مقالات

من مفاوضات السدّ إلى اتفاقيات المناخ.. لماذا تغيير مسار الخارجية المصرية؟

محمد علي الباز

كاتب وباحث في العلوم السياسية
عرض مقالات الكاتب

فى إحدي ليالى القاهرة الساحرة، مساء الخامس عشر من مارس الماضي 2022، أُضيء مبنى الخارجية المصرية المطل على النيل ليظهر على واجهته الرقم مائة، احتفالًا بمرور مائة عام على إعادة العمل بوزارة الخارجية عام 1922، وذلك إثر توقفها على وقع إعلان الحماية البريطانية على مصر عام 1914.
كان أجدر بالوزارة العريقة أن تحتفل بتحقيق إنجاز أوْلى وأهم يتعلق بحياة المصريين، كان لها أن تفخر وتضاء كل جوانبها إذا ما أحرزت أي تقدم فى ملف سد النهضة، الذي يعلو يومًا بعد يوم، وتتعقد أزمته أكثر فأكثر.
كان لها أن تحتفل وتنتقل من هذا الملف الناجح – كنجاح الدولة فى الملف الإقتصادي- الى ملف آخر وهو التنسيق والترتيب لمؤتمر المناخ السابع والعشرين، والذي ستستضيفه مصر فى شرم الشيخ نوفمبر القادم.
لسنا هنا فى صدد التقليل من أهمية مؤتمر قمة المناخ، وسوف نفرد له مقالا قادما، لكن المثير للدهشة هو الجهود المبذولة للإعداد لمؤتمر المناخ، وكذلك أهداف مصر من استضافة هذه القمة، دون أن تكون أعينها مفتوحة على ملفات أكثر أهمية مثل ملف سد النهضة.
كان آخر تصريح صحفى أو بيان مكتوب لوزراة الخارجية عن سد النهضة فى التاسع من يونيو 2021، ثم فجأة، سكتت الوزارة سكوتًا مريبًا وممتدًا حتى هذه اللحظة، ويتفق هذا الصمت مع صمت المؤسسات السيادية الأخرى فى الدولة.
كانت آخر رسالة صريحة وواضحة بخصوص السد من مؤسسة الرئاسة فى يوليو 2021 خلال فعاليات المؤتمر الأول للمشروع القومي “حياة كريمة”. ولا أعرف عن أى كرامة يتحدثون والشعب فى طريقه من الفقر المائي إلى الندرة المائية!!.
مرحلة الذروة
كانت تحركات الخارجية المصرية خلال سنة 2019 وحتى مارس 2020، بمثابة تمهيد الطريق لتصعيد قضية السد، حيث عُقد عدد من اللقاءات على مستوى وزراء الخارجية أو السفراء، لعدد من الدول الإفريقية، ودعا السفير حمدي سند لوزا، نائب وزير الخارجية للشئون الأفريقية، فى 12 سبتمبر 2019 سفراء الدول الأوروبية المعتمدين لدى القاهرة لاطلاعهم على آخر مستجدات المفاوضات الخاصة بسد النهضة الأثيوبي، ثم عقد فى 13 اكتوبر 2019 اجتماعاً مع سفراء كل من ألمانيا وإيطاليا والصين، وهي الدول التي تعمل شركاتها في سد النهضة، حيث أعرب نائب وزير الخارجية عن استياء مصر من مواصلة تلك الشركات العمل في السد. كما ألقى وزير الخارجية سامح شكري، فى 31 أكتوبر 2019، كلمة أمام البرلمان العربي في جلسته العامة التي خُصِصَت لمناقشة قضية الأمن المائي العربي، مستعرضا التحديات المائية التي تواجه مصر.
تعتبر مرحلة الذروة فى تصعيد قضية السد، من يناير 2020 الى يونيو 2021، بدأت بتأكيد الخارجية فى بيان صحفي فى 10 يناير، أن البيان الصادر عن وزارة الخارجية الأثيوبية بشأن الاجتماع الوزاري حول سد النهضة الذي عُقد يومي 8-9 يناير 2020 في أديس أبابا قد تضمن العديد من المغالطات المرفوضة جملة وتفصيلاً، وانطوى على تضليل متعمد وتشويه للحقائق، وقدّم صورة منافية تماماً لمسار المفاوضات ولمواقف مصر وأطروحاتها الفنية ولواقع ما دار في هذا الاجتماع وفي الاجتماعات الوزارية الثلاثة التي سبقته والتي عقدت على مدار الشهرين الماضيين لمناقشة قواعد ملء وتشغيل سد النهضة.
ثم تواصل تصعيد الخارجية المصرية فى محاولة لحلحلة أزمة السد عبر المسار الدبلوماسي، إلى جدولة جلسة فى مجلس الأمن فى 8 يوليو 2021، بعدما صرّح السفير أحمد حافظ المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية أن جولة المفاوضات التي عقدت في كينشاسا حول سد النهضة الإثيوبي خلال يومي 4 و 5 أبريل 2021 لم تحقق تقدما ولم تفض الى اتفاق حول إعادة إطلاق المفاوضات.
صاحَب هذا التصعيد الدبلوماسي ارتفاع صوت الإعلام الرسمي محذرًا من خطورة الأزمة، مع إجراء بعض المناورات العسكرية بين مصر والسودان، كوسيلة للتلويح بالقوة فى معالجة أزمة السد. لكن لم تفلح كل هذه المحاولات الدبلوماسية أو الإشارات العسكرية، فى تليين الموقف الإثيوبي المتصلب.
الصمت والتبريد
على الرغم من عدم إحراز أى تقدم، إلا أن التحركات الدبلوماسية والإشارات العسكرية وحتى الصراخ الإعلامى توقف فجأة، وحتى تحركات المعارضة المصرية فى الداخل والخارج، ما يثير تساؤلات حول مدي وعي المعارضة، أو إمكاناتها فى معالجة قضايا مصر القومية.
إزدادت الأزمة تعقيدًا، وازداد معها الموقف الإثيوبي تصلبًا، وفى نفس الوقت توجهت الخارجية بكل قوتها لدعم الرئيس المعين لقمة المناخ السابعة والعشرين، الوزير سامح شكرى، ومهما كان لقضية المناخ من أهمية، إلا أنها لا تعلو فوق أهمية نهر النيل وخطورة السد الذي يشكل تهديدًا وجوديًا لمصر.
مما لا شك فيه، أن حجم الإمكانات المتاحة للخارجية المصرية تمكنها من مواصلة العمل على ملفى سد النهضة وقمة المناخ معًا وفى الوقت نفسه. وبالتالى، فإن توقف الحراك الدبلوماسي يعني إحتمالين. الأول: الإنصراف من الحل الدبلوماسي إلى حلول أخرى. الثاني: عجز الخارجية عن تقديم جديد.
المفاوضات السرية
على الدوام، كانت مصر ترفض الوساطة الإماراتية فى قضية السد، حيث عززت التحركات الإماراتية الداعمة لإثيوبيا ماليًا وعسكريًا، وخصوصًا خلال التمرد الأخير فى إقليم التغراي، الشكوك المصرية فى نوايا الإمارات تجاه قضية سد النهضة.
وعلى الرغم من كل ما سبق، لجأت مصر إلى مفاوضات سرية برعاية الإمارات، بعدما فشلت جميع أجهزة الدولة المعنية بالتعامل مع قضية السد فى إحراز أى تقدم. وفى 25 مايو الجارى، كشفت مصادر مصرية خاصة لـصحيفة “العربي الجديد” عن “تفاصيل جولتين من المفاوضات، بوساطة من جانب الإمارات خلال الشهرين الماضيين”.
وأوضحت المصادر أن “المشاورات الأخيرة كانت على المستوى الفني من جانب وفود متخصصة من البلدان الثلاثة؛ مصر والسودان وإثيوبيا، وجرت في العاصمة الإماراتية أبوظبي، وذلك بعدما أقنع الإماراتيون الإثيوبيين بالمشاركة بضمانات من جانب أبوظبي، حيث حضر ممثلون عن دولة الإمارات للاجتماعات غير المعلنة كمراقبين”.
وأضافت المصادر أن “المشاورات التي جرت على مدار جولتين، لم تحقق اختراقاً في أي من القضايا العالقة، فيما انحصر التعاون الإثيوبي في إمكانية تنسيق الجهود بين البلدان الثلاثة قبل عملية الملء الثالث فقط، مع التأكيد على الرفض التام لإطلاع المصريين والسودانيين على أي معلومات دقيقة تخص عملية تشغيل السد في الوقت الراهن، وكذلك خطط الاستعداد للملء الثالث”.
وبعد الكثير من التنازلات والمبادرات والدعوات إلى مفاوضات للوصول لإتفاق قانونى ملزم، والمحادثات العلنية والسرية، لم يتقدم موقف مصر فى سد النهضة خطوة واحدة للأمام، وإنما يتراجع أمام الموقف الإثيوبي الذي يعلو ويترسخ كلما علا بناء السد. وفى ظل هذا الصمت والفشل تواصل إثيوبيا عمليات البناء، في الوقت الذي اقترب فيه موعد الملء الثالث المقرر مطلع يوليو المقبل.
الاستنتاجات
يعكس لجوء مصر لأطراف دولية وإقليمية لتقديم الدعم فى مثل هذه القضايا، حالة ضعف أدوات الدولة المصرية فى تحقيق مصالح الدولة الاستراتيجية؛ نتيجة فشل الإدارة وسوء التخطيط وتمزق المجتمع المصري داخليًا.
وعلى الرغم من أن ألمانيا من الدول المشاركة فى بناء السد، بالإضافة إلى الصين وإيطاليا، كما تقدم. فإن وزارة النقل المصرية وقعت مع شركة سيمنز الألمانية، فى نهاية مايو الجارى، أكبر عقد فى تاريخها لبناء خطط سكك حديد فائقة السرعة، وكأنها تكافئ ألمانيا على المشاركة فى بناء السد!. كما عمّقت مصر تعاونها مع الصين وإيطاليا فى مجالات مختلفة، مما يؤكد للمراقبين مقدار التناقض فى مسارات معالجة الدولة لأزماتها، وتدنى مستوى وعي المسؤولين لخطورة أزمة السد الذي يشكل تهديدًا وجوديًا لمصر باعتراف الجميع.
لطالما كان مبدأ الفصل بين السلطات مُنتهكًا فى الدول المستبدة، ولكن الانصياع المُخجل من أجهزة الدولة فى مصر لإدارة الفرد الواحد المستبد، مهما كلّف ذلك من تداعيات وخيمة، أمر يدعو للدهشة من مدي التعسف فى الحكم والتطرف فى الإنفراد بالرأى، ويدعو للتساؤل عن مدي جدوى هذه المؤسسات، وكيفية إعادة هيكلتها حال تحسن الأوضاع السياسية، ويكشف الطبيعة النفسية لشخوص المسؤولين عن هذه المؤسسات ومدي تأثير أو انتشار عدوى التخاذل والانصياع الأعمى بين طبقة القيادة الوسطى داخل هذه المؤسسات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى