ثقافة وأدب

نقد رواية “البشموري” لسلوى بكر (2-2)

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب


وفى خطإٍ مشابهٍ تقع المؤلفة فى كلامها عن القرامطة، الذين يقول سارد أحداث الرواية إنهم كانوا يعيشون فى عصر المأمون (ص166). والمعروف أن القرامطة يُنْسَبون إلى حمدان قرمط، الذى لم يكن قد هَلَّ على الوجود بعد، فكيف توجد القرمطيةٌ قبل وجود قرمط نفسه؟ ألا إن ذلك لمن أعجب العجب. لقد تُوُفِّىَ المأمون عام 218هـ، على حين لـمَّا يكن قرمط قد وُلِد. ثم ظهر نشاطه السياسى فى الكوفة على استحياءٍ أواخر سبعينات القرن الثالث الهجرى فى عهد المعتضد بالله، داعيا فى البداية لأهل البيت قبل أن تُعْرَف حقيقة أمره، ومات مقتولا فى عهد المكتفي بالله سنة 293هـ. فكيف يقول راوى القصة إن من بين الملتحقين بمتمردى البشمور فى عصر المأمون القرامطة أنفسهم؟ إن هذا، لَعَمْرِى، لزعم غريب غاية الغرابة. بل إنها لتومئ إلى أن الحسين كبير الطباخين فى المطبخ المأمونى كان هو أيضا منهم (ص265- 266)، وهو ما يبدو أغرب وأغرب، إذ من الصعب على من يشتغل فى قصر الخلافة، ومهنته طباخ ليس له قوة يرتكن إليها وقت الخطر، أن ينتمى إلى جماعة سياسية أو مذهبية تناهض الخليفة الذى يعمل هو طباخا فى قصره تحت سمع رجاله وبصرهم. بل إنها لتجعله يُسِرّ إلى بدير بأمر القرامطة، الذين ينتسب إلى جماعتهم ويتردد على مخابئهم فى بغداد فى الوقت الذى يشتغل فى مطبخ المأمون. ولقد كان بمستطاع الكاتبة أن ترجع إلى كتب التاريخ والتراجم فتعرف عن القرمطية ومؤسسها ما كان كفيلا بعصمتها من الوقوع فى هذا الزلل الدحض، أو كان يمكنها على الأقل أن تقرأ الرواية الشامخة التى كتبها على أحمد باكثير عن هذا الموضوع بعنوان “الثائر الأحمر” فتستفيد منها فنيا ومضمونيا. بيد أنها، لفادح الأسف، لم تفعل هذا ولا ذاك.
ومن التفاوتات التاريخية المسيئة أشد الإساءة إلى الرواية كذلك زَعْم الراوى أنه كان هناك حشيش فى بغداد أيام المأمون، وأن الحسين طباخ قصر الخليفة كان يتعاطاه ويجد فيه أنسا وبهجة (ص277- 278). الله أكبر! ومتى كان ذلك يا ترى؟ وبأية أمارة؟ أوتظن المؤلفة، وهى المسؤولة فى الحقيقة عن هذا الخلط والاضطراب، أن يكون ثَمّ حشيش فى عصر المأمون ثم يسكت واحد كالجاحظ فلا يكتب رسالة فيه، وهو الذى لم يترك موضوعا من الموضوعات إلا وضع فيه رسالة أو كتابا بما فى ذلك المفاضلة بين النساء والغلمان على غرابة الموضوع؟ بل أتظن أن أبا الفرج الأصفهانى كان ليسكت فلا يتناول هذا الحشيش فى كتاب “الأغانى”، الذى جمع فأوعى ولم يترك شاردة أو واردة فى حياة الشعراء، وبخاصة شعراء العصر العباسى، إلا وأوردها مفصلة دون أى قدر من التحرج، بل بقدر من المبالغة شديد؟ أوكان الفقهاء يسكتون فلا يتكلمون فى هذا الأمر؟ أوكان الشعراء يصمتون صمت القبور، وهم الذين لم يكونوا يعرفون حرجا فى معالجة أى غرض من الأغراض مهما تكن غرابته أو شذوذه؟ فلتذهب إلى مؤلفات ذلك العصر وأشعاره ولترنا كتابا أو رسالة أو قصيدة وضعها صاحبها فى الحشيش إن كان حقا ما يقوله راويها المسكين الذى لا له فى الثور ولا فى الطحين لأن الثور والطحين كليهما لها هى، فهى المسؤولة عنهما تمام المسؤولية.
تعال مثلا نقرأ معا ما كتبه فى هذه المسألة ابن تيمية، الذى وضع رسالة عن الحشيشة ساق فيها ما بلغه من أنها ظهرت بين المسلمين في أواخر المائة السادسة وأوائل السابعة، وكان ظهورها مع ظهور سيف جنكيز خان. وفى رأيه أن هذه “الحشيشة الملعونة”، كما كان يسميها، تورث متعاطيها الخيالات وتضل عقله ودينه وخلقه. وهي، عنده، شر من الخمر لأنها تغيب عقل آكلها فيبقى مسطولاً، وتورث مدمنها التخنث والدياثة والجنون. ولدينا أيضا ممن كتبوا عن الحشيشة تقى الدين المقريزى، الذى نقرأ فى كتابه: “المواعظ والاعتبار” تحت عنوان “حشيشة الفقراء” (أى الصوفية) ما يلى: “قال الحسن بن محمد في كتاب “السوانح الأدبية في مدائح القِنَّبِيّة”‏:‏ سألت الشيخ جعفر بن محمد الشيرازيّ الحيدريّ ببلدة تستر في سنة ثمان وخمسين وستمائة عن السبب في الوقوف على هذا العقار ووصوله إلى الفقراء خاصة، وتعدّيه إلى العوام عامّة، فذكر لي أن شيخه شيخ الشيوخ حيدرًا رحمه الله كان كثير الرياضة والمجاهدة، قليل الاستعمال للغذاء، قد فاق في الزهادة، وبرَّز في العبادة. وكان مولده بنشاور من بلاد خراسان، ومقامه بجبل بين نشاور ومارماه. وكان قد اتخذ بهذا الجبل زاوية، وفي صحبته جماعة من الفقراء. وانقطع في موضع منها ومكث بها أكثر من عشر سنين لا يخرج منها ولا يدخل عليه أحد غيري للقيام بخدمته‏.‏ قال‏:‏ ثم إن الشيخ طلع ذات يوم، وقد اشتدّ الحرّ وقت القائلة، منفردًا بنفسه إلى الصحراء، ثم عاد وقد علا وجهه نشاط وسرور بخلاف ما كنا نعهده من حاله قبل، وأَذِن لأصحابه في الدخول عليه وأخذ يحادثهم. فلما رأينا الشيخ على هذه الحالة من المؤانسة بعد إقامته تلك المدّة الطويلة في الخلوة والعزلة سألناه عن ذلك، فقال‏:‏ بينما أنا في خلوتي إذ خطر ببالي الخروج إلى الصحراء منفردًا، فخرجت فوجدت كل شيء من النبات ساكنًا لا يتحرك لعدم الريح وشدّة القيظ، ومررت بنبات له ورق فرأيته في تلك الحال يميس بلطف ويتحرّك من غير عنف كالثَّمِل النشوان، فجعلت أقطف منه أوراقًا وآكلها، فحدث عندي من الارتياح ما شاهدتموه. وقوموا بنا حتى أوقفكم عليه لتعرفوا شكله‏.‏ قال‏:‏ فخرجنا إلى الصحراء، فأَوْقَفَنا على النبات. فلما رأيناه قلنا: هذا نبات يُعْرَف بـ”القِنَّب”. فأمرنا أن نأخذ من ورقه ونأكله، ففعلنا ثم عدنا إلى الزاوية فوجدنا في قلوبنا من السرور والفرح ما عجزنا عن كتمانه. فلما رآنا الشيخ على الحالة التي وَصَفْنا أَمَرَنا بصيانة هذا العقار وأخذ علينا الأيمان ألا نُعْلِم به أحدًا من عوامّ الناس، وأوصانا ألا نخفيه عن الفقراء. وقال: إن الله تعالى قد خصكم بسرّ هذا الورق ليُذْهِبَ بأكله همومكم الكثيفة، ويجلو بفعله أفكاركم الشريفة، فراقبوه فيما أودعكم، وراعوه فيما استرعاكم‏.‏ قال الشيخ جعفر‏:‏ فزرعتها بزاوية الشيخ حيدر بعد أن وقفنا على هذا السرّ في حياته، وأمرنا بزرعها حول ضريحه بعد وفاته. وعاش الشيخ حيدر بعد ذلك عشر سنين، وأنا في خدمته، لم أره يقطع أكلها في كل يوم. وكان يأمرنا بتقليل الغذاء وأكل هذه الحشيشة. وتُوُفِّيَ الشيخ حيدر سنة ثمان عشرة بزاويته في الجبل، وعُمِل على ضريحه قبة عظيمة، وأتته النذور الوافرة من أهل خراسان، وعظَّموا قدره وزاروا قبره واحترموا أصحابه. وكان قد أوصى أصحابه عند وفاته أن يوقفوا ظرفاء أهل خراسان وكبراءهم على هذا العقار وسره فاستعملوه، فلم تزل الحشيشة شائعة ذائعة في بلاد خراسان ومعاملات فارس. ولم يكن يعرف أكْلَها أهلُ العراق حتى ورد إليها صاحب هرمز ومحمد بن محمد صاحب البحرين، وهما من ملوك سيف البحر المجاور لبلاد فارس في أيام الملك الإمام المستنصر بالله، وذلك في سنة ثمان وعشرين وستمائة، فحملها أصحابهما معهم وأظهروا للناس أكلها، فاشتهرت بالعراق ووصل خبرها إلى أهل الشام ومصر والروم فاستعملوها‏.‏ قال‏:‏ وفي هذه السنة ظهرت الدراهم ببغداد، وكان الناس ينفقون القراضة. وقد نَسَب إظهارَ الحشيشة إلى الشيخ حيدر الأديبُ محمد بن عليّ بن الأعمى الدمشقيّ في أبيات، وهي‏:‏
دع الخمر واشرب من مُدَامة حيدر * معنبرةً خضراء مثل الزبرجدِ
يعاطيكها ظبيٌ من الترك أغيدٌ * يميس على غصنٍ من البان أملدِ فنحسبها في كفه إذ يُديرها * كرَقْم عذارٍ فوق خدٍّ مورَّدِ
يرنّحها أدنى نسيم تنسَّمتْ * فتهفو إلى برد النسيم المردِّدِ
وتشدو على أغصانها الوُرْقُ في الضحى * فيُطْرِبها سَجْعُ الحمامِ المغرِّدِ
وفيها معانٍ ليس في الخمرِ مثلها * فلا تستمع فيها مقال مفنِّدِ
هي البِكْرُ لم تُنْكَحْ بماءِ سحابةٍ * ولا عُصِرَتْ يومًا برجْلٍ ولا يدِ
ولا نصّ في تحريمها عند مالكٍ * ولا حدّ عند الشافعيّ وأحمدِ
ولا أثبت النعمانُ تنجيسَ عينها * فخذها بحدِّ المشرفيّ المهندِ
وكُفَّ أَكُفَّ الهمّ بالكفّ واسترحَ * ولا تَطَّرِحْ يومَ السرورِ إلى غدِ
وكذلك نَسَب إظهارَها إلى الشيخ حيدر الأديبُ أحمد بن محمد بن الرسَّام الحلبيّ فقال‏:‏
ومهفهفٍ بادي النِّفَار عَهِدْتُهُ * لا ألتقيه قطُّ غيرَ معبّسِ
فرأيته بعضُ الليالي ضاحكًا * سهلَ العريكةِ ريِّضًا في المجلسِ
فقضيتُ منه مآربي وشكرتُهُ * إذ صارَ من بعد التنافرِ مؤنسي
فأجابني: لا تشكرنَّ خلائقي * واشكر شفيعَكَ، فهو خمر المفلسِ
فحشيشَةُ الأفراحِ تشفعُ عندنا * للعاشقينَ ببسْطها للأنفُسِ
وإذا هممتَ بصيد ظبيٍ نافرٍ * فاجهدْ بأن يرعى حشيشَ القنبُسِ
واشكر عصابة حيدرٍ إذ أظهروا * لذوي الخلاعةِ مذهبَ المتخمِّسِ
ودع المعطِّل للسرورِ وخَلِّني * من حسنُ ظنِّ الناسِ بالمتنمّسِ”
وعلى هذا فالأبيات التى استشهد بها الحسين الطباخ على فوائد الحشيش محاولا أن يغرى بدير بشربه هى أبيات سابقة كثيرا على عصرها، إذ لم تقل إلا بعدما عُرِف الحشيش على نطاق واسع وشاع وذاع واستهتر الناس بشربه، وهى الأبيات التى تبتدئ بقول الشاعر:
دع الخمر واشرب من مُدَامة حيدرٍ * معتَّقَةً خضراء لون الزبرجدِ
وهى جزء من الأبيات التى مرت بنا قبل قليل.
وفى الصفحة التسعين بعد المائتين نجد أنفسنا بإزاء تفاوت مشابه مضحك، فالبيتان الجميلان اللذان كانت الجارية المغنية تصدح بهما فى مجلس المأمون هما للشاعر العباسى الخبز أرزى، الذى مات بعد وفاة المأمون بمائة عام على الأقل، إذ توفى عام 317 هـ على أبكر تقدير، على حين مات المأمون عام 218هـ. ومع هذا فإن مؤلفتنا لا تجد حرجا أى حرج فى أن يكون ذانك البيتان موجودين ومشهورين حتى لتتغنى بهما المغنيات فى مجلس الخليفة قبل الهنا بسنة، بل بعقود. والسبب فى هذا هو لامبالاة الكاتبة واقتحامها ميدان الرواية التاريخية، بل الرواية بوجه عام، قبل أن تأخذ عدتها لتلك المهمة الجليلة. وهذه هى المقطوعة كاملة، ويأتى البيتان المذكوران على رأسها:
يا ليل، دُم لي. لا أُريد صباحا حَسْبِي بوجه مُعانقي مصباحا
حسبي به بدرًا، وحسبي ريقُه خمرًا، وحسبي خدُّه تُفّاحا
حسبي بمضحكه إذا غازلتُه مستغنيًا عن كل نجمٍ لاحا
ألبستُه طوقَ الوشاح بساعدي وجعلت كفي للِّثام وشاحا
هذا هو الفضل العظيم، فخلِّنا متعانقَيْنِ، فما نريد براحا
لو كان في حرم الإله عناقُنا ولثامُنا ما كان ذاك جُنَاحا
لو شاء ربّي أن يُعِفَّ عبادُه ما كان يخلق في الأنام مِلاَحا
(انظر ديوان الخبزرزى، وكتاب “الليل والنهار” لابن فارس بتحقيق حامد الخفاف مجلة “تراثنا”/ عدد 14/ ص288، وكتاب “المحب والمحبوب والمشموم والمشروب” للسري الرفاء).
ويمكن أن نلحق بهذه القائمة ما لحظته من ضعف معرفة الكاتبة بدينها، إذ هى مثلا تقول عن بدير فى الصفحة الخامسة والخمسين بعد الثلاثمائة إنه صلى التراويح بعد العشاء، رغم أننا لم نكن وقتئذ فى رمضان بدليل أنه كان يأكل ويشرب مما يقدمه له الناس من حوله بالنهار، وليس هناك أى ذكر لرمضان بتاتا. ومعنى ذلك أنها لا تعرف أن التراويح إنما تصلى فى رمضان فقط وليس فى أى وقت، مثلما لا تعرف كيفية التيمم، مع أنها بكل يقين قد درسته فى المدرسة. ذلك أنها تظنه مثل الوضوء، وكل ما هنالك أننا نستعمل فيه التراب بدلا من الماء. وفاتها أننا فى التيمم لا نمسح أقدامنا مثلا ولا نتمضمض أو نستنشق. على أى حال هذه هى عبارة الكاتبة كما كتبتْها بالنص: “جلستُ لأستريح قليلا وتيممت متهيئا لصلاة المغرب، فمسحت يدى بالرمال الطاهرة وكأننى أغسلها، ثم مسحت وجهى وساعدىّ وقدمىّ، وفعلت فعل الوضوء بغير ماء حتى أتطهر وأستعدّ للصلاة” (ص360- 361).
وهناك خطأ فى آيتين قرآنيتين يمكن القول فيهما إن الكاتبة قد اعتمدت على ذاكرتها فخانتها الذاكرة. لكن من الصعب تماما أن نتجاوز عن إيرادها المثل التالى: “كذب الممنجمون ولو صدقوا” على أنه آية قرآنية (ص336). ذلك أن الأمر يخرج هنا من باب النسيان ليدخل فى باب العبث واللامبالاة. هل يعقل أن تقدم كاتبة على تأليف رواية عن الإسلام وتاريخه وأهم فترة من فترات حضارته وهى تجهل القرآن إلى هذا الحد المخزى؟ ألا تعرف الكاتبة أن هناك شيئا اسمه المصحف يستطيع الواحد منا أن يرجع إليه كى يتحقق من أن ما يقوله هو قرآن فعلا؟ ألم يدر فى خَلَدها على الأقل أن تسأل أحدا ممن يحفظون القرآن عن قرآنية المثل المذكور؟
أذكر بهذه المناسبة ما كان قد حكاه لى أحد أصدقائى المقربين ونحن طلاب بالجامعة عن أخيه الصغير الذى كان وقتئذ فى المرحلة الابتدائية والذى صار بعد ذلك مستشارا قضائيا ملء هدومه من أنه عاد من المدرسة ذات يوم فسألوه: ما الذى حفظتموه اليوم فى الفصل؟ فأجاب فى افتخار وشعور بالأهمية: لقد حفظنا سورة “الهِرّة”. فسألوه: طيب! سمّعنا سورة “الهرة”. فشرع يرتل وهو يتمايل على عادة التلاميذ الصغار حين يقرأون القرآن: “بسم الله الرحمن الرحيم. دخلت امرأةٌ النار فى هرة حبستها، فلا هى أطعمتها ولا هى تركتها تأكل من خَشَاش الأرض. صدق الله العظيم”. ولم يبق من سلوى بكر إلا أن تقول هى أيضا لنا: لقد حفظنا فى الفصل اليوم سورة “المنجّمون”. لكن هذا مقبول من “دِيدِى” كما كانت إحدى أخواته تناديه فيغتاظ من الاسم، أما ممن ليست بـ”ديدى” فهو غير مقبول البتة. فديدى كان طفلا غرا ساذجا لا يعرف كُوعَه من بُوعِه، كما أنه لم يكن يضع فى حسبانه أن يكون كاتبا ولا أديبا، وكاتبتنا امرأة ناضجة قيل عنها إنها واحدة من أكثر الروائيين وكتاب القصة القصيرة المصريين احتراما: “one of Egypt’s most respected novelists and short story writers”، وإن أعمالها قوبلت من النقاد بترحاب شديد: “her work has been met with much critical acclaim” (www.arabworldbooks.com)، وترجمت إلى تسع لغات: “Her work has been translated into nine languages” (www.internationalpubmarket.com)، فضلا عن أنها من أصحاب الجوائز: ” Salwa Bakr is a prize-winning short story author and novelist” (goliath.ecnext.com).
وأما بالنسبة إلى لغة الرواية ففيها أخطاء كثيرة لا أدرى كيف سقطت فيها الكاتبة، نظرا لبدائيتها الشديدة، وهو ما جعلنى أتساءل: أهناك من صحح لها لغة الراوية، لكنْ لم يلتفت إلى مثل تلك الأخطاء التى لا تمثل، كما أشرت، صعوبة تذكر؟ أم إن هذا هو مستواها الحقيقى؟ فعلى سبيل التمثيل كيف تقع الكاتبة فى مثل قولها: “أديت مطانيات ثلاث” (ص93) دون أن تنصب “ثلاث” على الوصفية للمفعول به؟ أتراها، لما لم تمدّ تاء “مطانيات” بالألف لعدم انتصابها بفتحتين بل بكسرتين لأنها جمع مؤنث سالم، جرت على ذلك دون أن تدرى مع النعت فلم تمده هو أيضا؟ ممكن جدا. لكن هل يصح أن تقع كاتبة أديبة فى مثل هذا؟ سيقول القائلون: وهل هى وحدها التى ترتكب مثل هذا الخطإ؟ إن هناك من مشاهير الكتاب الذين يملؤون الدنيا ضجة مصمة وتنشغل الناس بهم حتى ليخيل إلى من لا يعرف أنهم أدباء كبار، وما هم فى الحقيقة بأدباء لا كبار ولا صغار، لكنها أحوالنا المقلوبة رأسا على عقب أو عقبا على رأس، هناك من مشاهير الكتاب من يُعَدّ مثل ذلك الخطإ بالقياس إلى ما يجترحونه من بلايا ورزايا لغوية دلالا جميلا لا خطأ رذيلا. وجوابى أننى لا أنكر ولا أجهل أن هناك هذا وأفظع من هذا، بيد أننى لا أحب أن أيأس وأسلّم بأخطاء المنتسبين إلى دنيا الأدب والتأليف تسليم المحبط المغلوب على أمره مهما توفرت دواعى اليأس والإحباط، بل أحب أن أظل رافعا الراية كمراقب الخط اليقظ فى مباريات كرة القدم لا ألقيها من يدى أبدا إلى أن يخترمنى هادم اللذات ومنتزع الرايات.
ومن هذه الأخطاء أيضا ما أسميه بـ”الواو اللعينة”، وهى الواو التى تتوسط بين النعت ومنعوته كقول الكاتبة مثلا: “بلاط البيعة والذى هو…” (ص10)، “التوابيت والتى يدخرونها” (ص16)، “يقرأ على الجميع والذين كانوا…” (ص60)، “مازوت من موازيت (أى عُمَد) القرى والذين كانوا…” (ص92). والمفروض أن يقال: “بلاط البيعة الذى هو…” “التوابيت التى يدخرونها…”، “يقرأ على الجميع الذين كانوا…”، “موازيت القرى الذين…”، إذ ما من قاعدة نحوية تبيح الفصل بين النعت والمنعوت بهذه الطريقة. ومن الأخطاء اللغوية قول الكاتبة: “هواها قلبى” (ص30، أى تعلق بها. والصواب: “هَوِيَها”، لأن الفعل على وزن “فَعِلَ” لا “فَعَلَ”). ومنها العبارة التالية على لسان أحد شخصين: “التحمنا ببعضنا بعضا” (ص32. وصوابه: “التحمنا/ تلاحمنا”). والملاحظ أن تعبير “بعضهم بعضا” وما يتفرع عنه من أشكال مختلفة هو مما يرتبك فيه الكتاب المحدثون كثيرا، ولا أدرى لماذا. ولكن السبب الأصيل هو جهل كثير من هؤلاء الكتاب بلغتهم، فترى الواحد منهم يظن أنه يمكن أن يبلغ فى الأدب شأوا دون أن يتعب نفسه فى إتقان أداة تعبيره، جاهلا أن إتقان اللغة هو السبيل الأكيد إلى البراعة فى ميدان الكتابة والأدب. ولقد كان الكتاب والأدباء والشعراء فى العصور القديمة يتقنون لغتهم على نحو عجيب، بخلاف أدباء العصر الحديث، الذين لا يبالى كثير منهم بذلك. وهى بلوى نعوذ بالله منها، وإن كانت تصب فى المجرى العام الذى تصب فيه أعمال الأمة جميعا، ألا وهو مجرى الكسل واللامبالاة والرضا بالدون وعدم الطموح إلى المعالى والافتقار إلى الإحساس السليم بالأشياء والقيم.
ومما لفت نظرى من تلك الأخطاء قول الكاتبة: “وصوصة عصافير” (ص32)، تقصد زقزقتها، ظنا منها، فيما يبدو، أنها الاستعمال الفصيح لكلمة “صوصوة” العامية. لكن “الوصوصة” فى الواقع هى ضرب من النظر لا نوع من الأصوات كما تظن الكاتبة. أما فى ص224 فنجد “صوصوات النوارس”. فهل هناك “صوصوة” فى العربية الفصحى؟ وبالمناسبة فكثيرا ما وصف سيد قطب فى تفسيره للقرآن تلألؤ النجوم من بعيد بالوصوصة، وكأنها تنظر من عليائها إلى البشر تشاغلهم بعيونها. وبعد هذا بصفحتين نرى الكاتبة تتحدث عن ابتلاع الأعشاب، والأعشاب لا تُبْتَلع، بل ُتْمَضغ مضغا. وهذا لون من الفقر التعبيرى مثل استعمالها “الوصوصة” تعبيرا عن زقزقة العصافير سواء بسواء. ومثل ذلك عدم توفيقها فى قولها (ص36): “نعقد العُرْس” بدلا من “نعقد الزواج أو النكاح أو القِران” مثلا، إذ العرس إنما هو الاحتفال بالزواج، والعقد فى اللغة العربية لا يقع على الاحتفال بالقِرَان بل على القِرَان ذاته. وهناك “رقايا” (ص45) بدلا من “رُقًى”، وهو ما لا أفهمه، ولا أعرف من أى واد أتت المؤلفة بتلك الصيغة الجمعية التى لا علاقة لها بـ”الرقية”. وفى نفس الصفحة يقابلنا قول رجل لامرأة: “أرنى الحجاب” (ص49) بدلا من “أرينى الحجاب”، وكأن الخطاب موجه إلى رجل مثله. ومن ذلك كذلك: “هجست أقول له:…” (ص50). فهل الهجس كلام؟ إنه مجرد خاطر يطوف بالذهن لا كلام ينطلق به اللسان. فكيف تقع الكاتبة فى مثل ذلك الخطإ الأبلق الذى ليس لمن يقترفه أى عذر؟ ومن ذلك أيضا فى ذات الصفحة: “مَبْلِيًّا”، والصواب “مَبْلُوًّا” لأن الفعل واوىٌّ لا يائىٌّ. لقد سارت الكاتبة فى استعمال الفعل بالياء على طريقة العَوَامّ. لكن أين كاتبة مثلها من لغة العَوَامّ واستعمالاتها التى كثيرا ما تنأى عن المعيار اللغوى الفصيح؟ ومثلها: “بلادنا مبتلية بـ…”، وهواستعمال عامى أيضا (ص93. وصحتها: “مبتلاة”).
وهناك كذلك هذا الخطأ اللغوى المضحك: “تمييز هؤلاء عن تلكم” (ص55)، تقصد: “تمييز هؤلاء عن أولئك”، إلا أنها ظنت أن “كُمْ” الملحقة بـ”تلك” تدل على جمع المشار إليه. وهذا خطأ محض، إذ إن هذه العلامة إنما تدل على جمع المخاطَبين لا على جمع المشار إليه. وعلى هذا فـ”تلكم” لا تعنى أكثر مما تعنيه “تلك”، لكنها تعنى أن الكلام موجه إلى جماعة من البشر لا إلى شخص واحد كما هو الحال فى “تلك”. أما “تلكَ المرأة” فلا تختلف عن “تلكِ المرأة” ولا عن “تِلْكُما المرأة” أو “تِلْكُم المرأة” أو “تِلْكُنّ المرأة” إلا بأن المخاطَب الذى يتجه إليه الكلام يختلف من صيغة إلى أخرى طبقا لاختلاف الكاف الملحقة باسم الإشارة. وبالمناسبة فكثير من كتاب عصرنا يرتكبون ذلك الخطأ بمنتهى السهولة. وهم يجرون فى هذا على مبدإ “كله عند العرب صابون” مع أن العرب كانوا دقيقين دقة عجيبة فى استعمالهم للغتهم العبقرية مما يدركه كل من درس تاريخهم وأدبهم ولغتهم.
وثم تركيبٌ عامىٌّ جرت عليه الكاتبة فى قولها (ص62): “ولولا أكمل سُنّة الختان ما كتب اليهود اسمه فى منظرة الكهنة” بدلا من “ولولا أنه أكمل…”. كما أن ثمة خطأ نحويا فى العبارة التالية: “نعتقد أن المسيح له طبيعة واحدة من طبيعتين وأقنوما واحدا من أقنومين” (ص63)، حيث نصبت الكاتبة “أقنوما”، وحقها الرفع عطفًا على “طبيعة”، التى هى مبتدأ. كذلك هناك “إشفاء المرض” (ص65)، وصوابه: “شفاء المرض” بدون همزة. وفى “تحولت برابى بأكملها” كان ينبغى أن تُحْذَف الياء من آخر “البرابى” لأنه اسم منقوص فى حالة رفع، فيقال: “بَرَابٍ”. وهى جمع “بربا” أو “برباة”، ومعناها المعبد أو الهيكل. وقد كتبتْها سلوى بكر مرة: “برْبَة” (ص67). وفى “النجوم الزاهرة” لابن تغرى بردى مثلا نقرأ عن دلوكة المصرية أنها “بَنَتْ عِدّة برابٍ” بحذف الياء كما نبهتُ. وقد ورد فى “معجم البلدان” لياقوت الحموى أن هذه الكلمة قبطية.
ومما لاحظتُه أيضا فى هذا السياق جمع كاتبتنا “رسم” على “رسومات” مرارا بدلا من الاكتفاء بجمعها على “رسوم”، وقولها: “الحـُمّة” بدلا من “الـحُمَّى” على أسلوب العوام فى نطق أمثال هذه الكلمة. أما فى “كانت البلاد شراقيا” فكان ينبغى حذف الألف لأن الكلمة، فيما أتصور، “شراقِى”، جمع “شَرْقَى” أى عَطْشَى، وهذه صيغة منتهى الجموع فيحذف تنوينها وتنصب بفتحة واحدة إذن. قلت: “فيما أتصور” لأن “المعجم الوسيط” يقول إن الصفة من “شَرِقَت الأرض” (أى جَفَّتْ وعطِشت) هى “شَرِقَة”. إلا أننا فى مصر نقول: “شَرَاقِى” على صيغة “فَعَالِى”، وهذه الصيغة لا تصلح أن تكون جمعا لـ”شَرِقة” بل أقرب أن تكون جمعا لـ”شَرْقَى”، التى لا يذكرها المعجم المذكور رغم هذا.
وفى الصفحة الثالثة عشرة بعد المائة تقابلنا الجملة التالية: “هذان الطاجنان يحاكيان جناحا الدجاجة”، وهو خطأ واضح تصويبه: “جناحَىِ الدجاجة” نصبا على المفعولية، وعلامة نصبه الياء لأنه مثنى. وهناك استعمال الكاتبة الفعل “أستحيل” فى معنًى لا يخطر أبدا على البال، وذلك حين تقول: “أستحيلها بالنسبة إليك” (ص120) بدلا من “أراها مستحيلة” مثلا. ذلك أن معنى هذا الفعل هو أن يتحول الشىء إلى وضع آخر، أو يصير متعذر الوقوع. وهو فى الحالتين فعل لازم، على عكسه فى عبارة الكاتبة حيث يرد متعديا. وهو استعمالٌ جِدُّ غريبٍ لا أذكر أن كاتبا أو أديبا بالغًا ما بلغ مستواه من الضعف اللغوى قد أقدم عليه. وفى الصفحة رقم 126 تقابلنا عبارة “مُحِيدا بالحديث” بمعنى متحولا به إلى موضوع آخر، من “أحاد” فيما هو واضح. لكن هذه الصيغة صيغة متعدية، ومن ثم لا تصلح هنا، بل التى تصلح هى صيغة “حاد، فهو حائد”. وبعد ذلك بصفحتين نجد الكاتبة تقول: “دون افتقاد إلى…”، تقصد “دون افتقار إلى…”، وهو خلط يبعث على الاستغراب. لكن لا بد من المسارعة إلى أن هذا هو مستوى كثير ممن يُسَمَّوْن: “كتابا وكاتبات” فى مصرنا العزيزة الآن، وتقتصر الجوائز فى كثير من الأحيان عليهم وعليهن. وهى معرّة لا تصحّ أبدا.
وفى ص 145 نسمع مينا بن بقيرة المتمرد البشمورى، بعد أن ينتهى من قراءة رسالة الأب يوساب له، وهى الرسالة التى يُفْتَرَض أنه أرسلها له كى يخلع عنه رداء العصيان والخروج على الدولة ويخلد إلى الطاعة والهدوء، ينخرط فى خطبة عصماء مزلزلة باللهجة البشمورية التى يتحدثها الناس فى منطقته ينسب فيها إلى المسلمين من المظالم والمفاظع ما يخطر وما لا يخطر على البال محددا أسماء البلاد المتمردة وقائد كل تمرد كأنه يطالع فى يده كتابا من كتب التاريخ المفصلة، لنفاجأ به يشير إلى عبد الملك بن الحباب واصفا إياه بـ”متولى الخراء الذى يسمونه: الخراج”. وهذا، كما يلاحظ القارئ، تلاعب لفظى لا يمكن أن يتم فى هاتبن الكلمتين إلا فى اللغة العربية لأنها هى اللغة التى تشتمل على الكلمتين، أما البشمورية فلا تعرف هاتين الكلمتين العربيتين بطبيعة الحال. وهى سقطة فنية لا تغتفر.

وتستخدم الكاتبة “الامتنان” بمعنى شعور الشخص بالجميل تجاه من أولاه معروفا (ص164، 272 مثلا)، وهو استعمال شائع فى عصرنا رغم أن اللفظ إنما يعنى “الإنعام أو التذكير به” فيقال: “امتن فلانٌ علىَّ بكذا”، أى تفضل علىَّ بكذا، أو ذكّرنى به. كذلك نجد الكاتبة تقول: “بكِلْتَىْ يديها” (ص165)، وصوابها: “بكلتا يديها” بالألف دائما: رفعا ونصبا وخفضا لأنها مضافة إلى اسم ظاهر، أما إعرابها بالياء فلا يكون إلا إذا نُصِبَتْ أو جُرَّتْ وأُضِيفَتْ إلى ضمير لا إلى اسم ظاهر، فنقول حينئذ: “كِلْتَيْهما”. كما نجدها (ص168) تستخدم “أهوام” بدلا من: “هوامّ”، و”عِيَلاً” بدلا من “عائلات”، وكلا الاستعمالين خطأ. ودعنا من أن بعض اللغويين يرى أن “عائلة” بمعنى “أسرة” هو استعمال خاطئ. وثم قولها أيضا: “إذا لم يسكت ويكفّون…” (ص170) برفع “يَكُفّون”، والصواب جزمها عطفا على “يسكت”، فنقول: “ويكفّوا” بحذف النون. وفى ص178 يقابلنا التركيب التالى: “ما إن هممتُ… إلا سمعتُ…”، وصوابها: “ما إن هممت بكذا حتى سمعت…”. أما الاستثناء هنا فلا أدرى له وجها سوى أنه ثمرة لعدم الدقة التى تحدثنا عنها قبل قليل. ومثلها قول الكاتبة: “فما لبثنا إلا وكان الليل…” (ص215. وقد تكرر هذا التركيب ص296).
أما “المحوششة” فى قول الكاتبة (177): “دواب الأرض المحوششة” فلا أدرى ماذا تقصد بها، بل لا أدرى من أى أرض استقدمتها، أو من أى سماء استنزلتها. وفى الفعل: “ولْنَلُوذ” (ص182) لا تلتفت كاتبتنا إلى أن اللام التى فى أول الفعل هى لام الأمر الجازمة، فكان حق الفعل أن تُحْذَف واوه الوسطى تمهيدا لتسكين الذال بعدها (هكذا: “ولْنَلُذْ”). وفى ص196 نرى “آوَيْتُ”، بمعنى “لجأت”، وصوابها: “أَوَيْت” بدون همزة تعدية لأن الفعل هنا لازم. وقد سبق أن لاحظت فى دراسة لى عن رواية طه حسين: “دعاء الكروان” أنه يستخدم ذات الصيغة فى نفس المعنى، فانبرى بعض الأساتذة يعترضون، عنادا منهم، علىَّ بأنه قد فاتنى أن القرآن يقول على لسان ابن نوح: “سآوِى إلى جبل يعصمنى من الماء”، وعلى لسان لوط عليه السلام: “أو آوِى إلى ركن شديد”، جاهلين أن الفعل هنا مضارع لا ماض، وأن الهمزة التى خيل إليهم فى أول الفعل أنها هى ذاتها الهمزة التى فى الماضى ليست للتعدية بل هى همزة المضارعة. وما كتبوه موجود عندى بأخطائه الفاحشة التى تؤكد ما يقوله المثل الشائع على سبيل المجاز من أن العناد يولد الكفر.
كذلك نرى الكاتبة (ص211) تستخدم كلمة “عمارة” بمعنى سفينة. فهل “العَمَارة” سفينة كما هى فى استعمال الكاتبة؟ أم هل هى أسطول كامل؟ الواقع أنه لا وجود لهذه الكلمة فى المعاجم القديمة كـ”لسان العرب” و”تاج العروس”. بل إنها لا توجد فى معجم المستشرق البريطانى إدوارد وليم لين المسمى: “مَدّ القاموس”، بل ولا فى “المعجم الوسيط”. أما فى “محيط المحيط” لبطرس البستانى، وهو من أهل القرن التاسع عشر، فنجد نصًّا على أنها فى استعمالها فى مجال السفن (وهذه عبارته حرفيا: “الطائفة من السفن الحربية”) هى من كلام المولدين، وهو ما يعنى أن هذه الكلمة لم يكن لها وجود فى زمن الرواية بهذا المعنى، فضلا عن أن الكاتبة قد ضيقت معناها جدا فأطلقته على السفينة الواحدة، على حين أنها تعنى أسطولا (حربيا) لا سفينة واحدة. ولذلك نجد بين معانيها فى معجم “Verb Ace Pro” الألكترونى مثلا: “squadron, fleet”، وفى معجم هانز فير العربى الإنجليزى: “fleet (naval)”. ومن الفقر المعجمى استخدام الكاتبة لفظ “التنادُم” (ص213) بمعنى “الصداقة”، وهو خطأ لأن المنادمة والتنادم إنما يكونان على الشراب ولا يدلان على مطلق الصداقة أو المصاحبة. ثم بعد هذا بصفحة نجدها تقول: “تعرَّقَتْ جلودهم” بدلا من “عَرِقَتْ”. أما “تعرَّق” فمعناها “أكل ما على العظم من لحم” أو “مزج الخمر ببعض الماء”. وكما يرى القارئ: ليس ثم صلة بين هذا وذاك.
وإلى جانب ما مر نجد أنه قد تكرر استخدام الكاتبة للفظة “البرق” بمعنى تطيير الخبر بوساطة الحمام الزاجل. لكن هل كانت تلك اللفظة بهذا المعنى معروفة فى ذلك الوقت؟ لقد بحثت عنها فى “تاج العروس”، وهو من نتاج القرن الثامن عشر، وكذلك فى “محيط المحيط”، الذى صدر فى القرن التاسع عشر، فلم أجدها، وهو ما يفيد أنها لم تستعمل بهذا المعنى فى العصر العباسى، وأن الكاتبة لا تستطيع أن تُحْكِم فنها، بل تكتب بعفوية فى مجال لا تصح فيه العفوية، ولا بد له من الاستعداد والاحتشاد والقراءة الواسعة العميقة والتنبه لمثل تلك الدقائق. أما فى “المعجم الوسيط” فتقابلنا: “أبرق” بمعنى “أرسل برقية”، مع النص على أنها “مُحْدَثة”. والمقصود بـ”البرقية” ما يسمى فى العامية المصرية بـ”التلغراف”. وإذا كان الشىء بالشىء يذكر كما يقال فقد قرأت فى مقال للعقاد، طيب الله ثراه، يتناول فيه بالتحليل كتاب “على هامش السيرة”، انتقاده لاستعمال طه حسين كلمة “الخيال” على لسان الخادمة ناصعة فيما نستعملها له الآن من معنى، وهو المعنى الذى يعبرون عنه فى الإنجليزية والفرنسية بالـ”imagination”. وكانت حجته، وهى حجة صلبة غاية الصلابة، أن هذا المعنى لم يكن معروفا فى ذلك الزمن الذى تدور فيه وقائع السيرة النيوية (انظر العقاد/ ساعات بين الكتب/ ط3/ مطبعة السعادة/ 1950م/ 509). ومرجع هذا الانتقاد أنه ينبغى للقصاص الحرص على “مشاكلة الواقع”.
ومما يضحك من أغلاط لغة الرواية أن نرى كلمة “الآذان” مستعملة فى موضع “الأذان” (ص223). وكثيرا ما ألاحظ كتابتها بهذه الطريقة الخاطئة على شاشة المرناء عند التنبيه إلى أن موعد “أذان” الصلاة الفلانية قد حان، فأضحك محاولا تصور الظهر مثلا أو العصر وقد صارت له آذان. ثم أنثنى فأقول: هذه هى الثمار المرة لأوضاعنا المتبلدة. لا أحد يهتم، لا أحد يلاحظ، لا أحد يراجع، لا أحد يشعر بأى فرق. ولعله يصح أن أذكر هنا ما كتبه المرحوم يوسف السباعى ذات مرة من أنه دارت يوما مناقشة بينه وبين عديله النحوى الشهير الأستاذ عباس حسن صاحب “النحو الوافى” حول الأخطاء النحوية التى يقترفها الأستاذ السباعى فى قصصه ورواياته، فكانت حجة الأستاذ السباعى أنه ما دام القراء يفهمون ما يريد قوله لهم فلا مشكلة، إذ اللغة ليست سوى وسيلة لبلوغ غاية معينة. فإذا بلغنا الغاية المرادة فلا داعى لأن نشغل أنفسنا بالوسيلة إذن. أما تعليقى فهو أن اللغة ليست وسيلة إلى الإفهام فقط، بل هى كذلك وسيلة إلى الإمتاع. وإلا فلو قصرنا الوسائل الحياتية على المنفعة فقط لكان علينا مثلا أن نسكن الأخصاص أو غصون الشجر، ونلبس الخيش، ونأكل بأيدينا الطعام مدلوقا على الأرض دون أطباق أو موائد أو ملاعق وسكاكين، ونشرب بأكفنا من القنوات والأحواض، وننام على الحصير، ونكتب على الأحجار… إلخ. فهل هناك من يقول بذلك؟ قد يجوز هذا بالنسبة إلى الحيوان الأعجم (أقول: “قد”، لأن الحيوانات فى بعض بلاد الأرض تعامَل أفضل مما يعامَل به البشر فى بلاد أخرى)، أما بالنسبة إلى البشر، وبالذات البشر المتحضرون، فلا. ثم من قال إن الفهم الدقيق يمكن أن يتم دون نحو صحيح؟ لا، بل إن بعض الكلام لا يمكن فهمه أصلا ما لم يكن محصَّنًا بالصحة النحوية والصرفية.
ويزيد الطينَ بِلّة أن المؤلفة (ص226) تتحدث عن “البرق الشامى” وكأنه تلغراف أتى أهل أنطاكية بخبر وصول السفن بالأسرى، غير داريةٍ أن “البرق الشامى” هو كتاب ألفه العماد الأصفهانى عن صلاح الدين وجهاده وعمله عنده، أو هو البرق يسطع من جهة الشام، وهذا كل ما هناك. وفى ص228 نجدها تقول: “يتقصى عن أحوال…” مستعملة الفعل متعديا رغم أنه لازم، ومن ثم فلا موضع هنا لحرف الجر. وفى قولها (ص234): “سماء مصر المرصعة بالنجمات” نراها تستخدم جمع الألف والتاء الدال عادةً على القلة بدلا من جمع الكثرة: “النجوم”، وهو المراد هنا، إذ هى تريد الإشارة إلى أن سماء مصر مفعمة بالنجوم كما هو واضح لا أن فيها بضع نجمات فحسب. ولعلها متأثرة بأغنية شادية: “غاب القمر يا ابن عمى”، التى تقول فيها: “ضحك الهوا حواليك وتمايلت النجمات”. لكن وقع الكلمة فى أغنية مجدى نجيب شىء آخر تماما. وقد أنزلت الأغنية الآن وأنا أسطر هذه الكلمات، وهأنذا أسبح معها فى الفضاء العالى منتشيا بسكون الليل الذى تصفه الأغنية الساحرة فى أخريات ليالى الصيف المطلولة بين الحقول. وبودى لو أشركت القراء كلهم معى فى هذه النعمة الكريمة. وهناك قول المؤلفة (ص243): “وعلى الرغم من كذا… إلا أننى…”، وهو أيضا استعمال شائع فى عصرنا رغم خطئه، إذ لا موضع هنا للاستثناء، وإلا فهو استثناء من ماذا؟ وبعدها بصفحة: “كنت خَدِرًا ضَعْفَانًا”، وهى أول مرة أسمع فيها صيغة “ضعفان” هذه، علاوة على أن هذه الصيغة لا تنوَّن، وهو ما يذكرنى بما أسمعه من القاهريين من قولهم عمن تناول فطوره: “فَطْران”، وكذلك ما سمعته من إحدى الطالبات بقسم اللغة الفرنسية فى منتصف سبعينات القرن الماضى تصفنى بأننى “طَوْلان”، أى طويل (بالنسبة إليها). ثم بعدها بصفحة نقرأ: “همس لى قيِّمٌ شابٌّ… أن أنتبه من الأب ميخائيل”، أى آخذ حذرى منه. وهو استعمال لا تعرفه حتى العامية فيما يخيل لى، إذ نقول مثلا فى تلك الحالة: “خذ بالك منه”، أما “انتبهْ منه” فلا أظن. ثم بعد هذا بصفحتين أخريين: “المائة قانون وقانونين الذين شُرِّعوا…” باستعمال “الذين” صفة للقوانين بدلا من “التى” كما ينبغى أن يكون الأمر، إذ تستعمل العربية لجمع غير العاقل صيغ المفردة المؤنثة لا صيغ جمع الذكور العقلاء، علاوة على أنه كان ينبغى أن تقول الكاتبة: “المائة قانون والقانونين” بعطف معرَّف على معرَّف احتراما لمبدإ الاتساق. ومن استعمالها أيضا صيغة جمع الذكور العقلاء لغير العقلاء قولها: “ويُوقِد عليهم (أى على الآثار المقدسة) قنديلا فى كل ليلة” (ص369). أما إضافة “المائة” المعرفة بـ”أل” إلى كلمة “قانون” المنكَّرة فلن أتوقف عندها حتى لا أكون ثقيل الوطأة. صحيح أننى من الذين لا يجدون فيها فى حد ذاتها معابة، لكن هل كان هذا التركيب معروفا فى ذلك الوقت؟ ثم بعد ثلاث صفحات تلقانا كلمة “الشمسنة” بمعنى وظيفة الشمّاس فى الكنيسة، ولا وجود لها فى المعاجم. وكل ما عثرت عليه فى “محيط المحيط” هو “الشمّاسيّة” وكذلك “الشُّمُوسيّة”، التى وجدتها أيضا فى معجم “الرائد” لجبران مسعود. والمعجمان لبنانيان ألفهما نصرانيان.
ثم هل يصح أن نؤكد لفظة “النساء” بـ”أجمعين”؟ إن النساء جمع مؤنث، وتأكيده إنما يكون بـ”جمعاوات” لا بـ”أجمعين” الذكورية. وليس فى هذا افتئات على النصف الحلو، ولا يصلح رَمْيُنا من ثم بالذكورية، فالرجال رجال، والنساء نساء، ولا ينبغى الخلط بينهما، فلكل حدوده وخصائصه ومخصصاته. وعلى هذا كان ينبغى أن تقول المؤلفة: “خرجت نساء عين جارة جمعاوات” لا “أجمعين” كما قالت (ص262). أما فى العبارة التالية: “خَلِّينا نَصِل وننهى مهمتنا بسلام” فإضافةً إلى أن التركيب عامى، وهو ما لا أقف عنده من هذه الجهة بل من جهة أخرى سوف آتى إليها للتو، نجد الكاتبة قد أثبتت الياء فى آخر الفعل: “خَلِّى”، والمفروض حذفها طبقا للقاعدة المتبعة مع فعل الأمر الناقص على ما هو معلوم للجميع. أما وجه اعتراضى على “خَلِّنا نفعل كذا” فهو أن هذا التركيب لم يكن له وجود فى زمن الرواية، وإلا فأنا نفسى كثيرا ما أستخدمه الآن رغم أصله العامى لأن من الممكن استخدامه فى الفصحى دون أى جهد. ترى أهو أقل شأنا من قولنا: “دعنا نفعل كذا”؟
ولنلاحظ أيضا الركاكة والغرابة فى قول المؤلفة: “وقد توضعت مجموعة من بيوت النار إلى جوار بعضها” (ص270) بدلا من “قامت طائفة من بيوت النار متجاورة” مثلا. وبالمثل يتسم قولها: “الجندى الذى أنا تبعيته” (ص271) بالركاكة والغرابة معا. أما “شكلانىّ” (ص272) فلم يكن لها فى ذلك الوقت أى وجود، ومن ثم كان على مؤلفتنا ألا تستخدمها. كذلك تكررت كلمة “الوقايد” (المواقد والمشاعل؟)، ولم أجدها فى مئات الكتب التى تشتمل عليها الموسوعتان الشعريتان الإماراتيان. وفى الصفحة التى تلى ذلك تقابلنا عبارة “حَذِقَ فى هذا الكار”، وفيها مسألتان: فالفعل “حذق” فعل متعد لا يحتاج إلى حرف جر، كما أن كلمة “كار” (غير العربية) لم تكن مستعملة فى كتابات ذلك الوقت فيما يخيل لى، إذ حاولت العثور عليها فى مئات الكتب القديمة فلم أوفق. ودعك من انطباعى الناشئ من معايشة التراث منذ عشرات السنين بأنها لم تكن مستعملة أوانئذ.
وهناك صيغة غريبة من مادة “فهم” كلما قابلتنى فى الرواية، وكثيرا ما قابلتنى، لم أتمالك نفسى من الضحك. ألا وهى الفعل: “افْتَهَمَ” بدلا من “فَهِمَ” (انظر مثلا ص276، 278، 301). ترى ما الذى دفع كاتبتنا إلى استعمال هذه الكلمة؟ هل وجدتْها مثلا فى كتاب نصرانى قديم مكتوب بالعربية مثلما هو الحال فى لغة ساويرس بن المقفع المضعضعة المفعمة بالأخطاء؟ لكن هل هى متأكدة أنها كانت معروفة فى ذلك العصر على وجه التحديد؟ وفى ص296 نراها تقول عن شخصين اثنين: “فأنزليهم”، وصوابها: “فأنزليهما”. وبعدها بصفحة نقرأ: “أشم روائح ذكية” بالذال، على حين أنها “زكية” بالزاى. ثم هل كانت كلمة اللاتينى (ص303) معروفة فى ذلك الوقت عند المسلمين؟ أما فيما يخصنى فهأنذا أعلن أننى لم أجدها فى أى من الموسوعتين الشعريتين المذكورتين. وفى الصفحة نفسها تقابلنا “كلوة الكف” وهى كلمة عامية معروفة بيننا الآن، لكن العرب كانوا يقولون: “الأَلْيَة” كما فى “الإفصاح فى فقه اللغة”، الذى فسرها بأنها هى “اللحمة التى فى أصل الإبهام”. وفى ص 305 تجعل الفعل: “يَكْسُو” يائيا لا واويا فتقول: “يَكْسِى”. كذلك تكرر استعمال الراوى لكلمة “الجريك”، التى كان عوام المصريين يقولون إلى وقت قريب فى الصفة منها: “إجريجى”. وعلى كل حال فالعرب لم يكونوا يعرفون هذه الكلمة، بل “الإغريق” و”يونان”. ومن الأخطاء أيضا: “راحوا يسوطوه بشدة” (ص337) بدلا من “يسوطونه”، أى يضربونه بالسوط، و”عشرين درهم” (ص338)، وصحتها: “عشرين درهما” نصبا على التمييز، وكذلك “يُصْعَد إليها بعدة دُرُج” (ص339)، وتصويبها: “درجات”، و”رهبان ظُرَاف أكياس” (ص243)، وتصحيحها: “ظِرَاف” بكسر الظاء لا بضمها. ومن شواهد استعمال القدماء فى ذلك الوقت لتلك الكلمة قول الشاعر العباسى مطيع بن إياس، ذلك الشيطان الظريف، فى قينة جميلة اسمها جوهر كان يحبها ويحب حديثها ومجالستها، فأقبل يوما إلى بيتها فقيل له إن هناك فتى آخر معها هو ابن الصحّاف، فرجع ونظم تلك الأبيات اللعينة التى حَوَّرْتُ كتابة ما تحويه من كلمات عارية حتى لا أصدم الذوق السليم:
“كان” وَاللهِ جَوْهَرَ الصَحّافُ * وَعَلَيْها قَميصُها الأَفوافُ
شامَ فيها “رأيا” لَهُ إضْلاعٌ * لَم يَخُنْهُ نَقصٌ وَلا إِخْطافُ
زَعَموها قالَت وَقَد غابَ فيها * قائِمًا في قِيامِهِ اسْتِحْصَافُ:
بَعْضَ هذا! مَهلاً! تَرََفَّقْ قَليلاً * ما كَذا يا فَتَى “تُكَان” الظِرافُ
وقد جرّأنى على إيراد تلك الأبيات التى لم يكن يدور فى خيالى ولا حتى فى المنام أن أوردها فى شىء من كتاباتى أننى ألفيت الكاتبة صفحة 326 من الرواية تورد كلاما مفصلا عن عملية الجماع وأحسن الأوقات التى ينبغى أن تتم فيها والأساليب المختلفة لممارستها…. إلخ مما حشرته فى الرواية حشرا على دَيْدَنها فى خلق المناسبات خلقا لتسوق ما تريد سوقه نقلا من الكتب حتى لو يكن السياق يتطلبه فى شىء. ومن ذلك أيضا وصفها للجماع الذى وقع بين دلوكة الأستاذة وثاونا تلميذها الفَتَى حين بدا لتلك المرأة الموقرة المحترمة الحكيمة الحاذقة (طبقا لما وصفتها به الرواية) أن تدخل السعادة والحبور على قلب تلميذها المسكين الذى كان حاله يصعب على الكافر. والحمد لله لقد كانت كافرة، فصَعُبَ حاله عليها، إذ رأت فى عينيه نداء الحرمان فرَقَّ قلبها الرهيف له ذات يوم ونادته أن يتبعها إلى مكان خال حيث ضمته إلى حضنها الأموى الدافئ الحنون ثم مدت يدها الرؤوم فخلعت له ملابسه ثم أتبعتها بخلع ملابسها أيضا واهبة نفسها للولد المحروم ابتغاء عمل الخير وكَسْب الثواب. و”مَنْ قدّم شيئا بيداه التقاه”! وليسامحنى نحاتنا الأفاضل على الإبقاء على الألف هنا فى المثنى المرفوع اتباعا للهجة بعض القبائل العربية القديمة حتى لا أفسد المثل الظريف. وكل شىء فى يومنا هذا المبارك ظريف، وأى ظرافة! وقد عملت دلوكة الفيلسوفة العالمة الطبيبة المشرِّحة ذلك كله من فرط حكمتها وتقواها! اللهم زَكِّها، أنت خير من زكّاها! ترى لو لم تكن فاضلة موقرة محترمة حكيمة حاذقة فماذا كانت بنت الفاعلة هذه فاعلة؟ ويجد القارئ وصف هذا العمل الصالح ص121 وما يليها، وهو وصف شاعرى يغرى بالفجور. وثم تقليد الآن ينتشر بين عدد كبير من الروائيين والروائيات العرب لا يمكن أحدا منهم أو منهن أن يهمله، ألا وهو توبلة أعمالهم بفُلْفُل الجنس وكمّونه وشَطّته حتى تصبح حِرِّيفةً غاية الحَرَافة. وإلا فكيف تكون أديبا طليعيا تقدميا تنويريا؟
وهذه الحكاية المضحكة تذكرنى بفلم فرنسى شاهدته فى التلفاز البريطانى وأنا فى أكسفورد أواخر سبعينات القرن المنصرم جامعتْ فيه الأم ابنها الصبى الصغير المدلل فى غرفة النوم بالدور الأعلى فى الوقت الذى كان فيه الأب مع ضيوف الأسرة فى الطابق الأرضى، ثم بعدما انتهى المشهد الدنس طلبت الأم من ابنها أن يعاهدها على أن يحتفظا بذكرى تلك “الليلة المباركة” فى قلبيهما وحدهما لا يطلعان عليها أحدا. أرأيتم إلى تلك الرومانسية الرقيقة؟ الأبيات الشعرية إذن مناسبة للرواية، التى لم يكن يدور فى بالى حتى ولا فى الأحلام أنها سوف تبحر بى فى تلك المياه البعيدة الأغوار! ولكنه قضائى وقدرى المكتوب على جبينى منذ كنت فكرة فى ضمير الكون، فلا فَكَاك لى إذن منه. أليس المكتوب على الجبين لابد أن تراه العين؟ فهأنذا قد رأيته!
وإذا كان لنا أن نتحدث عن التناصّ فى شخصية دلوكة هنا فينبغى أن نعرف أن هذا الاسم معروف عند العرب لشخصية تاريخية، إذ يقول بعض المؤرخين المسلمين إنه اسم امرأة كانت معاصرة لفرعون موسى ثم تولت الملك من بعده. أما كونها عالمة فيلسوفة فهو مما يذكرنا بهيباتيا، مثلما تذكرنا نهايتها بنهاية هيباتيا، إذ قتلها النصارى فى الرواية مثلما قتلوا هيباتيا لنفس السبب، وهو أنها كانت وثنية. وفوق ذلك كانت دلوكة فى الرواية جميلة كما كانت هيباتيا جميلة.
وعودةً إلى الملاحظات اللغوية على أسلوب الرواية أقول: لقد لاحظتُ أن الكاتبة تكرر فى الرواية كلمة “النّقْف” بمعنى “عكاز أو غصن شجرة يُسْتَعْمَل عصا”. إلا أن “النقف” فى المعاجم اللغوية كـ”لسان العرب” و”محيط المحيط” هو “الفرخ”، لأنه ينقف البيضة، أى يكسر قشرتها ويخرج منها… إلخ. وأخيرا فأرجو أن يتنبه القارئ إلى أن مهمة الناقد قد تكون أسهل من الكاتب، فالذى على الشط عوام كما نقول. لكن هذا لا يعنى أن يسكت النقاد فلا ينتقدوا الأدباء، وإلا فسدت الأمور، إذ الحياة تقوم على الإنجاز من ناحية، وعلى تقويم ذلك الإنجاز أولا بأول من ناحية أخرى حتى يأتى فى المرة القادمة أفضل وأفضل… وهكذا.
وثم نقطة أخرى تتعلق بلغة الرواية على درجة عالية من الأهمية، ألا وهى كثرة الألفاظ والتعبيرات العامية. و”البشمورى” رواية تاريخية كما لا نحتاج أن نقول. وقد جرت التقاليد الأدبية بأن تصطنع الروايات التاريخية اللغة الفصحى فى كل شىء: سردا وحوارا ووصفا… إلخ. والمعروف أن بدير لم يكن يتحدث العربية قبل اعتناقه دين التوحيد وتعلمه لغة القرآن فى أواخر الرواية. ومع هذا نفاجأ بأنه حريص منذ البداية على استعراض الألفاظ والعبارات الموغلة فى العامية المصرية والتى لم تكن قد ظهرت بعد، إذ كان المصريون المتعربون فى ذلك الوقت حديثى عهد بالعربية أصلا، فما بالك بالعامية، وبخاصة منها ذلك النوع المغرق فى النكهة الشعبية الذى لا بد أن يكون قد أخذ وقتا طويلا قبل أن يظهر على ألسنة أجدادنا؟ وهذه بعض أمثلة مما قابلنى فى الرواية من استعمالات عامية: “فى الأول” (فى البداية) ص8، و”مَطْرَحى” (موضعى) ص8، 34، و”بَلْوِتِى” (بلواى) ص9، و”الطياشة” (الطيش) ص14، و”القُوَن” (الأيقونات) ص10، 16، و”الشمس وقيدة نار” ص23، و”على الطِّبْطاب” ص26، و”براوة” (برافو) ص95، و”نخرج من نقرة فنقع فى حفرة” ص110، و”العنب البناتى” (عنب بدون بذر) ص112، و”محلّ الأدب” (المرحاض) ص128، و”أَزَان” (إناء كبير للطبخ، وهو لفظ تركى لم يكن قد عُرِف عندنا بعد لأنه كان بيننا وبين الحكم التركى لمصر عدة قرون) ص135، و”كانت محطوطة فى جراب” (محفوظة) ص140، و”اللباس الشيت” (نوع من الملابس الشعبية التى لم تعرف إلا حديثا) ص148، و”بالكاد” (بشق الأنفس) ص163، و”تيتى تيتى زى ما رحتى زى ما جيتى” (عاد بخُفَّىْ حُنَيْن) ص170، و”للبحر وَشِيش وخفخفة” ص211، و”حلاوة سَدّ الحنك” ص240، و”ثرثرتا وبقبقتا” ص242، و”دايِرْ ما يْدُور” (محيطا بالمكان) ص267، 270، و”الخبز الإفرنجى” ص374، و”سَرْمَحَة” (تضييع الوقت بالسير فى الشوارع فى غير عمل ولا هدف) ص283، و”لماذا لا تتزوج يا شاطر؟” (للتهكم وتقليل الشأن) ص284، و”بُقْجَة” (صُرّة) ص292، و”أَضِيع بين الرِّجْلِين” (يضيع بين الأقدام المتزاحمة فلا يشعر به أحد لتفاهة شأنه) ص320، و”نداعبه ونهزّر معه” ص325، “فَتْح البُوز” (الفم) ص352، و”لَكْلَكَ (الكروان) بصوته الربانى الساحر” ص363.
أما قول بدير إن الحسين كبير الطباخين كان ينتقده على الإكثار من قوله: “إدِّينى، وَدِّينى، البتاع، البتوع” فهو واسع حبتين، إذ إن الراوى لم ينطق قط فى أى موضع من الرواية بأية كلمة من هذه الكلمات. إن الكاتبة إنما تريد أن تشير إلى بعض ما يميز العامية المصرية، والسلام. لكن فاتها أنها هى ذاتها قد قالت مرارا فى روايتها إن بدير كان يتحدث القبطية. ستقول: ولكنه شرع يتحدث العربية فى بغداد فى قصر الخليفة. وسنقول نحن: ماشٍ. لكن هل كلمة “البتاع” مثلا من عامية أهل العراق؟ بل هل كان المصريون يستعملون تلك الكلمة فى ذلك التاريخ؟ ولقد كنت أعرف أن هناك قصيدة زجلية لأحمد فؤاد نجم عن “البتاع”، وإن لم أكن قد سمعتها أو قرأتها من قبل، فقلت فى عقل بالى: ولم لا تهديها للكاتبة التى فتحت على لسان الحسين الطباخ موضوع “البتاع”؟ وها هى ذى زجلية نجم، التى لم أجدها رغم ذلك بالحلاوة والقوة التى توقعتها قبل قراءتها:
يا للي فتحت البتاع
فتْحك على مقفول
لأن أصل البتاع
واصل على موصول
فأى شئ في البتاع
الناس تشوف على طول
والناس تموت في البتاع
فيبقي مين مسؤول؟
وإزاي حتفتح بتاع
في وسط ناس بتقول
بأن هذا البتاع
جاب الخراب مشمول؟
لأنه حتة بتاع
جاهل
غبي
مخبول
أمر بفتح البتاع
لأنه كان مسطول!
وبعد فتح البتاع
جابوا الهوا المنقول
نكس عشوش البتاع
وهَدّ كل أصول
وفات في غيط البتاع
قامْ سمِّم المحصول
وخلاّ لون البتاع
أصفر
حزين
مهزول
وساد قانون البتاع
ولا علهْ ولا معلول
فالقاضي بتع البتاع
فالحق ع المقتول
والجهل زاد في البتاع
ولا مقري
ولا منقول
والخوف
سرح في البتاع
خلا الديابه تصول
وبقي البتاع في البتاع
والناس صايبها ذهول
وِانْ حَدّ قال: دا البتاع
يقولوا لهْ: مش معقول
وناس تعيش بالبتاع
وناس تموت بالفول
وناس تنام ع البتاع
وناس تنام كشكول
آدي اللي جابه البتاع
جاب الخراب بالطول
لأنه حتة بتاع
مخلب لراس الغول
باع البتاع بالبتاع
وعشان يعيش على طول
عين حرس بالبتاع
وبرضه مات مقتول
والآن فإننا نتساءل: لماذا يا ترى تنكبت الكاتبة اللغة الفصحى فى كثير من مواضع الرواية لحساب العامية، وبخاصة أن الاستعمالات العامية التى يستخدمها بدير لم تكن معروفة بعد؟ والطريف أن الرواية رغم ذلك كله قد وُصِفَتْ (فى موقع “the tanjara”، الذى سبقت الإشارة إليه) بأنها تستعمل مستويات مركبة من “الخطاب” (أى “مستويات متعددة من الكتابة” بلغة البسطاء الذين لا يعرفون شيئا من هذه الرطانات): ” The text uses complex levels of discourse”. إن مثل هذا الكلام لا محل له من الإعراب فى روايتنا هذه، إذ إن استعمال العامية هو نقطة ضعف شنيعة فى عمل الكاتبة. فكيف يقلب بعض الناس الحقائق، ويمجدون ما حقه الانتقاد والتصويب؟
ومما يعيب الرواية أيضا كثرة ما فيها من عدم اتساق فى كلام الأشخاص أو فى سلوكهم أو فى سرد الراوى للأحداث… إلخ. فعلى سبيل التمثيل نجد الراوى (ص20 وما بعدها) يذكر كراهية رجال البيعة لثاونا الراهب، الذى كان بينه وبين الراوى مودة خاصة، لكن دون أن يورد سببا واحدا لتلك الكراهية، مكتفيا بالحديث عنها كأنها مسألة طبيعة لا تحتاج إلى تفسير أو تعليل. وبعد ذلك بأربع صفحات نسمع يقول له: “لماذا تظن أنهم يريدون التخلص منك؟” هكذا بضمير الغائبين كأنه يكلمه عن ناس سبق بينهما الحديث عنهم رغم أن ثاونا لم يقل له شيئا من ذلك قط ولا دار بينهما حوار بهذا المعنى بتاتا.
وفى الصفحة الحادية والثلاثين وما يليها يجد القارئ وصفا ملتهبا لما كان بدير يحسه فى جسده وهو صبى صغير نحو آمونة، التى كانت تشتغل فى حقلهم قبل أن يلتحق بالكنيسة ويصير قيّما من قَوَمتها، وكذلك تقبيله لها وتجميشه إياها وتعريته لملابسها إلى أن انتهى الأمر كما ينتهى عادة فى مثل تلك الحال إلى المواقعة الجنسية. ثم تكرر ذلك مرارا. وكل هذا مفهوم، لكن الذى لا أستطيع فهمه هو أن يستمر الولد والبنت فى ممارسة تلك اللعبة فترة غير قصيرة دون أن يشغلا ذهنيهما بأن من الممكن حدوث حمل. أمن المعقول ذلك؟ أنا لا أقصد مناقشة الأمر من زاوية الحلال والحرام، بل أقصد خوفهما من انكشاف أمرهما لأسرتيهما وانتشار الفضيحة. هل فات هذا انتباه الكاتبة؟ غريبة! وهل هذا أمر يمكن تجاهله أو عدم التنبه إليه؟ وأغرب من ذلك أن أهلها لا يكتشفون، إلا بعد أن انتحرت، أنها كانت حاملا. ترى ألم يثر هذا الحمل فى وقته الخوف فى قلبى الحبيبين الضالين؟ وأغرب من هذا وأغرب أن أهل بدير كانوا قد خطبوا البنت لأخيه، وتولى هو بنفسه الاتفاق مع الفرقة الموسيقية التى ستحيى حفل العرس، وكأن البنت التى سيتزوجها أخوه ليست حبلى منه. وأغرب من هذا وأغرب وأغرب أن أهله لم يفهموا أنه كانت بينه وبين الفتاة علاقة إلا بعد استخراجها من الماء والطين الذى أغرقت نفسها فيه. كيف؟ هذا ما لا أدريه. من المفهوم أن يكتشف أهلها الأمر عند استخراج الجثة، أما أن يعرف أهله هو بما حدث قلا أفهم كيف يكون. هل من الممكن أن يطلعهم أهل البنت على ما اكتشفوه من حبلها؟ لكن لماذا؟ هل هم مصابون بداء المازوكية، فهم يحبون أن يفضحوا أنفسهم ويجلبوا على رؤوسهم ورأس بنتهم الميتة العار هكذا لله فى لله؟ أيعقل هذا؟ إن هذه النقطة إنما تمثل مفصلا من مفاصل الرواية التى عندها تنعطف الأحداث وتتغير مصائر الشخصيات، ومع هذا فما أضعف هذا المفصل! وهو ضعف يسرى فى ثنايا الرواية ويفسد جوها ويوهى بناءها. ليس ذلك فقط، بل هناك صمت أسرة بدير جميعا بعد اختفائه إثر انتحار آمونة، إذ لا يهتم الأب والأم والأخ بالبحث أو حتى السؤال عنه. معقول؟ والله لو كان كلبا يربّونه فى البيت لاهتموا به وسألوا عنه وظلوا يبحثون حتى يجدوه.
ومن المفاصل المهمة التى تحول عندها اتجاه الأحداث ومصير الشخصيات فى الرواية خَطْف النسر لملابس الراوى الكهنوتية (ص178). فهل تخطف النسور فعلا ملابس البشر؟ ولماذا؟ المعروف أن النسور تعيش عادة فى الصحارى وفوق الجبال وفى مناطق السافانا، ولا تأكل إلا الجيف، ولا تحمل إلى صغارها فى الوُكْنة شيئا من لحوم الحيوانات النافقة التى تأكل منها، بل تكتفى بأن تخرج لها من معدتها بعض ما كانت ازدردته من ذلك الطعام (انظر مادة “نسر” فى “الويكيبيديا” العربية، ومادة “vulture” فى الويكيبيديا الإنجليزية و”الموسوعة البريطانية”، ومادة “vautour” فى كل من موسوعة “الإنكارتا” و”الموسوعة اليونيفرسالية” الفرنسية، وتحت عنوان “النسر المصرى” بمادة “الحيوان البرى فى البلاد العربية” فى “الموسوعة العربية العالمية”). لكن النسر فى روايتنا قد ظهر فى المستنقعات الموجودة فى شمال الدلتا. فكيف ذلك يا ترى؟ ومن الطريف أن تقول الكاتبة على لسان الراوى إن النسور لم تكن تشاهَد فى تلك النواحى، إذ هى من طيور الفلاة، على عكس السُّمَانَى واللقالق وأبى قردان مثلا (ص177). وهى ملاحظة صحيحة، فلماذا إذن اخترع ذلك الراوى نفسه حكاية النسر؟ ولماذا قال إن النسر قد خطف ملابسه؟ ترى هل كانت النسور يومامن أكلة الأقمشة؟ أم هل كانت صغارها تفرح بملابس الكهنوت الملونة المزخرفة، فهو يخطف ما يلقاه فى طريقه منها ويُلْبِسهم إياه ليدخل البهجة على قلوبهم، ويوفر لهم فى ذات الوقت كسوة مجانية؟ أَفْهَم أن يكتب مؤلفو “ألف ليلة وليلة” شيئا من هذا القبيل، إذ “الحكايات العربية” (كما يسميها الأوربيون) هى قصص فلكلورية لا ينبغى أن نحاسبها بالمنطق، ومن ذلك مثلا ما نقرؤه فيها من حكايات عن النسور التى تحمل البشر فى الفضاء إلى أماكن بعيدة، أو عن جبال حجر الألماس التى لا يستطيع أحد بلوغها، والتى يعمل الجواهرية حيلهم فى الحصول على ما فيها من جواهر عظيمة فيأخذون الشاة من الغنم ويذبحونها ويسلخونها ويرشون لحمها ويرمونه من فوق تلك الجبال إلى أرض الوادي، فتنزل وهي طرية، فيلتصق بها شيء من هذه الحجارة، ثم يتركها التجار إلى نصف النهار، فتنزل النسور والأرخاخ إلى ذلك اللحم وتأخذه في مخالبها وتصعد إلى أعلى الجبل، فيأتيها التجار ويصيحون عليها فتطير عن ذلك اللحم، ويخلّصون هم الحجارة اللاصقة به تاركين اللحم للطيور والوحوش، ثم ينصرفون إلى بلادهم بما حصلوا عليه من جواهر نفيسة. نعم هذا مقبول من مؤلفى “ألف ليلة وليلة”، أما أن تكتب قصّاصة فى أواخر القرن العشرين ما كتبته عن ملابس الراهب التى خطفها النسر فهذا أمر عجيب غير مفهوم. فإذا أضفنا إلى هذا أن هذه الحكاية كانت سببا لتحول الأحداث تحولا دراماتيكيا انتهى ببدير إلى الأَسْر ومغادرة مصر وخلع النصرانية واعتناق الإسلام تبين لنا كم تسىء هذه الحكاية إلى الرواية!
وللأسف فإن الرواية، فى جميع الفترات الحاسمة منها، إنما تقوم على مثل هذه المصادفات والافتعالات غير المنطقية. وملخص الحكاية هى أن بدير كان عائدا بصحبة ثاونا من لدن المتمرد البشمورى عندما قابلهم فجأة عساكر تابعة للخليفة فى طريقها لمحاربة ذلك الثائر، فخافا واختبآ، ولا أدرى لماذا ما داما يحملان رسالة من الأنبا يوساب تدعو البشمورى إلى إلقاء السلاح والإخلاد إلى السكينة وعدم المصادمة مع الدولة، مما يجعلهما بمنأى من الخوف. اللهم إلا إذا كان فى الرسالة شىء آخر غير ما أعلنه لنا الراوى، وكانت على العكس مما قال تعبر عن التعاطف معه وتحرضه على التمادى فى العصيان كما كان خصوم الكنيسة الأرثوذكسية يقولون طبقا لما قاله الرواى ذاته (ص 169- 172)، وطبقا أيضا لمقال قرأته فى أحد المواقع المشباكية يتهم يوساب بالنفاق، إذ يبدو فى العلن أنه مع الدولة ضد التمرد، على حين يبعث فى الخفاء بالرسائل التى تشجع المتمردين وتستحثهم على الصمود والمضىّ فى العصيان. المهم أن عساكر الجيش الخليفى استولَوْا على بغلى الرجلين، ثم تسببوا فى افتراق الصاحبين أثناء الهرج والمرج الذى حدث بينهم وبين المتمردين، وقضى بدير ليلته على شاطئ النهر فى الأوحال رابطا نفسه بالأعشاب الطويلة، ولا أدرى كيف، حيث غلبه النوم ليقوم صباحا فيجد وجهه وملبسه الكهنوتى قد تلطخا بالطين مما اضطره لخلعه ليغسله وينشره، فيجىء النسر الأحمق فيسرقه ويطير به فى الفضاء العالى. ومن المضحك أن يقول الراوى إنه جرى وراء النسر، لكنه لم يستطع أن يلحق به. أترى النسر كان يجرى على شاطئ النهر أمامه أم ماذا؟ إن النسر يا أخا الكنيسة يطير ولا يجرى! وهكذا يرى القارئ بنفسه أننا هنا أمام فلم هندى آخر! ولقد انتهى الأمر بأسر الرجل وارتحاله إلى الشام فأنطاكية فبغداد… وهكذا تكون الكاتبة قد أعادت الرواية العربية عشرات الأعوام إلى الوراء حين كانت تقتات على المصادفات والغرائب التى “لا يُصَدّكها عَكْل” كما كانت شويكار بنت طوب بن صقال تقول أيام انهيار السينما المصرية على يدها ويد زوجها المباركتين!
ونأتى إلى المِفْصَل الأخير، وهو مِفْصَلُ تحوُّل بدير إلى دين التوحيد (ص288). ومن الغريب أن يتم ذلك على يد الحسين بن فالح طباخ قصر الخلافة: حسين الحشاش القرارى الذى يغريه بالحشيش ويزينه له ويعرضه عليه ويشرح له فضائله الموهومة! حسين كاره الزواج ومرتاد بيوت الدعارة وباذل أقصى جهده لتعريف بدير بتلك البيوت وتذوُّق ما فى سلتها من أية فاكهة تعجبه مما استفز ضمير بدير فثار فى وجهه معلنا أنه فى الأساس رجل دين وأنه لا يمكن أن ينحط إلى تلك الدرجة من الحضيض (ص279- 280) رغم أنه قد مارس الزنا مرارا من قبل ولا يرى فتاة أو امرأة حلوة إلا اشتهاها واشتعل جسده شبقا إليها، وهذا إن صح أنه كانت هناك بيوت دعارة فى العالم الإسلامى فى ذلك الوقت، ولا أدرى من أين أتت الكاتبة بهذه الشطحة الكرخانية! حسين، الذى لا يذكر أمه إلا بِشَرٍّ ولا يعرف مَنْ أبوه ولا أين ولا هل هو حى أو ميت! حسين الذى لا يصلى ولا يُظْهِر تدينا ويصفه الراوى ذاته بأنه يشبه الوثنيين المتوحشين (ص283)، وبأن إيمانه مزعزع، إذ يبدو وكأنه زنديق كافر أو إنسان يتراوح دوما بين الإيمان والكفر، أو الرذيلة والطهر كما يصفه هو (ص284). ثم إن الراوى نفسه قد أصبح حشاشا. فمتى كان الحشاشون يهتمون بالتحول من دين إلى دين؟ وفوق هذا فالكاتبة لم توفر له الفرصة كى يتعرف على الإسلام تعرفا يغريه باعتناقه، بل كانت تضعه دائما فى ظروف لا يَظْهَر فيها إلا على أسوإ ما عند المسلمين، وآخرها أنهم أسروه وباعوه رقيقا وقَسَوْا عليه قسوة بالغة. وحين وصل أخيرا إلى قصر الخلافة لم يجد هنالك شيئا يدعوه إلى اتخاذ مثل هذه الخطوة، إذ لم ير فى مجلس الخليفة إلا الغناء والرقص، ولم يشاهد إلا سجود الناس للمأمون (ص291)، تلك التدليسة المتهافتة التى لا ندرى من أين أتت بها الكاتبة، ولم يسمع إلا عن التفاوت الطبقى الفاحش بين قصر الخليفة والرعية المدقعة الفقر طبقا لما بثه فى أذنه ابن فالح الطباخ. ثم هل يتحول إنسان من دين إلى دين هكذا فجأة، وبخاصة إذا كان رجلا من رجال الكنيسة؟ سيقول بدير إنه بدأ يقرأ وإن الحسين بن فالح كان يطرح عليه أسئلة تستدعى التفكير ومراجعة المفاهيم (ص285)، علاوة على ما تذكره فجأة من كلام ثاونا له منذ وقت طويل من أن ثمة إنجيلا لبرنابا يبشر بمجىء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ويبين أنه هو المسيا المنتظر الذى أتى السيد المسيح عليه السلام ليمهد له الطريق (ص287). لكن أين كان هذا الكلام من قبل فلم يظهر إلا الآن؟ ومتى كان مثل الحسين ذلك الحشاش الداعر يفكر فى هذه القضايا ويطرح تلك الأسئلة التى تستفز العقل والضمير؟ ثم لو أن ثاونا قد قال لبدير ذلك فعلا، فلماذا، حين عاد إلى مصر وقابل ثاونا وعرض عليه الإسلام، لم يقبل ثاونا هذا العرض بل رفضه رفضا باتا؟ ليس هذا فحسب، بل كان حزينا مغموما لأن بدير ترك النصرانية ودخل الإسلام. والعجيب أننا نسمعه رغم ذلك يقول إن الجميع: مسلمين ونصارى سوف يدخلون الجنة وإن الله سوف يرحم البشر كلهم (ص367- 368). فلم الحزن والغم إذن؟ أليس هذا هو ما يسمونه: “سمك، لبن، تمر هندى”؟ ثم إنه بعد هذا كله (ص373) يشجع بدير على أن يصارح الناس بما يشعر به بعد دخوله الإسلام من اطمئنان وراحة بال وسكينة حتى لو آذَوْه. ولكن من الذين يمكن أن يؤذوه إذا كان يعيش فى دولة مسلمة؟
كذلك فإن بدير، فى الفترة التى كان على مشارف التحول إلى الإسلام، يؤكد أن جوهر الأديان واحد، وهو الهداية وبث الطمأنينة فى النفس والارتقاء بالبشر من حالة الوحشية إلى حالة تليق بالإنسانية. ترى لم تحول إلى الإسلام ما دامت الأديان واحدة، والرب هنا وهناك واحد لا اختلاف فى مفهوم ألوهيته إذن؟ قد يقال إن الحسين بن فالح قد أطلعه على أنه ينتمى إلى فرقة دينية تنادى بالعدل والمساواة بين البشر مما نادى به النبى الكريم عليه السلام وأصحابه الكرام، وإن هذا هو السبب الذى دفعه إلى نبذ النصرانية والدخول فى عقيدة الإسلام. لكن هذا يدخلنا فى مشكلة معقدة، ألا وهى أن الإسلام فى حد ذاته كما تعرفه جماهير الأمة وعلمائها لا يجذب أحدا إليه، بخلاف تلك الفرقة القرمطية التى كان ينتمى إليها الحسين بن فالح، فهى الكفيلة بإحداث الجاذبية المفقودة. فإذا عرفنا أن القرامطة لم يكن لهم وجود بعد، بل كان أمامهم عقود قبل أن يظهروا على مسرح التاريخ، وأنهم ليسوا سوى فرقة ضالة مضلة منحرفة، تبين لنا أن دخول بدير فى الإسلام كان قائما على الوهم لا الحقيقة.
ثم ما الذى استجد فى حياته بعد اعتناقه الإسلام؟ أم هو حدث يضاف إلى أحداث الرواية، التى لا لزوم لكثير منها، والسلام؟ أما بالنسبة إلى الكتب التى شرع، بتوجيه الحسين الطباخ، يقرؤها فتدفعه إلى التفكير فى تلك القضايا، فهل كان الطباخ رجلا مثقفا كى يوجهه إلى كتب من شأنها تحريك عقله نحو اعتناق الإسلام؟ ثم ما هى تلك الكتب يا ترى؟ هل هى كتب المعتزلة مثلا؟ هل هى كتب الشيعة؟ هل هى كتب الباطنية؟ هل هى كتب الخوارج؟ لا ذكر لشىء من هذا بتاتا. إنما هو كلام عام عن “كُتُبٍ” فحسب. فهل هذا يكفى؟ والعجيب أن نرى بدير يشرب الخمر فى عرس صديق له مجاراة للحاضرين (332) رغم أنه كان حديث عهد بالإسلام، ومثله من المتحولين الجدد إلى الإسلام إنما ينفر من هذا أيما نفور جريا على الأقل على المثل القائل بأن “الـمُنْخُل الجديد له شدة”. أما أن يكون أول شىء يفعله بعد إسلامه هو شرب أم الخبائث فمعناه أن أول القصيدة كفر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى