ثقافة وأدب

أمسِك عليك قناعك!

هند عودة_كاتبة سعودية|

في رواية “الأبله” لدستويفسكي، مشهد يتحدث عن فكرة لعبة اقترحها “فردشتينكو”. وهو رجلٌ عاميّ مبتذل، أخذ على عاتقه مهمة إذهال الناس بمرحٍ شاذ مُبَـالغ فيه. كانت فكرة اللعبة التي اقترحها فردشتينكو (والتي لعبها سابقًا مع أشخاص من ذات طبقته) في الحفلة التي ضمت نخبة من عِلية القوم، تتلخص في قيام كل شخص من المشاركين بسرد قصة عن نفسه، شرط أن يكون مقتنعًا في قرارة ضميره أن ماسيرويه هو أسوأ فِـعل ارتكبه في حياته!
وقع الدور الأول حسب القرعة على فردشتينكو، الذي أخذ يقص بكل ارتياح حادثة سرقته لورقة نقدية دسها في جيبه حين كان مدعواً لحفلةٍ ما، وماتسببت فيه هذه الحادثة لاحقًا من طردٍ لإحدى الخادمات!
وبالعبقرية التي عرِف بها دوستويفسكي، مضى يصف الاضطراب الذي وقع فيه فردشتينكو بعد أن صدِم بردة فعل الحضور الذين انهالوا عليه تقريعًا وتأنيبًا، ولومًا وتقززا، حدّاً دفعه إلى التطاول على أصحاب الفخامة من المدعوين، والتلميح إلى كون غالبيتهم لم يصِل لكل هذا الثراء إلا عبر وسائل غير شريفة، وأن الكثير ممن يَظهرون بمظهرٍ باهرٍ مثالي، لايمتلكون ذلك حقًا، وليس إلا الثراء من ألبسهم هذا اللباس الزائف!
ما حدث تاليًا، هو أن أصحاب الفخامة أخذوا تباعًا يروون حكايا عن أقبح مافعلوه في حياتهم، ليكتشف كل من سمعها أنها قصص لتمجيدهم وتلميعهم، لاالعكس. وهكذا نرى فردشتينكو الأحمق يهتف: ضحكوا على فردشتينكو…خدعوه…غشوه! لترد عليه تلك السيدة المخملية باستعلاء: لم يجبرك أحد على شيء، كان عليك أن تفهم اللعبة صح، كان عليك أن تتعلمها من أناس أذكياء! (ان هـ)
لاتنتظر أن تصاحب الأغنياء، ثم لاينالك من صحبتهم الأذى والصَغار. لقد جبِل الإنسان على الافتتان بالقوة، والمال قوة. وحين تكون الطرف الأضعف في حلقة تضم أمثال هؤلاء الأقوياء فحريٌ بهم أن يجعلوك مدار تندرهم، ومرمى سهامهم، والسلّم المستخدَم لارتقائهم، ومنديل الزفر الذي ينظفون به عوالقهم!
من زاويةٍ أخرى، يكشف هذا المشهد المختصر حقيقة أن الناس لايمكن أن تغفر الزلة التي ترشد لخبايا النفوس وتبرِز ضعفها. مهما أحسن فردشتينكو بعد ذلك، لن ينس الآخرون جرمه الذي أقرّ به. مهما تطاول العهد ستظل فعلته حاضرةً في أذهانهم، سترتبط السرقة باسمه؛ ما أن تُـنطَق حروفها، أو تُحكَى قصة عنها حتى ذكروه. سيصبح وجهه محفّزًا لاستحضار صورة اليد التي تنسل لالتقاط النقود، ويمسي اسمه أيقونةً للظلم، ورمي الأبرياء بمالم يقترفوه، سيقرنونه دومًا بالقسوة والتجني. وإن حدث وسرِق أحدهم في مكانٍ ضمّ فردشتينكو، فلن تتجه أصابع الاتهام أول ماتتجه إلا نحوه، مهما توفرت له من علامات التوبة وحسن السلوك، حتى وإن كان بين الحضور أوغاد ولصوص تجمّلوا بقناع الستر. وحده المُقِر بذنبٍ سابق أولى بالظنون!
ومردّ الأمر ليس لقسوةٍ مفرطة في الإنسان، وإن هي موجودة حتمًا- كما قال ستندال*- لكن الأكيد هو أن الإنسان بعد تجارب مماثلة، يصبح مهزوز الثقة حتى في نفسه. يظل دومًا يتوجس ريبةً من ضعفه الأول الذي قاده نحو تلك الرذيلة أو ذاك الجرم. إنه لن يجزم بعدم تكرار فعلته إذا ماتهيأت له الظروف مجددًا. وقياسًا على ذلك، لن يمنح ثقته المطلقة للخطائين أمثاله حتى وإن منحهم عفوه!

يبدو ملائمًا هنا أن يكون التجمّل مطلبًا مُـلحّا، ليس بالضرورة مطابقًا لما ذهب إليه إحسان عبدالقدوس في قصته “أنا لاأكذب ولكني أتجمّل” ، وإنما متهاديًا بنزر كبرياء، وقليلٍ من حيطة، تُـجنّب صاحبه السقوط تحت مقصلة البوح القاتل!
الرفقة الإنسانية لابد لها في رحلتها من تعايشٍ يظلله التجمّل والتذمم. إما ذاك، وإلا فعضّ الأنامل والندم المستطيل مآل من لايمسك عليه قناعه .

  • ينبغي الاعتراف بأن الناس قساة جدًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى