاما مناسبة للمجتمع القبلي، وأنّها اليوم لم تعد مناسبة للمجتمع الحديث([6])! وكيف تجيبه على اقتراحه المبني على نفس الطريقة التاريخانية: “نظرا لما حدث من تأويل في عهد أبي بكر مع حروب الردة أصبحت الزكاة هي التي توفر موردا من أهم موارد بيت مال المسلمين أي ميزانية الدولة الإسلامية … فالضرائب في الحقيقة كما تمارسها الأنظمة الحديثة في الدول القومية والوطنية هي تعبير حديث عن نفس المفهوم”([7])!

    وهذا نصر حامد أبو زيد يُشَبِّه استدعاء المعنى التراثي للربا للتعبير به عن النظم المعاصرة بمثابة لبس الجلباب في المواصلات المزدحمة فيؤدي “للكعبلة”([8])! إنّك يا سيدي بهذه القاعدة التي نسجتها من قصاصات متناثرة وقلامات مبعثرة قد فتحت الباب على مصراعية – دون قصد منك ولا سوء نية – لمن يرومون إبطال الشريعة جملة؛ فإنّ طَرْدَ هذه القاعدة لا يؤدي إلا إلى هذه النتيجة الخطرة.

    إنّ صرفك لظاهرة “العام الذي أريد به الخاص” إلى اتجاه تخصيص بعض الأحكام بزمن النبوة – مع كونه بعيد عن الصواب بُعْدَ المغرب عن المشرق – يمثل متكأً للداعين إلى إبطال الشريعة باسم تاريخية النصوص ووقتية الأحكام، وإنّك بهذا تُعْطِيهم أمضى سلاح يحققون به غايتهم، التي طالما عبروا عن شبقهم إليها، فانظر إلى “جعيط” وهو يقول فَرِحًا: “إنّ أهم شيء أتى به العلم الحديث بخصوص القرآن هو تورخته”([9])، واستمع للضال المبتدع “شحرور” وهو يقرر في زهو وغرور: “إنّ كل ما روي من أحاديث نبوية تتعلق بأنماط الحكم يرتبط – إن صح – بالأنماط البنيوية التاريخية التي قيل فيها الحديث”([10])، إنّك تدعم – من حيث لا تدري – مدرسة قامت في الأصل على التورخة، المدرسة “الأركونية”، ولا ريب أنّ “ركيزة المشروع الأركوني تكمن في القراءة التاريخية للتراث، أو في تطبيق المنهج التاريخي ذي الأبعاد المتعددة على الفكر العربي الإسلاميّ”([11]).

    لقد ظلّ أركون والجابري وأبوزيد وغيرهم يجدفون بمجداف “الهرمنيوطيقا” تجديفا عبثيا غير مُجْدٍ، حتى جئتهم أنت – بدلا من المجداف الكسيح – بماكينة دفع رباعي، صنعْتَها بحذق عال وحرفية بالغة من جمل وعبارات فقهية وأصولية لا نسب بينها ولا سبب.

العام المراد به الخصوص ما هو

لكن مع الأسف انتهى تنقيبُك إلى حفريات هَشَّة يكفي مجرد الإمساك بها لِتَهَشُّمِها وانْدِثارِ مَعَالِمِها، وإنّك – إذْ ذهبتَ لِتَدْلُفَ إلى موضوع التاريخانية من باب “العام الذي أريد به الخصوص” – كُنْتَ كَمَنْ حفر في “الرباط” ليبلغ كنزا فرعونيا في “الأقصر”؛ لا رابط بين الطريق المسلوك والغاية المقصودة، إنْ هو إلا التجديف وركوب الصعب.

    إنّ طرحك هذا ليس من هذا الباب قط؛ لأنّ مبحث العام والخاص إنما هو من مباحث الألفاظ، فالبحث في “عام يراد به الخصوص” إنّما يكون ببحث لفظة أو مفردة لغوية تُفَسَّر في سياق الجملة التي تحمل حكما شرعيّا تفسيرا يصرفها عن العموم الذي وضعت له بأصل اللغة إلى معنى خاص؛ فتؤثر بهذا في توجيه هذا الحكم، ولابد من توافر الأدلة القطعية المقارنة لزمن التشريع؟! لأنّ الأصل في العام العموم.

    أمّا توجيه الآيات القاضية بحكم فقهيّ مفاده وجوب القتال في سبيل الله بأنّها من قبيل العام الذي يراد به الخصوص، وأنّ هذا الخصوص هو عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ بدعوى أنّ “خصوصية الدعوة الإسلامية في عصر النبوة – بحكم كونها تأسيسية – قد تقتضي ورود أحكام خاصة بها وبظروفها وحاجياتها” فهذا إعمال للقاعدة في غير محلها، ولا ريب أنّ الأصل في خطاب الله تعالى لعباده أنّه ماض ومستمر ومستوعب للأمّة إلى يوم الدين، إلا ما استثناه دليل لا تردد فيه ولا ارتياب.

    ولقد أكثر الدكتور المحترم من إيراد أقوال المفسرين والعلماء؛ لدعم نظريته القاضية بأنّ آياتِ القتال وما فيها من أحكام تشريعٌ خاص بعهد النبوة، وبأنّها من قبيل العام الذي أريد به الخاص، فهل تسعفه هذه النقول؟ وهل تُغْنِيهِ عن افتقار نظريته وافتقاد طريقته للدليل الصحيح الصريح على أنّ آيات القتال خاصة بزمن النبيّ وأنها من قبيل العام الذي يراد به الخصوص؟ فلنستعرض الآن بعضا منها لنقف على طريقته في قَلْبِ الأقوال وتغيير وجهتها لتوافق – بالعسف والقهر – توجهه الغريب.

     من ذلك أنّه نقل كلام القرطبي حول اختلاف العلماء في قول الله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) الآية (البقرة: 216)، ثم قال: “ويذهب عدد من العلماء إلى أنّ الآية خاصة بالصحابة أي أنّها من العام المراد به الخصوص” ثم نقل عن الطبري في تفسير الآية أقوال مجاهد وابن دينار والأوزاعي وغيرهم، ثم استدل على صحة ما ذهب إليه بآية (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) الآية (النساء: 95)، وبعد أن نقل أقوال المفسرين كالطبري وغيره قال: “فوجب أن تكون كتابة القتال في الآية أو فرضه خاصا بمن خاطبتهم آنذاك وحدهم”([12]).

    ومن تأمل أقوال العلماء لم يجدهم يتحدثون عن فرض القتال في الأصل على الأمة، إنّما تحدثوا عن الغزو، وتساءلوا: أواجبٌ الغزوُ على جميع الناس فيكون فرضَ عين على كل مسلم، أم إنّه واجب على الكفاية بحيث إذا قام به البعض سقط عن الباقين وصار في حقهم مستحبا لا فرضا مكتوبا؟ فانتهوا جميعا إلى أنّ الغزو – لا الدفع – فرض كفاية، واختلفوا في فهم “كُتب عليكم” التي يفيد ظاهرها الوجوب العينيّ، فقال بعضهم: إنّ هذا – أي الوجوب العيني – كان خاصا بالصحابة، ولا يعنون بذلك أنّه من قبيل العام الذي أريد به الخصوص، وإلا لما بقي للوجوب – بنوعيه العيني والكفائي – على غيرهم أثر، وهذا ما لا وجود له في سياق كلامهم، وقال آخرون بأنّ الوجوب كان عينيا في أول الأمر ثم نسخ فبقي كفائيا إلا إذا تعين بأي سبب آخر من أسباب التعيين، وهذا ما يفهم من سياق أقوالهم.

    قال الإمام القرطبي: “واختلفوا من المراد بهذه الآية، فقيل: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، فكان القتال مع النبي صلى الله عليه وسلم فرض عين عليهم، فلما استقر الشرع صار على الكفاية، قال عطاء والأوزاعي. قال ابن جريج: قلت لعطاء: أواجب الغزو على الناس في هذه الآية؟ فقال: لا، إنما كتب على أولئك. وقال الجمهور من الأمة: أولُ فَرْضِهِ إنما كان على الكفاية دون تعيين، غير أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استنفرهم تَعَيَّن عليهم النفير لوجوب طاعته. وقال سعيد بن المسيب: إن الجهاد فرض على كل مسلم في عينه أبدا، حكاه الماوردي، قال ابن عطية: والذي استمر عليه الإجماع أن الجهاد على كل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية، فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين، إلا أن ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين … وذكر المهدوي وغيره عن الثوري أنه قال: الجهاد تطوع؛ قال ابن عطية: وهذه العبارة عندي إنما هي على سؤال سائل وقد قِيمَ بالجهاد، فقيل له: ذلك تطوع”([13]).

    وقال الإمام أبو الفرج ابن الجوزيّ: قوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) [البقرة: 216]، اختلفوا في هذه الآية هل هي منسوخة أو محكمة؟ فقال قوم: هي منسوخة لأنها تقتضي وجوب القتال على الكل؛ لأن الكل خوطبوا بها، وَكِتابٌ بمعنى فرض، قال ابن جريج سألت عطاء، أواجب الغزو على الناس من أجل هذه الآية؟ فقال: إنما كتب على أولئك حينئذ، وقال ابن أبي نجيح سألت مجاهدًا هل الغزو واجب على الناس؟ فقال: لا؛ إنما كتب عليهم يومئذ، وقد اختلف أرباب هذا القول في ناسخها على قولين: الأول: أنه قوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة: 286] قاله عكرمة، والثاني: قوله: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ) [التوبة: 122]، وقد زعم بعضهم أنها ناسخة من وجه، ومنسوخة من وجه، وذلك أن الجهاد كان على ثلاث طبقات: المنع من القتال، وذلك مفهوم من قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) [النساء: 77] فنسخت بهذه الآية ووجب بها التعين على الكل، وساعدها قوله تعالى: (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا) [التوبة: 41] ثم استقرّ الأمر على أنه إذا قام بالجهاد قوم سقط عن الباقين بقوله تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ والصحيح أن قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) [البقرة: 216] محكم، وأن فرض الجهاد لازم للكل، إلا أنه من فروض الكفايات، إذا قام به قوم سقط عن الباقين؛ فلا وجه للنسخ”([14]).

    وفي تفسير الطبريّ: “حدثنا أبو إسحاق الفزاري، قال: سألت الأوزاعي عن قول الله عز وجل: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم)، أواجبٌ الغزو على الناس كلهم؟ قال: لا أعلمه، ولكن لا ينبغي للأئمة والعامة تركه، فأما الرجل في خاصة نفسه فلا … وقال آخرون: هو على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه الكفاية، فيسقطُ فرض ذلك حينئذ عن باقي المسلمين … وعلى هذا عامة علماء المسلمين، قال أبو جعفر: وذلك هو الصواب عندنا لإجماع الحجة على ذلك، ولقول الله عز وجل: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) [سورة النساء: 95]، فأخبر جل ثناؤه أنّ الفضل للمجاهدين، وأن لهم وللقاعدين الحسنى، ولو كان القاعدون مضيِّعين فرضًا لكان لهم السُّوأى لا الحسنى”([15]).

   فَتَأَمَّلْ كيف مارس الدكتور الضغط على نصوص العلماء، وطفق يعتصرها من كافّة أطرافها لتولِّدَ له – بالعسف والقهر – ما يريد تقريره؟! وهكذا فعل في سائر ما نقله عن العلماء في تفاسيرهم لآيات الجهاد، واستقصاء ما ذهب إليه وتفنيده مضيعة للوقت؛ لذلك سنكتفي بهذا المثال، لندلل به على طريقته في التعامل مع نصوص العلماء، وأنتقل سريعا إلى ما هو أهم من كل ما سبق، وهو النصوص التي بلغت حد التواتر المعنويّ في دلالتها على المعنى المشترك بينها جميعا، وهو مُضِيّ الجهاد واستمراره في الأمة الإسلامية؛ بما يقوض نظريته من أصولها، إذْ تقوم هذه النصوص حائلا دون القول باختصاص عصر النبوة بآيات القتال.

    منها الأحاديث المصرحة بأن الجهاد ماض لا ينقطع، كحديث “الخيل معقود في نواصيها الخير” فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»([16])، وعن عُرْوَةُ البَارِقِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ: الأَجْرُ وَالمَغْنَمُ»([17])، فهذا الحديث الصحيح يؤكد استمرار هذه الفريضة، التي هي رهبانية الأمة كما  في هذا الحديث: عن معاوية بن قرة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَهْبَانِيَّةً، وَإِنَّ رَهْبَانِيَّةَ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»([18])، فالخير المعقود في نواصي مركبات الجهاد ماض إلى يوم القيامة، والجهاد – وهو عند الإطلاق لا يعني إلا القتال – رهبانية الأمة الإسلامية، وميادين الجهاد هي محاريبها وصوامعها التي تتبتل فيها.

    وقريب من هذا الحديث حديث سلمة بن نفيل قال: بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْخَيْلَ قَدْ سُيِّبَتْ، وَوُضِعَ السِّلاحُ، وَزَعَمَ أَقْوَامٌ أَنْ لا قِتَالَ، وَأَنْ قَدْ وَضَعَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَذَبُوا، فَالآنَ جَاءَ الْقِتَالُ، وَلا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، يُزِيغُ اللَّهُ قُلُوبَ قَوْمٍ لِيَرْزُقَهُمْ مِنْهُمْ، وَيُقَاتِلُونَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَلا يَزَالُ الْخَيْلُ مَعْقُودًا فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»([19])

    أمّا حديث الطائفة المنصورة فهو من أقوى الأحاديث دلالة على استمرار هذه الفريضة، ومن رواياته التي صرحت بالقتال: عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَنْ يَبْرَحَ هَذَا الدِّينُ قَائِمًا، يُقَاتِلُ عَلَيْهِ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»([20]) وعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»([21]) وعن مُعَاوِيَةَ مرفوعا: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَلَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ، إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»([22]) وعن عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مرفوعا: «لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، قَاهِرِينَ لِعَدُوِّهِمْ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»([23])، وهذا سياق يدل على رضى النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، وهذه من الأحاديث التي تستلهم منها البشريات باستعادة الأمة لمجدها عبر القتال في سبيل الله.

     هذا سوى الأحاديث التي تبشر بالفتوح، وهي أيضا تدل على استمرار الفريضة؛ لأنّها – وإن كانت من قبيل الأخبار – تحمل معنى الرضا بذلك، ورسول الله لا يرضى بما يخالف شريعة الله، منها هذه الأحاديث، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أُمِّ حَرَامٍ، وَهِيَ خَالَةُ أَنَسٍ، قَالَتْ: أَتَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ عِنْدَنَا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قَالَ: «أُرِيتُ قَوْمًا مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ ظَهْرَ الْبَحْرِ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ»، فَقُلْتُ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: «فَإِنَّكِ مِنْهُمْ»، قَالَتْ: ثُمَّ نَامَ، فَاسْتَيْقَظَ أَيْضًا وَهُوَ يَضْحَكُ، فَسَأَلْتُهُ، فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، فَقُلْتُ: ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: «أَنْتِ مِنَ الْأَوَّلِينَ»، قَالَ: فَتَزَوَّجَهَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ بَعْدُ، فَغَزَا فِي الْبَحْرِ فَحَمَلَهَا مَعَهُ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ قُرِّبَتْ لَهَا بَغْلَةٌ فَرَكِبَتْهَا فَصَرَعَتْهَا، فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا»([24])

    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمُ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي، فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ، فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ»([25])، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ فَارِسَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ اللهُ» قَالَ: فَقَالَ نَافِعٌ: يَا جَابِرُ، لَا نَرَى الدَّجَّالَ يَخْرُجُ، حَتَّى تُفْتَحَ الرُّومُ»([26]).

    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: “لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالْأَعْمَاقِ أَوْ بِدَابِقٍ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ، مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، …» الحديث([27]).

    وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ” يَأْتِي زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ، فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ صَاحِبَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ »([28]).

    وقد قبضت يدي – خشية الإطالة – عن كثير من النصوص الصحيحة الصريحة المتواترة معنويا على حقيقة استمرار فريضة الجهاد في الأمة إلى آخر الزمان، فمن المستحيل إذن أن تكون آيات القتال وما تحمله من أحكام خاصة بعهد النبوة، أو تكون من قبيل العام الذي يراد به الخصوص؛ هذا .. والله تعالى أعلم .. ونسأل الله الهدى والسداد والرشاد لنا وللدكتور الكريم ولسائر المسلمين.


([1])  https://www.facebook.com/watch/live/?extid=CL-UNK-UNK-UNK-AN_GK0T-GK1C&ref=watch_permalink&v=497140328701495 

([2]) آيات القتال في القرآن نحو فهم مقاصديّ صــــ20 – منسوب ل د. سعد الدين العثماني – الكتاب متداول على مواقع التواصل يحمل اسمه – وقد أحال إليه ثلاث مرات في محاضرة له بمنتدى الريسوني للحوار، وما يحتويه بسط لما في المحاضرة ..

([3]) آيات القتال في القرآن نحو فهم مقاصديّ .. مرجع السابق صــــ 8

([4]) الرق ماضيه وحاضره للترمانيني، نقلا عن: الصحوة الإسلامية في ميزان العقل – فؤاد زكريا – دار الفكر المعاصر – القاهرة – ط ثانية 1987م صــــ22

([5]) التراث والحداثة دراسات ومناقشات – د. محمد عابد الجابري – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – لبنان – ط أولى 1991م صـــ 54-55

([6])  مرجعيات الإسلام السياسي – عبد المجيد الشرفي – التنوير للطباعة والنشر والتوزيع – تونس و لبنان – ط أولى 2014م صــــــ27-28

([7]) مرجعيات الإسلام السياسي – عبد المجيد الشرفي مرجع سابق صــــ 78-79

([8]) نقد الخطاب الديني – د. نصر حامد أبوزيد – سيناء للنشر – القاهرة – ط ثانية 1994م صــــ213

([9]) تاريخية الدعوة المحمدية في مكة – هشام جعيط – دار الطليعة بيروت – لبنان – طبعة أولى 2007م صـــــ185

([10]) الدولة والمجتمع – محمد شحرور – دارالأهالي – دمشق – بدون تاريخ – صـــــ158

([11]) التراث والمنهج بين أركون والجابري – د. نائلة جابر – الشبكة العربية للأبحاث والنشر – بيروت – ط أولى 2008م صــــــ81

([12])  ر: آيات القتال فيي القرآن نحو فهم مقاصديّ – مرجع سابق صــ48 وما بعدها  

([13]) تفسير القرطبي (3/ 38)

([14]) نواسخ القرآن = ناسخ القرآن ومنسوخه ت آل زهوي (ص: 73)

([15])  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (4/ 296)

([16]) صحيح البخاري (4/ 28)   

([17])صحيح البخاري (4/ 28) 

([18]) رواه سعيد بن منصور في سننه برقم”2148″(ج2ص580)، بإسناد حسن رجاله ثقات عدا محمد بن الفضيل الضبي وهو صدوق عارف رمي بالتشيع، والبيهقى في الشعب برقم”3915″(ج6ص2649)

([19]) رواه النسائى في الصغرى ك الخيل باب الخيل معقود في نواصيها الخير… برقم”3523″(ج5ص2390)، والإمام أحمد في المسند برقم”16622″(ج14ص6644)، والطبرانى في الكبير برقم”6234″(ج8ص3639)، 

([20]) صحيح مسلم (3/ 1524)

([21]) صحيح مسلم (3/ 1524)

([22]) صحيح مسلم (3/ 1524)

([23]) صحيح مسلم (3/ 1524)

([24]) صحيح مسلم (3/ 1519)

([25]) صحيح مسلم (4/ 2239)

([26]) صحيح مسلم (4/ 2225)

([27]) صحيح مسلم (4/ 2221)

([28]) صحيح البخاري (4/ 37)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى