مختارات

بوح الحارات المنسية.. فُقراء في زمن العَدِل (1)

خالد صالح قوقزه
في مدرسة الحارات المنسية، لم يكن هناك زَناقيل ومباسيط (أغنياء)، فكل الطلبة من طبقة أبناء الحراثين (فلاح، مفلح، عودة، عواد، عيسى، عوض، بطرس، يوسف، موسى… ) الذين أحبوا الأرض والوطن، وورثوه من أباء وأمهات كانت قلوبهم مسكنًا للوطن قبل أن يسكنوا فيه، وهنا كان يكمن عزاء الطلبة، فلا يوجد بينهم ابن معالي أو ابن عطوفة أو ابن سعادة، حتى “فوزي ابن المختار” كان يدرس بالمدينة وكافيًا خيره وشرّه، فكل أولاد الحارة في الهمِ شرقٌ..

مصروف الجيبة لا يزيد عن القرش، هذا إن مُنحَ مصروفًا بالأصل.. يذهب الجميع للمدرسة مشياً على الأقدام (كعّابي) ويعودون مشياً، فلا مرسيدس توصلهم ولا جيب تعيدهم، ولا همَر يخرجون رؤوسهم من شبابيكها متباهين أمام من حُرِموا حتى من دابة يمتطون ظهرها بالشقلوب..

غداؤهم صحن من المريس مُزَيّن بخيط من الزيت مع رغيف إشراك وراس بصل فَغُش، وإن كانت الحال جيدة فكان الغداء مُجدرة، أو شاكرية أو جعاجيل، ورغم ذلك كان الكل في غاية من السرور والسعادة، لأن الألفة والمحبة وصفاء السريرة ونقاء القلوب كانت تطغى على الفقر والعوز والقِلة، وأكثر من هذا وذاك فقد كانت حاراتنا تعيش حالة من العدل حتى في فقرها وقلّة حيلة أهلها.

في أيام الصيف لم نستمتع نحن أبناء الحارات المنسية بطعم العطلة الصيفية، فعند آخر امتحان في المدرسة كنا نعرف مصير العطلة (الفيدوس).. كيف وأين سيكون؟
فالأهالي قد سبقونا إلى الحصيد، وما علينا إلا اللحاق بهم، فيتم استقبالنا بالمنجل ليكون أداتنا في حصد القمح، وتُصرف على عهدتنا الدابة (الحمار) والقادم لرَجِد القش إلى البيدر، تمهيداً للدرس ومن ثم التذراية، ويبقى على عهدتنا ومن مسؤوليتنا حتى نهاية الفيدوس، فعليه نجلب الماء من العيون، وهو الوسيلة لنقل الحب والتبن من البيدر إلى القناطر حيث الكواير والتبّان.

ننتهي من الحصيدة وتوابعها فنجد بانتظارنا كرم العنب الذي بدأت النُقيدة في قطوفه، وصار لزامًا علينا أن نقوم برشّه بالمبيدات اللازمة (الفندول والفسفورنو)، فنتسلم عهدة أخرى وهي المضخات التي تحمل على الظهر عُلَب السموم.

  • شوه يا يابه چمّلتوا رش الكرم؟
  • آه يابه چَمَّلناه.
  • طيب يابوي بدياكوا بُكرة من الصُبح وعلى البَراد (وقت الندى) إتبلشوا إتغطوا هالدوالي. دوكياه هناك بقاع التلعة
    من تحت فيه عَرَن قَلْعُوه وغطّوا هالقطوف المكشوفة، ولَهمِدُوها إكويس،
    ننتهي من عملية التِغطاية ونبدا بعملية التَقبير (الحفر على مؤخرة الدالية)
  • بُكرة على البراد كل واحد إيزُم فاس وبلشوا قَبروا عالدوالي، و ديروا بالكوا إتقطعوا إشروشها.

عند إستواء العنب نبدأ بعملية تقطيع العنب وتعبئته بالبكسات أو بالسحاحير لنقلها إلى الحسبة، والتي كنا نذوق الأمَرّين في نقلها من الكرم الى جانب الطريق، لنقوم فجرًا بتحميلها ببكم الحج موسى الذي سيرسلها الى الحسبة.

  • هاي العنب بلّش يستوي، وانا وصيت الحج موسى يجيب معاه من الحسبة ميه وخمسين بُكسة ماركة… بديّاكوا بُكرة بعد العصريات إتعبوهن، مشان بعد بُكرة الفجريات اوديهن على الحسبة.
  • يابه لا تنسى تشتري لينا كسوة المدرسة لأنه إفتوح المدارس قرّب.
  • آه مش ناسي يابه، أنا بدي ابيع هالحِمِل هاظ مشان إفتوح المدرسة.
    قبل الفجر ينادي:
    _ أصحوا يا اولاد هاي بكم الحج موسى بِزَمّر. قوموا خلينا إنصَفّط البُكسات بالبُكم، مشان إنلَحِق السوق بأوله.
    يُكمل الاولاد تحميل العنب بالبكم، فيقول والدهم:
  • يالله يابه ناموا اشوي، وقوموا بدري وانطُروا الكرم، وحاحوا عنه الطيور. (كانوا يقوموا بطرد الطيور عن كروم العنب من خلال الدق على سطل، فيخرج صوتا يخيف الطيور فتهرب) وحطوا ببالكوا انه اليوم بعد العصر عندنا تعباية ميه وخمسين بكسة.

حين كان يتحرك بِكم الحج موسى وبرفقته والدنا، كُنّا نرقُبه في الذهاب، ونترقب عودته بفارغ الصبر، لأننا كنا نرى به حامل آمالنا وأحلامنا، وأية آمال تلك التي كنا ننتظرها، فكانت لا تتعدى أمل الحصول على بنطال كاكي وقميص من الساتان فستدقي اللون وبوت الأصبع الجيكي، ودفاتر وأقلام رصاص ومحايات وبراية لزوم السنة الدراسية الجديدة التي أضحت على الأبواب، وأحياناً حلم لا يتعدى كيس (ظرف ورقي) مملوء بالجعيجبان أو ملبس مخشرم أو حامض حلو.

بعد الحصول على كِسوة المدرسة ولوازمها كنا ننام ونحلم بافتتاح المدرسة، ليس حباً بالدراسة بقدر ما هو انتظار اليوم الذي سنرتدي به الكسوة الجديدة والتباهي بها أمام أقراننا
—- يُتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى