ثقافة وأدب

الماضي الحميم: هل نعيد كتابة التاريخ من خلال أرشيف عائلاتنا؟

محمد تركي الربيعو|

يلاحظ في السنوات القليلة الأخيرة، صدور عدد من الكتب والروايات العربية، التي اهتمت بكتابة تاريخ المئة سنة الماضية، والسؤال حول ما جرى، من خلال مدخل اليوميات العائلية. فوفقا لهذا النوع من الكتابة، بدت قصص العائلات الصغيرة، وأسماء الأولاد، ووجبات الطعام التي كانت تتناولها، وطبيعة مؤسسة الزواج، والعلاقات بين الأولاد والأب، ويوميات المدرسة، وعشرات التفاصيل الأخرى، جميعها، تحمل معنى ودلالات، ليس فحسب على صعيد هذه العائلات، بل أيضا على صعيد البيئة الاجتماعية والسياسية والدينية، التي كانت تعيش فيها هذه الأسر، وتتفاعل معها باستمرار.
ولعل ما يلفت النظر في هذه الموجة من الكتابات العربية، إن كان يمكن وصفها بذلك، هو أنها غالبا ما ارتبطت أو جاءت بالتوازي مع حالة العنف اليومي في المنطقة منذ الثمانينيات، وصور اللاجئين، وتعدد روايات المحاربين، الأمر الذي جعل من فهم المشهد، والإلمام بتفاصيله أحياناً، أمراً غاية في التعقيد، ولذلك بدت سير العائلة وتواريخها، بوابة أخرى لفهم ما جرى ويجري اليوم في عالمنا العربي.
اللافت أيضا، أن هذا التطور، لم يساهم في إغناء تواريخنا الاجتماعية فقط، بل جاء في هذه الظروف بالأخص، ليطرح أسئلة جديدة على المؤرخين أنفسهم، وعن طبيعة مصادر التأريخ لهذه المرحلة، وكيف يمكن قراءة ما حدث؛ كما أنه أثار أسئلة أخرى تتعلق بمشاريع الكتابة التاريخية العربية، ومدى ضرورة العمل اليوم على تأسيس ورش وأجندات بحثية تكون مهمتها جمع ما يمكن جمعه من سيرنا الصغيرة، خاصة أن التغيرات في العقود الأخيرة لم تقتصر على الجوانب التحديثية اليومية، وإنما ترافقت مع تدمير ديموغرافي وعمراني لحواضر عربية كبيرة.
كما أن الإشكال الذي تطرحه هذه الكتابات على المؤرخين، يتعلق بطبيعة مصادرها، التي تتكون في الغالب من مرويات شفوية، ورسائل، أو صور عائلية، وبعض اليوميات، وكيف يمكن النظر والتعامل معها بوصفها وثائق، وبالأخص المصادر الشفوية، وهل يمكن الاعتماد عليها في إعادة تقميش أو تعديل بعض تواريخنا الاجتماعية الكبرى، وإلى أي حد يمكن أيضاً اعتبار ما تشهده، أو ما عاشته عائلة في حياتها من تغيرات على صعيد العقود الأخيرة، دليلاً على تغيرات أوسع عرفتها المنطقة.
ولعل هذه الأسئلة وغيرها، تحتاج اليوم إلى نقاش واسع، بين المؤرخين وكتّاب السير والروائيين والمعماريين والأنثروبولوجيين والألسنيين أيضاً، خاصة أن الفئات الأخيرة هي من أثارت في السنوات الماضية، وخاضت تجربة كتابة التاريخ العائلي كمدخل لفهم التاريخ العام، دون أن يعني هذا الكلام أن المؤرخين لم يكن لهم دور في هذا الجانب، بل نجد أن هناك جهوداً مهمة في هذا السياق، وإن كانت غير كافية، وأذكر هنا كتاب المؤرخة المصرية نيللي حنا حول سيرة إسماعيل أبو طاقية/ شهبند تجار القاهرة، الذي حاولت من خلال جمع سيرته، إعادة قراءة القرن السادس عشر العثماني في مصر.

بدايات..

وفي حال أعرضنا حاليا عن هذه الأسئلة، فإن المتابع لبعض هذه السرديات العائلية، يلاحظ أن الأسئلة، وطريقة تعامل مؤلفيها مع تواريخهم الحميمة، كان أيضاً محل نقاش وسؤال دائم؛ فهذه التواريخ بالنسبة لأصحابها، مثلت من جانب فرصة للسؤال، إما عن التغيرات الاجتماعية للمدن العربية، وما أثارته من قلق هوياتي، أو للخوض في سؤال الحرب، والبحث في جذورها. ومن ناحية أخرى، شكلت مناسبة مهمة لخوض غمار تجارب كتابية جديدة، وطرح أسئلة مختلفة بعض الشيء. كما أن كتّاب هذه التواريخ، لم يتعاملوا مع قصص الأهل، بوصفها مسلمات أو أشياء مقدسة، بل نرى أن قسما منهم كان حذراً لهذا الأمر، وهو ما وجدناه مع الروائي اللبناني أمين معلوف في عمله المهم «بدايات» الذي اعتمد فيه على رسائل عائلته، لإعادة قراءة تاريخ لبنان الاجتماعي، وما عرفه من هجرات متتالية. ولعل ما لفت النظر في هذا العمل، أن براعة معلوف لن تقتصر في إعادة الاعتبار لرسائل مهملة، والنظر لها بوصفها وثائق عن حياتنا الماضية، بل تعامله بفطنة وذكاء مع هذه الأشياء المنسية. ولذلك نراه يقر أحياناً بأن هذه الرسائل، كتبت بأسلوب قريب مما يدعوه المؤرخ الفرنسي فرانسوا هارتوغ بـ»التاريخ البطولي» الذي عادة ما يروي قصص الأجداد بشيء من العظمة والإجلال؛ من هنا بدت رسائل آل معلوف مع حفيدها، نصوصا لا تروي بالضرورة كامل قصة أبناء العائلة، أو قد تكون متحيزة لسردية ما، وهو ما سنكتشفه مثلاً في رسائل أحد أقاربه ممن هاجروا لأمريكا اللاتينية، فخلافا للقصص الأسطورية عن ثروته الباهظة، سيكتشف معلوف أثناء البحث عنه أنه كان يعاني من مشاكل مادية في أيامه الأخيرة.

ومما يلاحظ أيضا في هذه الكتابات العائلية، هو قدرة بعض مؤلفيها على معالجة أسئلة الحاضر، من خلال هذا الماضي الحميم، وتطويعه أحياناً لأجندات فكرية، ولذلك يغدو التذكير ببعض قصص الأهل أمراً غير بريء، وإن كان فعل الكتابة بشكل عام، كما يرى عبد الفتاح كيليطو، خضوعا لأنساق ثقافية محددة، حتى لو لم نكن واعين بذلك. واللافت أيضا، أن البعض وجد في هذه القصص عالماً بديلاً عن الحقول واللغة الأكاديمية، التي اعتمدها لسنوات طويلة، وأذكر هنا كتاب المعماري العراقي الراحل رفعت الجادرجي «مقام الجلوس في بيت عارف آغا» فبعد سنوات طويلة من تأريخه للحداثة المعمارية في العراق وأسبابها فشلها، بدا للجادرجي أن يوميات عائلته، قد يكون نافذة جديدة لإعادة النظر في هذا السؤال، أو لدعم بعض استنتاجاته، ولذلك قرر بعد رحيله عن العراق، العودة مرة أخرى من خلال ذاكرته العائلية، لنجد أنفسنا في شارع الرشيد البغدادي، أمام منزل جده. وهنا سنكتشف أن عارف آغا قد تزوج من امرأتين، الأولى عراقية، والثانية من أصول تركية (خاتون خانم) وقد بنى للأولى منزلاً دون نوافذ، بينما قام في نهاية القرن التاسع عشر ببناء منزل لعروسه الجديدة، لكن هذه المرة بفتحات للخارج. يومها بدا أن هذا التطور يدل على تغير في شكل مدينة بغداد وأهلها، الذي أخذوا يغيرون من أشكال منازلهم لتكون أقرب للنمط الحداثوي؛ مع ذلك سيكتشف الحفيد من خلال تتبعه لسوالف الأهل، أن جده ورغم هذه التغييرات، ظل يجلس على الأرض، وينفر من كلاطخ (كراسي) منزل زوجته الجديدة، كما بقي يصر على ارتداء عقاله (كما كان يفعل صدام حسين أحياناً) الأمر الذي سيوصله إلى فكرة تقول إن هذا التشبث إنما يعكس طبيعة العقلية العراقية، التي ستقبل على الحداثة الشكلانية (العمارة) دون أن تجري تغييرات على نمط رؤيتها.

المتابع لبعض هذه السرديات العائلية، يلاحظ أن الأسئلة، وطريقة تعامل مؤلفيها مع تواريخهم الحميمة، كان أيضاً محل نقاش وسؤال دائم؛ فهذه التواريخ بالنسبة لأصحابها، مثلت من جانب فرصة للسؤال، إما عن التغيرات الاجتماعية للمدن العربية، وما أثارته من قلق هوياتي، أو للخوض في سؤال الحرب، والبحث في جذورها.

فلسطين… ساحة التواريخ العائلية

ومثلما ذكرنا، لم يكن المؤرخون العرب بعيدين عن هذا التاريخ العائلي، وإن كانوا في أغلبهم ممن درسوا ويعملون في جامعات غربية، خاصة أن هذه التواريخ، بدت قادرة أحياناً على تقديم مصادر وصور أكثر قربا من المشهد، كما مثل فرصة للسؤال وخوض موضوع الكتابة التاريخية نفسها، وربما شكلت الساحة الفلسطينية في العقدين الأخيرين واحدة من أهم الساحات العربية التي عرفت جهودا مهمة على هذا الصعيد، وبالأخص مع دور مؤسسة الدراسات الفلسطينية، التي ساهمت في تحقيق عدد واسع من الكتب التي تتناول يوميات الناس العاديين، أو إعادة قراءة تواريخ بعض المدن الفلسطينية من خلال السير الذاتية والعائلية، ولعل آخر هذه الجهود تمثل في كتاب المؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي «مئة عام من الحرب في فلسطين» الذي حاول من خلاله تقديم توليفة جديدة من المصادر، تجمع بين أرشيف غربي، وما كتب من دراسات، أو جرى تحقيقه من يوميات فلسطينية، وربطها بتفاصيل وصور من عائلة الخالدي، وما عرفته من أحداث ومشاهد على العقود الماضية.

خسارة الماضي

يلاحظ أن بعض الروائيين تمكنوا أيضاً عبر قصصهم العائلية من تأكيد فكرة أن الروائي بات أحياناً يرث مهنة المؤرخ، وربما ما ميز أعمالهم في هذا الشأن أنها بدت أكثر جرأة على مستوى الخوض في تواريخ بعض المدن من المؤرخين أنفسهم، كما أن سؤال اللجوء، وتداعياته، ومحاولة إنقاذ ما يمكن جمعه من ذاكرة ويوميات، هو ما ميز هذه الأعمال، ولعل من أهم وأمتع الأعمال الروائية التي نشرت في هذا السياق هو عمل المعمارية الفلسطينية سعاد العامري «أنا دمشقي»؛ فقد بدا لها هذا المشروع وهي في سن الثالثة والستين، والنسيان رفيقها، أقرب ما يكون لمن يفتح مجموعة متداخلة من الصناديق، دون التمكن من دخولها، وبالفعل هذا ما فعلته العامري، إذ استطاعت من خلال نصها الروائي الخوض في مشروع جريء يقوم على فتح صناديق ذكريات دمشق ومحيطها العمراني والثقافي في المئة سنة الأخيرة، من خلال سيرة عائلة والدتها (جدو /الجد نعمان) المتخيلة أو الحقيقة.
كان جدها ابن عائلة البارودي قد تزوج من جدتها ابنة نابلس في بدايات القرن العشرين تقريبا. وعاشت العائلة في قصر، يتكون من بحرة وغرف واسعة وفناء كبير وباب حديدي كبير، يحافظ على خصوصية العائلة. ومما تذكره أن جدها من أوائل من امتلك سيارة أولدزموبيل في عشرينيات القرن العشرين، ويقال إنه حقق ثروة كبيرة قبل الكساد العظيم عام 1929، الذي أدى إلى إفلاسه. مع ذلك لم يوافق أبناؤه على بيع قصر والدهم، وستقرر ابنتان له، ترك حياة الرفاهية وشوارع دمشق الجميلة، والانتقال إلى مدينة السلط الأردنية الصغيرة آنذاك لتدريس اللغة الإنكليزية؛ وهناك ستتعرف والدتها على زوجها.

وفي الأربعينيات والخمسينيات، ظلت دمشق مكانا للمتصوفة وقصصهم، كما ستبقى صورة وليمة الجمعة «أطول أيام التاريخ» أكثر حضورا في هذه الفترة، التي تبدأ منذ الصباح الباكر، مع التنظيف مروراً بتحضير وجبات الكبة والشيش برك والمحاشي والمقادم، كما ستعرف هذه الفترة زواج فتيات العائلة وانتشارهن بين الأردن والقدس ودمشق.
في الستينيات، سيتغير مشهد العائلة مع قدوم عدد من الأحداث، أولها وفاة الجد نعمان، الذي اختتمت أربعينيته بوجبة الأوزي التقليدية، كما يبدو شارع مدحت باشا وسخاً مقارنة بأيامه الماضية، عندما كانت تفوح منه روائح مصنع غرواي للشوكولاته، وخلال هذه الفترة أيضا كان أحد أخوالها قد أسس حزباً سياسيا، لكن حال حزبه بدا كحال وليمة الجمعة، بعد وفاة جدها التي أخذت تنقص طبقاً أو طبقين كل يوم جمعة، لينتهي به المطاف في السجن عام 1966، وبعد الإفراج عنه غادر سوريا نهائيا إلى السعودية، ومع هذه الحادثة، كانت دمشق، مركز التجمع التجاري والزراعي لبلاد الشام، تفقد بريقها لصالح البلدان العربية النفطية الغنية الفتية.
في السبعينيات، بدا أن آخر الفصول تكتمل مع بيع منزل جدها، وانتقال بعض أفراد العائلة للعيش في حي أبو رمانة، يومها ظهر لها مشهد «النقرات الثلاث المتتالية، تك تك تك، للقفل الثقيل» في إشارة لإغلاق منزل جدها بعد بيعه بمثابة إعلان عن نهاية قصة العائلة، أو ربما بداية نهاية قصة سوريا المتنوعة على صعيد الأفكار والآراء والحياة الحزبية، وستعود الطفلة بعدها بعقود في عام 2015 لتقول في روايتها إن الخسائر الثقافية (عائلاتنا) والثمن الذي دفعناه في النهاية كان أغلى بكثير من الذهب أو النفط» وربما من الأفكار السياسية الثورية والملاحم والبطولات كافة.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى