ثقافة وأدب

رضيت بطابة داراً.. وبنخيلها ظلّاً وثماراً

هند عودة|

“لا تعطِني زهورًا مقطوعة حتى لو كانت ذات جمالٍ هائل. لم أعد أقبل أيّ شيء في حياتي ليس له جذور”
ماركيز.

حتى قبل تسع سنوات، كنت أسكن ذات الحي الذي قضيت فيه أيام طفولتي وصباي”حي المساجد السبعة” حيث موقع الخندق ومسجد الفتح. وأكاد أحفظ تلك البقعة شبرًا شبرا، وتكاد تعرفني حجرًا حجرا.
نعم، حجرٌ ورملٌ وقيظ. لطالما أزعجني هذا الأمر. وأذكر أنني حينما سافرت للمرة الأولى خارج الحدود، وشدهت بأنهار أوروبا وخضرة أرضها ولذيذ ثمارها، أقسمت بيني وبين نفسي ألا أظل بقية عمري في تلك الصحراء. أنا المفتونة بالجِنان والأزهار والطعام ال Fresh ، رأسًا من الأرض إلى الطاولة، صببت جام غضبي على هذا اللهيب في كل مرة ماتت فيها أزاهيري التي جهدت في زراعتها.
لاأذكر بالتحديد متى كان ذلك المساء الذي خرجت فيه للفناء الخارجي، حين لحق بي ابني عمر، يسابقني كالعادة أيّـنا يلتقط نجم الجوزاء، كان قد انتهى من أكل تمراته، ولمّا احتار أين يضع نويّاتها، أخبرته أن لابأس بإلقائها حيثما اتفق.
منذ تسع سنوات، كلما خرجت الصباح قاصدًة عملي استقبلني جبل أحد، الذي يستظل بيتي بظله الغربي. وحين أحاذيه في أقرب نقطة، أكون قد وصلت في أذكاري إلى”اللهم إني أصبحت أشهدك وحملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك، أنك أنت الله لاإله إلا أنت وحدك لاشريك لك وأن محمدًا عبدك ورسولك”. وفي كل مرة يُـخيّل إليّ أن”أحد”يبتسم حنينًا لكلماتٍ ولدت منذ ألفٍ ونصف الألف عام. مرورًا بجبل الرماة، وقبر سيد الشهداء، وانتهاءً بمسجد القبلتين، عندها تنتهي أذكار الصباح، ومشوار الصباح، ولاتنتهي الهواجس و أحلام الارتحال. وبعد أن كانت رغبًة جامحة في تلك الأراضي الباردة، التي لايُظلم فيها تفاحٌ ولاكرزٌ ولا أجاص، خُفّضت الأماني واتجهت إبرة البوصلة نحو جنوب الديار، حيث السودة، والجبل الأخضر، والنماص. المهم أرضٌ باردة تحتضن الزنبق والقرنفل والأوركيد.

“إن لم يكن بإمكانك الذهاب لمكانٍ ما، عُد إلى نفسك، تحرّك في ممرات ذاتك، إنها تبدو كمسارات النور“ *
قبل الأصيل، أعود لبيتي في مسارٍ دائري معاكس. ابتداءً بالحرم النبوي، مرورًا بمسجد سيدنا بلال إلى اليمين، عبورًا بأهل البقيع: السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، أنتم السابقون ونحن اللاحقون. وقد أتوقف في طريقي بمسجد قباء إن وجدت بائعات البيض البلدي، وإلا أكملت المسير، حتى يستقبلني من جديد” أحد”، يأخذني تحت جناح ظله، حائلاً بيني وبين صخب الكون.
أصِل البيت، وأعبر الفناء مشدوهًة في كل مرة بنخلات عمر اللاتي يتشوّفن السور. هكذا، وعلى حين غفلٍة من الجميع، ودون أدنى جهد، ضربت جذورها عميقًا في الأرض. لقد نسبناها لعمر الذي ألقى نواها في تلك الليلة البعيدة. أما هو فيميزها بالليلة التي عاين فيها الجوزاء قبلي.

يقول نجيب محفوظ: إن موطنك هي الأرض التي تتوقف عندها محاولاتك للهروب. بيد أن رأيًا آخر يقرر:”الرغبة في الهروب هي جوهر كونك إنسان”. ورغم أنه يطيب لي أن أصدّق تحايل النخيل و أُحد ليحولا دوني والارتحال، ورغم أن طبيبي أخبرني أن مرضي لاتناسبه الأجواء الباردة، وأنني محظوظة بسكنى المدينة ذات الجو الحار الجاف. إلا أنني أعرف في قرارة نفسي أن الارتحال محورها وديدنها الشاغل. ومع مضي العمر تصالحت مع حقيقة أنه ارتحال فضول لا هروب نفور. نوعٌ من التفاوض الحالم التوّاق، الذي يغامر لأجل مالايوقن بغايته ولايدري كنهه.
وطريقي، ما طريقي؟ أطويلٌ أم قصير؟ هل أنا السائر في الدرب؟ أم الدرب يسير؟ أم كلانا واقفٌ والدهر يجري؟ لستُ أدري. *

ما أدريه يقينًا أنني عرفت جذوري، واهتديت لواحة سكينتي، ورضيت بطابة دارًا وبنخيلها ظلا وثمارا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى