فراس العبيد
تسعى أنقرة للاستفادة من المشهد السياسي الدولي، (الحرب لاروسية على أوكرانيا، والرغبة في توسيع “حلف الناتو”، وضم أعضاء جدد)، في تحقيق مكاسب على اﻷرض، تضمن فيها “أمنها القومي”، وفق ما تجمع عليه تصريحات المسؤولين اﻷتراك، وفي مقدمتهم الرئيس، رجب طيب أردوغان. وبالتالي؛ فرض رؤية ومقاربة جديدة مع الغرب.
استعداد وتبرير:
والواضح من خلال تصريح وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، يوم أمس الثلاثاء، فإن اﻻستعداد العسكرية والجاهزية عالية، ويبدو أن ساعة الصفر قريبة لإجراء تركيا عملية عسكرية جديدة شمال سورية.
وبرر آكار؛ “كان هناك خطط لإنشاء حزام إرهابي في المنطقة لم تسمح تركيا بذلك، ولو لم تفعل تركيا ذلك لكانت تركيا أمام واقع أصعب، وعلى الجميع أن يعلم حزم الجيش التركي في هذا الأمر”.
رسائل للغرب:
ووجه آكار حزمة من الرسائل، من خلال تصريحاته، وتطمينات، خاصةً فيما يتعلق بملفي “العراق وسوريا”، حيث شدد على ضرورة تفهم جميع الدول الموقف التركي من أن (حزب العمال الكردستاني) هو نفسه (وحدات الحماية الكردية)، مع التأكيد أن بلاده لن تقبل بوجود هذه العناصر على حدودها مهما كانت الجهة التي تقف خلفهم.
كما أكد آكار على احترام تركيا وحدة وسيادة دول الجوار، وعلى رأسها سورية والعراق، إلا أن حماية أمنها القومي يدفعها إلى إجراء هذه العمليات العسكرية، وأن هدف تركيا هم الإرهابيون فقط، من دون أن يكون هدفها التمييز بين المذاهب والأديان والعرقيات… فالمستهدفون هم إرهابيون في الكردستاني ووحدات الحماية”.
من جهته، قال وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو في حديث لوكالة الأناضول؛ “أطلقنا عملية نبع السلام في عام 2019 ولكن ما زالت هناك عناصر إرهابية في تل رفعت ومنبج وتل تمر وشمال شرق سورية، وفي نفس العام اتفقنا مع روسيا وأميركا الموجودتين بالمنطقة على تطهيرها، وتعهدوا بذلك ولكن عملية التطهير لم تحصل”.
وأكد أن لبلاده الحق وفق القوانين الدولية بإجراء العمليات العسكرية، مبيناً أن هناك اتصالات تصل إلى تركيا تطالب بالامتناع عن العمليات من قبل أطراف، منها أميركا، مطالباً الأخيرة بأن تقوم بمهامها بتطهير هذه المناطق، فيما قال إن الولايات المتحدة “تعمل على تسليح وتدريب هؤلاء الذين يهاجمون تركيا ولا يلتزمون بالاتفاقيات الموقعة، ويطلبون لاحقاً من تركيا بالامتناع عن العملية”.
وأضاف؛ “يطالبون بالامتناع عن العملية العسكرية من أجل استقرار المنطقة، ولكن من هو الذي يعمل على تهديد المنطقة، هي هذه العناصر التي تمارس الانتهاكات بحق العرب والأقليات وتمنع عودة اللاجئين والتضييق على الأهالي”.
الملف السوري حاضرًا:
ويبدو أن الملف السوري سيكون له حضوره على الطاولة قبيل انطلاق العمل العسكري، وهذا ما يشير إليه إعلان وزير الخرجية التركي، جاووش أوغلو أن نظيره الروسي سيرغي لافروف سيزور تركيا في 8 حزيران/ يونيو الجاري، برفقة وفد عسكري سيجري لقاءات في وزارة الدفاع.
أولويات العملية العسكرية:
وتشير معظم التصريحات الرسمية التركية، إلى أنه من أولويات الحملة المقبلة هي غرب الفرات وبالدرجة الأولى بلدة تل رفعت ومدينة منبج والمناطق المحيطة بها.
قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في اجتماع برلماني في أنقرة اليوم الأربعاء (الأول من يونيو/حزيران 2022) إن ” تركيا سوف تبدأ مرحلة جديدة لتأمين عمق 30 كيلومتراً لحدودها مع سوريا”.
ونقلت وكالة بلومبرغ للأنباء عن أردوغان القول: ” تركيا سوف تطهر تل رفعت ومنبج من الارهابيين”، وتابع: “ننتقل إلى مرحلة جديدة في عملية إقامة منطقة آمنة من 30 كيلومتراً عند حدودنا الجنوبية. سننظف منبج وتل رفعت”، ووعد بالعمل “خطوة خطوة في مناطق أخرى”.
خطوة خطوة:
والراجح من كلام الرئيس التركي، السابق، أن هناك مرحلة قادمة للعمل العسكري، ولن تكون هذه العملية حاسمة، وإنما سيتبعها خطوات لاحقة، في مناطق أخرى، ما يعني أن “أنقرة” تحاول في ظل معارضة غربية، لهذه العملية، وعلى رأسها الوﻻيات المتحدة اﻷمريكية، تحاول الاستفادة من المتحولات الدولية كالحرب الروسية الأوكرانية وطلب انضمام السويد وفنلندا لحلف الشمال الأطلسي “الناتو” في كسب تأييد العمل العسكري.
فاﻻحتمال بالتالي، أن نشاهد عملية عسكرية خاطفة، على مبدأ “اختبار مواقف”، الدول الكبرى (روسيا_ أمريكا).
هل يصدق أردوغان؟
تهديدات أردوغان كانت واضحة، على عكس المرات السابقة، وهي تشير إلى تغيير في طريقة التعاطي مع الملفات الساخنة، لكنها في الوقت ذاته، تحرج أنقرة، في حال عدم تحقيق مكاسب كبيرة، سواء من العمل السياسي أو العسكري.
ويوم الأحد، أكد أردوغان أن أنقرة لا تنتظر “إذناً” من الولايات المتحدة لشن عملية عسكرية جديدة في سوريا، وفق ما نقلت عنه وسائل إعلام تركية. ويوم الاثنين، شدد مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين على “ضرورة” إنشاء منطقة آمنة على طول الحدود السوريّة-التركيّة، وفق ما أعلنت الرئاسة التركيّة. وقال اردوغان إنه “من الضروريّ جعل هذه المنطقة آمنة”.
الدوافع التركية:
ومما سبق، تتلخص نوايا اﻷتراك، في تسييج شريطها الحدودي، وضمان أمنها القومي، وملف المنطقة اﻵمنة”، وهو ما ركز عليه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بقوله؛ “إنّ أولويّة العمليّات العسكريّة لتركيا ستكون على المناطق التي تُعَدّ مركز انطلاق للهجمات على تركيا والمناطق الآمنة في سورية”.
كما ﻻ تخفى الدوافع السياسية، التي نبعت من الحالة الدولية والحرب الروسية اﻷوكرانية، التي أوجدت انقسام، ومحاولة ﻻسترضاء “أنقرة” نظرًا لكونها حليف للروس واﻷمريكان.
الرهان الكبير:
ورغم صعوبة الموقف التركي، فلا تزال اﻷخيرة ممسكةً بالعصا من المنتصف، والعمل العسكري، محكوم برهاناتٍ كبيرة.
ويحسب للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، اﻷسلوب الذي اتخذه، خلال الحرب الروسية – الأوكرانية، والذي منحه قوة تفاوضية، إذ اتخذ موقفاً وسطاً عبر محاولة لعب دور سياسي ووسيط بين طرفي الصراع، ورفض في ذات الوقت اﻻمتثال لمطالب حلفائه بفرض عقوبات على روسيا، رغم أنه عضو في حلف شمالي الأطلسي “الناتو”.
وبالتالي؛ يمكن النظر إلى العملية العسكرية هذه المرة في حال قام بها اﻷتراك، باعتباره “إحراجاً لكل اﻷطراف”، و”ستتم رغم أنف الجانبين”، بحسب الصحفي والكاتب السياسي التركي، علي أوزتورك.
وكما أسلفنا فإن الخطوة الأولى من العمل العسكري، ستكون بمثابة بالون اختبار، فأنقرة تراهن على مواقف الدول المؤيدة لها، كما تخشى من إجراءات مماثلة لما حدث على خلفية عمليتها العسكرية الأخيرة (نبع السلام)، والتي طالتها عقوبات أميركية وأوروبية، شملت حظر تصدير معدات صناعة الدفاع إليها.
بالمقابل؛ ثمة نقطة غاية في اﻷهمية، في ظل الصراع الروسياﻷوكراني، ومحاوﻻت بعض الدول الدخول في “حلف الناتو”، أما رفضٍ تركي صريح، ما يجعل العملية العسكرية، اختبارًا لموقف “السويد وفنلندا” تحديداً، والذي سيترتب عليه موافقة أو اعتراض أنقرة على انضمامهما لحلف الناتو. وحتى هذه اللحظة بدا رفض تركيا دخول “السويد وفلندا” لحلف الناتو، وسطًا بالنسبة للروس، ما يعني أن الموافقة، على توسّع الحلف؛ سيؤثر سلبياً على العلاقة الثنائية التركية الروسية، من الناحية اﻻقتصادية والسياسية.
فالرهان كبير، والثمن التركي الذي يجب تحقيقه، من المفترض أن يكون بحجم ما ستخسره مقابل موقفها، من توّسع “حلف الناتو” أو “رفضها”.
وكما هو واضح اليوم؛ فإن أنقرة باتت ممسكةً بملف شمال سوريا، بإحكام، وتعمل بتناغم مع “موسكو”، وتحاول تركيا اﻻستفادة من انشغال الروس بأوكرانيا، ﻹيجاد أرضية جديدة للتفاوض، بما يضمن ملف “اللاجئين” الذي بات عبئًا شعبيًا على أردوغان، إضافة للضغط الشعبي لحسم هذا الملف والنابع من الرابط الديني، والمكانة التاريخية لتركيا، العثمانية.
موسكو ﻻ تريد استعداء أنقرة، فهي المتحكم في مضائق البحر الأسود، بحسب اتفاقية مونترو الموقعة عام 1936، وهو الذي يسمح للغاز الروسي بالمرور إلى جنوب شرق أوروبا عبر أنابيبه العابرة للبحر الأسود، كما أن تركيا هي الصوت الوحيد المعتدل داخل حلف الناتو.
من جهتها، ﻻ تريد الوﻻيات المتحدة اﻷمريكية، الوقوف عقبة في وجه العملية العسكرية التركية ضد المسلحين الأكراد، وتنظر واشنطن للضوء اﻷخضر منها للأتراك على أنه “ثمن حقيقي” سيدفع أرودغان للقبول بتوسعة حلف الناتو وفتح جبهة مع روسيا بعرض 1300كم عبر الحدود الفنلندية، تضمن حدود الحلف الشمالية الشرقية، وتبعد خطر روسيا عن أوروبا.
الخلاصة:
العمل العسكري التركي، مسألة وقت، أهدفه واضحة، وموقف أنقرة ﻻ يزال قويًا، وبالمجمل الظروف مواتية لمناورة تركية، وفرصة ذهبية لخلط اﻷوراق، وفق محللين.
لكننا لن نشاهد عملية حاسمة، فالقوة العسكرية، ستصب في النهاية، وهذا واضح من خلال أسلوب أردوغان السياسي، في خدمة الدبلوماسية، وقبل كل شيء “اﻷمن القومي التركي”.
وعلى سبيل المثال، يقول كورشاد زورلو الكاتب التركي في موقع “خبر تورك”؛ “سواء كانت هذه العملية ستتقدم بأسرع وقت ممكن أم بشكل تدريجي خلال شهور، فهذا سيحدد التوازنات التي يمكن أن تحققها تركيا في الداخل والخارج، وكذلك المخاوف الأمنية”.
لمحة تاريخية:
تأخذ أنقرة على واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي، استمرار دعمهم لـ”حزب العمال الكردستاني”، الذي يقود تمردًا مسلحًا ضد الدولة التركية منذ عام 1984، ويتخذ من جبال “قنديل” شمال العراق منطلقا لهجماته على تركيا، تتهم أنقرة كلا من اﻻتحاد اﻷوروبي وواشنطن بدعمه بالمال والسلاح.
يقول أردوغان؛ “إن حلفاء تركيا في واشنطن والغرب، يعلمون أن السلاح الذي يقدمونه للمسلحين الأكراد في شمال سوريا، بحجة مكافحة تنظيم الدولة الاسلامية، سيوجه في النهاية “إلى صدور أبنائنا”.
ويذكر أنّ حزب العمال الكردستاني، بالتعاون مع قوات سورية الديمقراطيّة “قسد”، كثف هجماته على مناطق شمال حلب وبعض مناطق جنوب تركيا، منذ النصف الثاني للعام المنصرم 2021 .
أمّا بالنسبة للمنطقة اﻵمنة، “إقامة منطقة عازلة شمالي سوريا”، فهي فكرة تركية طرحتها أنقرة في السنوات الأولى من الحراك الثوري المسلح ضد النظام السوري، بهدف معلن هو حماية المدنيين.
ومن وجهة نظر محللين، فإن المنطقة “اﻵمنة”، في حال تمت السيطرة عليها، يفترض أن تكون كافية لإقامة “منطقة عازلة” تحفظ لتركيا أمنها بعيداً عن مدى أي قذائف صاورخية يمكن أن تسقط داخل أرضيها، وهي كفيلة بإقامة منطقة قادرة على استيعاب مليوني لاجئ سوري، يحاول أردوغان كما يقول إعادتهم “طوعًا”، إلى بلادهم، لتخفيف العبء السياسي والاقتصادي الذي يواجهه قبل موعد الاستحقاق الانتخابي المقلق بالنسبة له بعد نحو عام.
وكان أردوغان تحدث عن “المنطقة الآمنة” لأول مرة في عام 2013. كما ظهر الرجل في السنوات الماضية، حاملا خريطة تظهر حدود تلك المنطقة، ولعل أشهر ظهور له، كان في الخطاب الذي ألقاه في الدورة الـ 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة بمدينة نيويورك الأميركية، أغسطس عام 2019. حيث قال، يومها إنه “ومع مد عمق المنطقة الآمنة إلى خط دير الزور- الرقة، بوسعنا رفع عدد السوريين الذي سيعودون من بلادنا وأوروبا وبقية أرجاء العالم إلى ثلاثة ملايين”، وتابع؛ “بالتعاون مع أميركا وقوات التحالف وروسيا وإيران، يمكننا نقل اللاجئين من المخيمات إلى المنطقة الآمنة”.
وشنت تركيا منذ عام 2016 ثلاث عمليات عسكرية في الشمال السوري، هدفها القضاء على المسلحين الأكراد وإبعاد سيطرتهم عن المناطق القريبة من حدودها هي: “عملية درع الفرات” (بين مدينيتي إعزاز وجرابلس) عام 2016، وعملية “غصن الزيتون” (عفرين) عام 2018 وعملية “نبع السلام” (بين مدينتي تل أبيض ورأس العين) عام 2019.
وأدت تلك العمليات العسكرية الـ3 إلى فرض سيطرة فصائل المعارضة السورية، التي تدعمها أنقرة، وهي تجاور مناطق ما زالت خاضعة لسيطرة قوات سورية الديمقراطية، “قسد” ذات الأغلبية الكردية.
كما أن أنقرة تقدمت منذ عام 2016 بطلبات للسويد، لتسليم 33 شخصية تقول تركيا أنهم نشطاء في حزب العمال الكردستاني، وهو ما رفضته ستوكهولم عدة مرات، بذريعة عدم وجود أدلة، أو “بعض الشخصيات المطلوبة تحمل الجنسية السويدية”.
وقابلت تركيا الرفض السابق، باعتباره نقطة خلاف جوهرية، استندت إليها في رفضها لطلب السويد للانضمام إلى حلف الناتو.
ويضم حلف الناتو الذي تأسس عام 1949، ثلاثين دولة، ويشترط نظامه الداخلي قبول الدول الأعضاء فيه بالإجماع أي طلب أو قرار ليتم تمريره، ما يعني أن (لا) واحدة من أي من أعضائه، ستكون كافية لإسقاط أي قرار.
أخيرًا، العصا التركية السحرية في الحرب الدبلوماسية… ﻻ يبدو أنها ستغير الخارطة، لكنها يفترض أن تمنح “انقرة” ثقلاً للمرحلة المقبلة، في ميزان النظام الدولي الجديد، فالمواقف الوسط مع اﻻنقسام ﻻ تنفع.