بصدد الميول الانفصالية وحقوق الأقليات

من الناحية المبدئية والأخلاقية والديمقراطية الحقة فإنه لا يحق لأي مجموعة بشرية أن تختلق أي مسوغات نظرية أو تطبيقية أو ذرائعية أو تنفيذية تعيق أو تمنع أي مجموعة بشرية أخرى مهما كانت متواضعة في عددها أو أي من مميزاتها الاجتماعية أو الاقتصادية أو التاريخية أو الثقافية من حق تقرير مصيرها بالشكل الذي يتفق مع إرادة الأفراد المنتسبين إليها ورغباتهم في تحقيق هوية مجتمعية يشعرون بالانتماء إليها، ويرون أن تحققها جزء جوهري من إحساسهم بقيمتهم ووجودهم الإنساني في حيواتهم المعاشة يومياً. وعلى الرغم من أن الطرح السابق قد لا يروق الكثيرين من دعاة التوحيد المجتمعي على «الطريقة البسماركية» التي اتبعت نهج «السياسة الواقعية» أو باللغة الألمانية «Real Politik» والتي كانت تعني عملياً تطبيق سياسة «العصا والجزرة» لإرغام المقاطعات والإمارات الألمانية المستقلة، والتي كانت تعد بالمئات قبل العام 1871، على القبول بالانضمام تحت راية القوة الناهضة لدولة بروسيا الألمانية، سواء بالترغيب أو الترهيب أو القوة العسكرية العارية؛ وهو ما أفضى لبزوغ «الغول الألماني» الذي كان من نتائجه المباشرة الحربان العالميتان الأولى والثانية، واللتين كادتا تذهبان بكوكب الأرض بأسره تدميراً بأسلحة نووية كان الألمان قاب قوسين أو أدنى من إدراكها في خواتيم الثانية منهما. وهما نفس الحربين اللتين أفضتا لاقتسام العالم انتداباً بين المنتصرين في الحرب الأولى منها، وتقسيماً اعتباطياً غير قائم سوى على مصالح المستعمرين الأقوياء لما وضعوا أيديهم عليه بالقوة في الحرب العالمية الأولى لتحويله إلى «دول مهترئة خلبية» يفصلها حدود مختلقة على شكل «ندبات وجروح متقرحة على وجه البسيطة» باستعارة من توصيف الاقتصادي المرموق «يانس فاريوفاكيس»، بشكل تمخض عنه بتر واحتزاز المجتمعات التي تكونت على امتداد عشرات القرون وتقسيمها إلى «كيانات سياسية» لم تنتج سوى التقهقر والتخلف والمعاناة السرمدية لكل المظلومين المقهورين الذين كان لا بد لهم من قبول تلك الحقائق التي تم تخليقها بالقوة في تلك المجتمعات، والتي قد تكون صيرورة تكوين «الدول العربية» وحطامها الاجتماعي الهشيمي أكثر الأمثلة جلاء في عكسها للصورة القائمة لصيرورة تخليق الكيانات السياسية بالقوة العارية كما لو أنها استنساخ عن مفهوم «الدولة التنينية» بحسب تصور توماس هوبز له في كتابه الشهير «Leviathan» الذي صدر في بريطانيا في العام 1651، وكان المقدمة لكل إيديولوجيات تغول الأقوياء على المستضعفين، وإرغامهم على الخضوع لذلك الواقع المؤوف بقوة الدولة الشمشونية، و التي هي في الواقع أداة لتكريس هيمنة الأقوياء على مصادر الثروة والسلطة في المجتمعات التي تم قولبتها عنوة في دول وكيانات سياسية قائمة بالقوة وبالفعل بقوة الأجهزة القمعية المشهرة أو المضمرة التي تشكل عماد تكوينها القانوني، والسياسي، والتنفيذي، وحتى الاشتراعي الذي تحول في مرحلة صعود الديموقراطيات التزويقية الشكلية في العديد من الدول الصناعية المتقدمة إلى مسرحيات دورية كل بضع سنوات لانتخاب ممثلين من «سدنة هيمنة الأقوياء على المستضعفين»، والذين ينحصر دورهم بعد انتخابهم في تكريس وتوطيد تلك الهيمنة وتعزيز ريعيتها وعوائدها النفعية على الأقوياء الأثرياء المتحكمين بمفاصل الحل والعقد في تلك المجتمعات. ومن الناحية العلمية المحضة فإن أدمغة بني البشر قد تنقت بقوة الاصطفاء الطبيعي على امتداد رحلتهم التطورية الطويلة كجنس في مملكة الحيوانات، والتي امتدت على سبعة ملايين من السنين، بحيث أصبحت تعمل دائماً «كبوصلة متقدة لحفظ النوع من الانقراض بكل ما هو متاح عقلياً أو جسدياً»، وهو ما كان من ضمنه تعضي بنيتين تشريحيتين في الدماغ البشري هما اللوزة الدماغية Amygdala والحصين Hippocampus لتصبحا بمثابة قاعدتين لقرون استشعار وظيفية متخصصة في التعرف على أولئك الذين قد يسهمون في تسهيل ضالة الدماغ والعضوية البشرية ككل في حفظ النوع، والذين سوف يتم تصنيفهم في خانة «نحن»، وأولئك «الآخرين» الذين قد لا يحققون تلك الغاية أو يهددون وجود العضوية وعيوشيتها بشكل مباشر. وذلك التعضي وما ترتب عنه من مهمات بيولوجية وعقلية لا بد من القيام بها بشكل دائم، أخذ بالتعقد كثيراً في مرحلة تطور المجتمعات البشرية وازدياد عددها منذ استقرار البشر في مجتمعات زراعية مستوطنة، وهو ما تطلب من الدماغ البشري استنباط مفاتيح تصنيفية جديدة تتسق مع تلك المستجدات وإفرازاتها لتعريف من يمكن إجمالهم في مجموعة «نحن»، وتبئير للصفات التصنيفية والتعريفية التي يمكن تلمسها فيهم لأجل التحقق من تلك المهمة العضوية التي تسخر لها أدمغة البشر الكثير من مصادرها وطاقتها، وهو ما أفرز تعقداً وتشابكاً في السمات التصنيفية التي يبني عليها البشر «إحساسهم بهويتهم وكينونتهم وانتماءهم» إلى محيطهم الاجتماعي والحيوي. وهو تعقد بيولوجي وظيفي لا يعني بأي من الأحوال صحة توجهاته و استخلاصاته في الكثير من الأحيان، إذ أن بوصلة بني البشر العقلية لا زالت تعاني من المعضلة التطورية المحضة المتمثلة بأن أدمغة بني البشر تطورت و تنقت بنيوياً ووظيفياً لتلبي حاجات بني البشر في مرحلة الصيد والجمع والالتقاط التي قضوا فيها ما يقارب السبعة ملايين من السنين، ولم تتطور لتلبي حاجات تعقد المجتمعات الزراعية التي لم يقضوا فيها سوى بضعة آلاف من السنين، وهو ما تفاقم مع حلول المدنية المعاصرة وتعقيدها وتشابك معطياتها التي خلطت الحابل بالنابل على أدمغة بني البشر التي لم يتم ابتناؤها للتعامل مع تلك الشبكة المعقدة من المعطيات التي لم تمضي البشرية فيها سوى مئتي سنة ونيف ليست كافية بأي شكل كان لقوى الاصطفاء الطبيعي لغربلة فيزيولوجيا وتكوين أدمغة أجيال بني البشر خلال تلك المدة الزمنية المحدودة للتكيف مع تلك المعطيات المستحدثة. وهذا الواقع العلمي والحياتي المليء بالتناقضات الصارخة في كثير من الأحيان كان المقدمة لتلك الأدواء والجوائح الكارثية من أعراض القلق والاكتئاب وفقدان الإحساس بمعنى وقيمة وجود الإنسان في حياته، والتي تعاني منها المجتمعات المتقدمة والنامية على حد سواء بدرجات وأشكال مختلفة، و التي قد يكون مثالاً صارخاً عليها معاناة أكثر من نصف الشعب البريطاني من أمراض القلق والاكتئاب، وهي الأمراض التي تفصح عن نفسها حينما تخفق اللوزة الدماغية والحصين أساساً في تشكيل صورة واضحة عن «كينونة الإنسان» وعلاقتها بمجتمعها والذي يمكن إجماله بشعورها «بهوية وانتماء وقيمة وجدانية» لوجودها العابر في حياتها البيولوجية. وذلك التوصيف الأخير يعني أن المجموعات البشرية وعديد أفرادها يحتاجون بشكل عضوي عميق لأن يشكلوا وعياً يعبر عن إحساسهم بهويتهم وانتمائهم ومجتمعهم، وأن يعيشوا في حياتهم اليومية في نموذج يتطابق مع ذلك الوعي، ولا يتناقض معه بقوة القهر والقسر والتهديد باستخدام العنف في حال عدم الانصياع والخضوع لمفاعيل تلك القوة القاهرة، والتي لا بد أن يرى الدماغ البشري تلك المفاعيل كحالة مؤرقة من «اللاطبيعية واللاستقرار» يتحتم السعي لحلحلتها أو كبتها وقمعها وتحمل ما يفرزه ذلك من علل واضطرابات عقلية ووجدانية. وكما أشرنا آنفاً فإن استنتاجات بني البشر الذين لا زالوا يعانون من صدمة «تضخم المجتمعات البشرية» الفجائي في صيرورة نهوض جنس بني البشر الحالي قد لا تكون مصيبة في رؤاها لما هو الصحيح والأجدى والأنسب لهم، ولمن يهتمون بالحفاظ على حياته ووجوده وكرامته من أبنائهم وأقرانهم وأحبابهم وخلانهم وأهلهم وناسهم، ولذلك فلا بد أن يكون الحل لتلك المعضلة ليس بقمع ودفن تلك الرؤى والتوجهات تحججاً بعدم أحقيتها، لأن الحقيقة والصواب المطلق وعي زائف ووهم لا يمتلكه أي كائن عضوي أو افتراضي أو مجموعة بشرية، بالإضافة إلى أن البشر هم أكثر الكائنات الحية قدرة على التعلم من أخطائهم وتجاربهم؛ وهو ما يعني عملياً بأن إفساح الفرصة لبني البشر لتحقيق رؤاهم المرحلية التي يصبون إليها خطوة لا بد منها ليتكشفوا صواب تصوراتهم أو نقاط ضعفها وعوارها، وهو ما لا بد أن يستتبعه وفق نهج عمل الدماغ البشري تقييم الأفعال واستنتاج الاستخلاصات منها، وإعادة نظم التوجهات المستقبلية بما ينسجم مع تلك النتائج والاستخلاصات. وذلك التوصيف الأخير يتسق مع جوهر فكرة الديموقراطية التي لا بد أن تفضي إلى ترقية مستوى سعادة الإنسان وترقي المجتمع الذي يعيش في كنفه من خلال إتاحة الفرصة الحقيقية له للاجتهاد والاتكاء على سلاح بني البشر الأمضى بين جميع أقرانهم من الكائنات الحية ألا وهو قدرات العقل العاقل، ويعنى به هنا قدرات قشرة الدماغ الجديد الذي يتفوق به بنو البشر على كل أسلافهم وأبناء عمومتهم في مملكة الحيوانات. وعودة على السؤال الأساسي المتعلق بحق تقرير المصير في المجتمعات التي يشعر أبناؤها بحقهم في التميز والفرادة وتحقيق هوية ثقافية جامعة لهم يتكئون فيها على نقاط يرون أنها تشكل ميدان التقاء فيما بينهم، فإن الإجابة العقلانية عن هذا السؤال المحوري لا بد أن تكون بإفساح المجال لتحقق تلك الإرادات دون محاولة كبح ذلك من قبل أي فئة اجتماعية أخرى قد لا يروقها ذلك لأسباب ذرائعية أو إيديولوجية أو اقتصادية أو غيرها، إذ أن الديموقراطية الحقيقية وفق النهج «الأثيني» الأصيل تقتضي إتاحة الفرصة لكل «مواطن حر» في المشاركة في اقتراح الشكل الأمثل لممارسة إدارة شؤون المجتمع الذي يعيش في كنفه، وهو ما قد يعني في ظل تعقد وتطبق طبيعة المجتمعات المعاصرة القبول بتميز فئات عن فئات أخرى ضمن مجتمع واحد، سواء كان ذلك على شكل انخراط في حركية فاعلة في «تنظيمات المجتمع المدني» وفق تصور أنطونيو غرامشي له، أو حتى افتراقاً لتلك الفئات عن بعضها دون غضاضة في مجتمعات خاصة لكل منها، مع ترك الأبواب مفتوحة لأشكال لن يكون صعباً على «العقل البشري المبدع» استنباط نماذج لها من «فيدرالية وثيقة أو فضفاضة العرى» تجمع تلك المجتمعات بشكل يرتضيه كل أبناء تلك المجتمعات بشكل يؤسس لتحقق التوازن المرهف الذي لا بد منه بين إحساس أبناء كل مجتمع بتحقق معنى عياني مشخص لذواتهم ووجودهم وكينونتهم الإنسانية والوجدانية وهويتهم الفكرية والمعرفية، وبين الحاجات النفعية التي لا بد من تحقيقها سواء في الميدان الاقتصادي أو الخدمي أو غيرها، والتي قد تقتضي تضافر وتعاون تلك المجتمعات فيما بينها لتحقيق مصلحة تبدو جامعة لتلك المجتمعات و من يعيشون في حياضها، وبشكل يصبح الخاص فيه إغناء للعام ويصبح فيه العام عنصر قوة وتعزيز للخاص والحميمي في حيوات بني البشر.