ثقافة وأدب

نقد رواية “البشموري” لسلوى بكر (1-2)

أ.د. إبراهيم عوض

كاتب ومفكر مصري.
عرض مقالات الكاتب

قبل نحو عِقْدٍ من الزمان وقعت فى يدى مجموعة قصصية للكاتبة سلوى بكر فوجدت بعضا قليلا منها مقبولا، أما الباقى فلم أر فيه ما يشدنى، وإن لم أندم على إنفاق وقتى فى قراءة المجموعة، إذ تعرفت إلى كاتبة لم أكن قرأت لها رغم سماعى باسمها يتردد فى الصحف والمجلات. ثم سمعت برواية صدرت لها قبل ذلك بقليل اسمها “البشمورى” تتحدث عن تمرد وقع فى شمال الدلتا المصرية أيام المأمون الخليفة العباسى الشهير، فاشتريتها ناويا أن أقرأها لأرى مثار هذه الضجة، إلا أن الظروف شغلتنى بما هو أكثر إلحاحا، مما جعلنى أضع الرواية جانبا على أمل الفروغ لها بعد قليل، لكن الأعوام انصرمت دون أن تتاح لى الفرصة لقراءتها كما كنت أنوى حين اشتريتها… إلى أن كنت أصحح منذ أيام مادة “القصة” فى امتحانات هذا العام (مايو 2010م) بالقسم فوجدت الطلاب يتحدثون فى الجزء الثانى من أوراق الإجابة، وهو الجزء الخاص بالزميل الذى يشاركنى تدريس المادة، عن ثلاثية خيرى شلبى المعروفة التى تحمل عناوينها بعضا من أسماء ورق الكوتشينة، أو عن “بشمورى” سلوى بكر، حسب السؤال الذى اختاره الطالب للإجابة عليه. فعندئذ، وعندئذ فقط، صح منى العزم على قراءة “البشمورى”، ومعها رواية شلبى: “وكالة عطية”، التى كنت أنزلتها عندى على الكاتوب منذ عامين تقريبا ولم أكن قرأتها بعد، وإن كنت طالعت بسرعة فصلا منها شدنى وقدَّرت فى نفسى أن أرجع إليها فى أقرب فرصة أكون قادرا على مطالعتها بالتركيز المطلوب إذ بدت لى ممتعة، وهو ما فعلته فى الحال، فقد أخرجت نسختها التى عندى من مكمنها على الكاتوب، وشرعت فى قراءتها مستمتعا بها رغم ما فى لغتها من هنات ليست بالقليلة شفع لها حرص كاتبها على استعمال الفصحى دائما على قدر ما يستطيع، وكذلك رغم ما فى بنائها الفنى من بعض الملاحظات، فضلا عما تشتمل عليها من بذاءات عنيفة وغرام بالحديث الشديد التفصيل عن الحشيش وطقوس شربه دونما داع، ودَعْكَ من الجو الاجتماعى والأخلاقى القاتم الذى لا يعطيك فرصة كى تتنفس نسمة هواء نقية إلا فى الشاذ النادر. والعجييب أننى، رغم استمتاعى بالرواية، لم أفكر قط فى كتابة شىء عنها. لقد قَرَّ فى ذهنى أن أقرأها بغرض المتعة ليس إلا، فتركت نفسى مثل شخص يرقد فوق حشية هوائية على سطح بحر هادئ تاركا نفسه للموج بنسيمه المنعش يهدهده دون أدنى تفكير فى أى شىء سوى متعة التمدد مغمض العين على الحشية الحنون.أما رواية “البشمورى” فتجري أحداثها، كما سبق القول منذ قليل، في عهد الخليفة المأمون، إذ ثار تمرد على الدولة وقتذاك فى منطقة البشمور بشمال الدلتا المصرية شارك فيه نصارى ومسلمون مصريون، ومعهم بعض الأندلسيين. وتبدأ هذه الأحداث بإرسال الكنيسة فى الفسطاط ممثِّلََيْن عنها، هما الشماس ثاونا وبدير خادم الكنيسة، إلى البشامرة لإقناعهم بالتخلِّي عن ثورتهم ضد الدولة. وفي أثناء المسير يصف لنا بدير كل ما يلقاه فى طريقه سواء كان له اتصال بأحداث الرواية أو لا. إنه كالمرشد السياحى لا يترك شيئا يراه دون أن يعلق عليه ويصفه تفصيلا. كما تنهال الذكرياتُ عليه وتتلاحق: فهنا كان مسقط رأسه، وهناك كان غرامُه بفتاة كانت بينه وبينها معاشرة جنسية حبلت منه بسببها، وخطبها أهله لأخيه، الذى لم يكن يعلم شيئا عن هذه العلاقة، فانتحرت… إلى أن يصلا إلى مركز البشامرة، الذين يرفض زعيمُهم النصرانى المسمى فى الرواية خطأً: “مينا بن بقيرة” فكرة العدول عن الثورة. ثم يأتي جيش الخلافة فيقضى على التمرد. ويفترق بدير عن ثاونا، ويؤخذ أسيرًا ويُنْقَل مع غيره من الأسرى فى طائفة من القوارب إلى أنطاكية مركز المسيحية الشرقية. وتخوض الرواية في تفاصيل حياة الأديرة وعادات الناس، وتعرفنا بعدد من الأماكن اندثرت ولم تذكرها كتب التاريخ. وفي أنطاكية يعمل بدير في خدمة أحد الكهنة، ثم بعد وفاة معلِّمه ينتقل إلى خدمة كاهن آخر ذي ميول شاذة وعلاقات مع بعض الجهات الأجنبية، فيرى أن أفضل طريقة للهروب من خدمة معلِّمه الجديد هي التنكُّر لماضيه الكهنوتى. ثم يُنقَل بعد هذا إلى قصر الخليفة ببغداد خادما فى المطبخ. ثم بعد مكوثه فترة في بغداد ودخوله فى الإسلام يقرِّر العودة إلى مصر كي يقابل ثاونا ويدعوه إلى الدخول في الدين الجديد. وفي طريق العودة يقضي سنوات في فلسطين درويشًا، ليتابع بعد ذلك طريق عودته إلى بلده، فيصل إلى معلِّمه، الذي كان على فراش الموت، ويحاول هدايته إلى الدين الجديد، لكنه يرفض ويموت عقب ذلك. أما بدير فيتحول إلى درويش يجوب الطرقات متعرضًا للأذى والإهانة، جاعلاً علاقته على نحو مباشر مع الله سبحانه وتعالى.ونبدأ بزاوية السرد، ومعروف أن راوى القصة، وهو بطلها أيضا، قد أسلم فى النصف الثانى منها. ومعنى هذا أنه، طوال روايته لأحداث القصة والتعليق عليها، كان مسلما، إذ لا يروى الإنسان قصة مثل هذه إلا بعد أن تكون قد اتخذت شكلها النهائى وأصبح لها مغزى يحب أن يعرضه على الآخرين. ومع هذا نراه ينطلق فى سرده للنصف الأول من أحداث الرواية من زاوية نصرانية، وكأنه لم يعتنق دين محمد صلى الله عليه وسلم رغم أنه قد أعلن مرارا اعتزازه بدينه هذا الجديد واقتناعه التام به. بل لقد عاد الراوى من بغداد إلى الأب ثاونا مرشده الروحى فى مصر كى يدعوه إلى اللحاق به فى دينه الجديد، وأخذ يغريه لعله ينتقل معه إلى دين سيد الأنبياء والمرسلين. ورغم هذا نفاجأ، كما قلت، بأنه فى روايته لأحداث الرواية والتعليق عليها فى نصفها الأول وتقويم الأشخاص والحكم عليهم إنما ينطلق من كونه نصرانيا لا يزال. فنراه، بالنسبة إلى الفترة التى كان فيها نصرانيا، يمجد التثليث ويدافع عنه ويبدى تمسكه بكل ما هو نصرانى ويفتخر به ويتألم إذا خرج أحد على شىء منه ويذكر ممارساته للعبادات النصرانية بكل اعتزاز… وهكذا. وإذا تكلم عن الإسلام كما هو الحال مثلا فى الصفحة رقم 41 قال: “الملة الإسلامية”، “دولة الإسلام”، “قرآن المسلمين”، “رسولهم”… إلخ مع أنه كان قد صار فى ذلك الوقت واحدا من المؤمنين بهذا الرسول، وبالقرآن الذى نزل عليه، وبالملة التى جاء بها.بل إنه ليروى (ص101- 102)، روايةَ المصدق المتألم، أخبار اعتداء المسلمين على الأديرة والرهبان والراهبات بأمر والى مصر فى ذلك الوقت. ومنها حكاية شنيعة غاية الشنع لا يمكن تصديقها لمناقضتها ما هو معروف عن المسلمين حول راهبة فاتنة الجمال منقطعة إلى عبادة المسيح فى أحد الأديرة منذ طفولتها أراد أحد المسلمين الاعتداء على عرضها. وهى من الحكايات الخرافية التى يبرع فى تزويرها بعض النصارى تمجيدا لتاريخهم وتشويها لخصومهم كما يحدث الآن من تضخيم ومبالغات واختراعات للإساءة إلى المسلمين بكل سبيل. وما خرافات سلق الفاتحين المسلمين للأقباط فى قدور والتهامهم (بالهنا والشفا)، وإعادة يَدَىْ يوحنا الدمشقى المقطوعتين إلى موضعهما من ذراعيه إثر ظهور العذراء له فى المنام عقب قطعهما، وطيران جبل المقطم، وسيلان دموع العذراء من عيون صورها الجدارية، والظهورات الموسمية من فوق أبراج الكنائس بغريبة علينا.وكان ينبغى أن تضع الكاتبة تلك الحكاية على بساط التحقيق بطريقة فنية طبيعية بدلا من سوقها بعَبَلها سَوْقَ من وقعت يده على كنز ثمين، فهو حريص عليه يخاف أن يضيع منه. وهى نفسها قد سوَّغَتْ، على لسان بدير الراوى، معاملة المسلمين الطيبة له حين عرفوا أنه من رجال الكنيسة بأن القرآن قد أوصى بأهل الكتاب خيرا (ص228). فلم نسيت إذن هذا الكلام حين نقلت ما نقلته عن ساويرس بن المقفع من سخف لا يمكن قبوله عقلا؟ ثم إن أهل الكتاب ليسوا هم رجال الكنيسة وحدهم، بل النصارى كلهم من رجال دين وناس عاديين، وكذلك اليهود. وهذه الإضاءة نقولها على الطائر ثم نمضى فلا نتوقف عندها كثيرا ولا نجعل منها قصة.وملخص الحكاية أنه كان بِدَيْر العذارى فى بلاد البشمور ثلاثون راهبة عذراء مَلَكَهُنّ عسكر الوالى المذكور، وكانت فيهن صبية دخلت الدير وهى ابنة ثلاث سنين، فلما نظروا إليها بُهِتوا من شدة حسنها فأخذوها وتشاوروا ماذا يصنعون بها. فاقترحت عليهم الصبية ذاتها أن يحضروا مقدَّمهم كى تخبره بما هو أنفع لهم. فلما حضر أخبرته بأن آباءها كانوا يدهنون أجسادهم عند الحرب بمرهم معين يحميهم من القتل، وأنها سوف تريه ذلك المرهم وتثبت له عمليا صدق قولها ثم تشرح له كيفية تحضيره لقاء إطلاق سراحها والتخلية بينها وبين العبادة، التى وُهِبَتْ لها منذ الصغر. ثم إنها أحضرت الدهان وطلت وجهها ورقبتها، ثم طلبت منهم أن يجربوا سيوفهم فى رقبتها بكل ما فيهم من قوة، وهى زعيمةٌ أن الدهان سوف يحمى رقبتها من القطع. فما كان من المقدَّم إلا أن أهوى بسيفه على عنقها فجَزَّه. فعلم المسلمون ساعتئذ أنها إنما لجأت إلى تلك الحيلة حتى تحمى عرضها من اعتداءاتهم. فأخذوا يمجدون الله تاركين بقية الراهبات لم يمسوهن بأى سوء. ثم يمضى بدير قائلا إنه هو وثاونا أخذا يمجدان الله أيضا ناويين متى عادا إلى الفسطاط أن يخبرا رئيس الدير هناك بالواقعة، وكأنها واقعة حقيقية. أى أنه، وهو المسلم، لم يخطر له أن يضعها موضع التمحيص على الأقل، إن لم يكن موضع الإنكار، لأنها تخالف تماما ما عُرِف عن المسلمين من احترام بيوت العبادة والإبقاء على حياة الرهبان والراهبات فلا يتعرضون لهم بشىء. ترى هل يعقل أن يكون الشخص مسلما ثم ينطلق فى كلامه ومشاعره وأفكاره من منطلق نصرانى على هذا النحو؟ ألا إن ذلك لعجيب.قد يقال إنه إنما كان يروى وقائع الرواية أولا بأول، وإنه، حين كان ينطلق من هذا المنطلق، كان نصرانيا لا يزال. لكن هذا تفسير لا يقنع أحدا، إذ الواحد منا حين يروى أحداثا كثيرة تستغرق سنين طوالا كالأحداث التى رواها بدير، لا يحكيها أولا بأول، بل يحكيها بعد أن يكون قد فرغ منها واتخذت شكلها النهائى، اللهم إلا إذا كان مخبولا، فهو يمشى فى الطرقات معلقا على كل ما يرى ويسمع. بل إن المجانين أنفسهم لا يفعلون هذا. وحتى لو فعلوا فإنهم لا يروون الوقائع بهذا الترتيب ولا يكون فى ذهنهم خطة لكتابة رواية بهذا الشكل ولا غرض يريدون تقريره فى النفوس على ذلك النحو الذى فى الرواية، بل يعيشون فى قوقعة نفوسهم المضطربة المشوشة، ويتحدثون بلغة مرتبكة متناثرة غير مفهومة، ويرون الأشياء على نحو غائم لا يساعدنا على متابعة ما يقولون. لو أن الرواى كان معلقا فى مباراة كرة قدم مثلا لكان ما صنعه مفهوما، إذ المعلق فى مثل تلك الحالة يصف ما يقع أمامه أولا بأول. لكننا هنا لسنا إزاء معلق كروى، علاوة على أن المعلق الكروى لا يخطط مسبقا لما سيقول ولا ينسّقه بحيث ينجم عنه عمل فنى مثلما هو الحال فى الروايات. كما أن المعلق الكروى، أو أى معلق فى الدنيا على أى شأن من شؤون الدنيا، لا يأخذ كل ذلك الزمن الطويل معلقا على ما يقع أمامه مثلما هو الأمر مع بدير، الذى تناول بالرواية حوادث أعوام وأعوام لا فى بلد واحد فحسب بل فى بلاد متعددة رأى فيها من الوقائع والأشخاص والمناظر وخاض فيها من التجارب وقاسى فيها من المآزق ما لا يخطر على بال. ثم لا ينبغى أن ننسى أن الرواى كان يصطنع طوال حكايته للأحداث صيغة الماضى، وهى الصيغة التى لا يصطنعها من يعلقون على أحداث تقع أمام أعينهم، بل يصطنعنون صيغة المضارع كما هو معلوم. لقد كان هناك منفذ للكاتبة يمكن أن يأخذ بيدها ويخرجها من هذه الورطة. ألا وهو أن تتخذ أسلوب المذكرات المكتوبة وسيلة لرواية قصتها. فعندئذ كان بمستطاع بدير أن يعلق على كل ما يدور حوله أو يحسه بداخله أولا بأول فى سخونته وطزاجته آخذا راحته على الآخر فى الوصف والحكم والتعليق.والواقع أن زاوية السرد هى من العُقَد التى كثيرا ما اضطربت حكاية الأحداث فى يد الراوى بسببها. وقد سقط د. طه حسين فى هذا الخطإ فى روايته: “دعاء الكروان” على ما شرحت ذلك فى كتابى: “فصول من النقد القصصى” لدن تناولى نقد هذه الرواية، وإن كان سقوطه جزئيا لا شاملا كما هو الوضع فى رواية “البشمورى”، التى بين أيدينا الآن. على أنْ ليس هذا أمرا خاصا بالقصص الضعيفة المستوى فحسب كما هو الحال فى قصتنا هذه، بل يمتد ليشمل حتى روائع الأعمال القصصية مثل رواية “مرتفعات وذرنج” لإميلى برونتى، وهى أحد الإبداعات القصصية العالمية الشاهقة، وكذلك قصة “قنديل أم هاشم”، التى تجمع بين الروعة والتهافت فى جديلة واحدة حسبما وضحت فى الفصل الذى درست فيه تلك القصة من كتابى المذكور آنفا.على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، بل يتعداه إلى ما هو أخطر بكثير. خذ مثلا الصورة البشعة التى صورتها الرواية، أو فلنقل: صورتها الكاتبة، للعرب والمسلمين، إذ الرواية فى الواقع لا تصور شيئا، بل الكلام على المجاز، والكاتبة هى التى شوهت صورة العرب والمسلمين، ولم تذكر لهم حسنة واحدة تقريبا، وكأنهم وحوش غير متحضرة لا يعرفون العدل ولا الرحمة، على حين أن الطرف الآخر يتميز يالوداعة والإيمان الطاهر مع أنهم عند المسلمين منحرفون فى إيمانهم بغض النظر عن رأيهم هم فى أنفسهم مما كل واحد من الطرفين حر فيه، إلا أنها وَشَّتْ صورتهم التى رسمتها لهم بالتوشيات الجميلة، حتى إن ثاونا والراوى لا يأتيان شيئا أو يدعانه إلا ويستشهدان عليه بنصوص من الكتاب المقدس عندهم، وبعضها من أعمال الرسل أو رسائل بولس مما لا يمكن حفظه لتعثكل عباراته ومعانيه، فضلا عما نعرفه من أن النصارى لا يحفظون أناجيلهم كما نحفظ نحن قرآننا، اللهم إلا العبارات القصيرة المشهورة جدا، وأين كلام بولس مثلا منه؟فعلى سبيل المثال هل يصح اختزال عصر المأمون، وهو من أزهى عصور الازدهار الحضارى فى تاريخ العالم، فى تلك المظالم التى ركزت عليها الكاتبة بالباطل؟ أين التفتح الثقافى؟ أين الرواج الاقتصادى والنعمة التى كان يعيش فيها الناس بوجه عام؟ لقد انتقل الراوى إلى بغداد، بل لقد دخل قصر الخلافة يشتغل مساعدا لكبير الطباخين، فلم نر من قصر الخلافة إلا مجلسا للخليفة ترقص فيه امرأة لعوب تثير الشهوات. فهل هذا هو كل ما كان يجرى فى مجلس المأمون، إن كان مجلس المأمون يعرف الراقصات العاريات أصلا؟ ألم يكن هناك علماء يتناقشون فى حضرته ويشاركهم مداولاتهم الفكرية؟ ألم يكن هناك رجال دولة يستشيرهم الخليفة ويتناول معهم شؤون الأمة وكيفية تدبيرها؟ ألم يكن هناك أصحاب شكاوى يلجأون إليه لإنصافهم؟ أليس إلا الراقصات؟ وعلى نفس الشاكلة نجد الرواية تركز فى عصر المعتصم على العيارين والتذمر والفتن وحدها، وكأن الدولة فى عهد ذلك الخليفة العظيم لم تك تحتوى على أى خير (انظر ص350). والله لو لم يكن له من فضل إلا أنه أدب الروم وغزا بلادهم وجعلهم يتلفتون حولهم فى ذعر لكان ذلك حسبه من المجد والفخار والخلود فى صحائف التاريخ المنيرة.وعن المأمون يقول السير وليم موير المستشرق البريطانى المعروف: “كان حكم المأمون مجيدا عادلا، وكان عصره مزدهرا بأنواع العلوم والفنون والفلسفة. وكان أديبا مولعا بالشعر متمكنا منه… وكان مجلسه حافلا بالعلماء والأدباء والشعراء والفلاسفة، إذ كان يقربهم إليه ويجزل لهم العطاء. وكما كان عصره عامرا بالعلماء والأدباء والنحاة فإنه كان كذلك حافلا بجماعة المحدِّثين والمؤرخين والفقهاء كالبخارى والواقدى، الذى نحن مدينون له بأوثق السِّيَر عن حياة النبى، والشافعى وابن حنبل. وكان المأمون يجلّ علماء اليهود والنصارى ويحتفى بهم فى مجلسه لا لعلمهم فحسب، بل لثقافتهم فى لغة العرب وحذقهم فى معرفة لغة اليونان وآدابها. ولقد أخرجوا من أديرة سورية وآسيا الصغرى كتبا خَطِّيّة فى الفلسفة والتاريخ وعلم الهندسة لعلماء اليونان وفلاسفتهم، ثم ترجموها إلى العربية بدقة وعناية عظيمة. وبهذه الوسيلة انتقلت علوم العرب إلى العالم الإسلامى. ولم تقتصر جهود هؤلاء الجهابذة على نقل هذه الكتب القديمة إلى اللغة العربية، بل توسعوا وأضافوا إليها ما اكتسبوه من مباحثهم واطلاعهم، وأقاموا مرصدا فى سهل تدمر مجهزا بجميع الآلات التى تمكنهم من النجاح فى دراسة علمى الفلك والهندسة والتوسع فيهما. وقد صنفوا كتبا فى الرحلات والتاريخ، ولا سيما كتب الطب، وعُنُوا عناية كبيرة ببعض علوم تافهة، إلا أنها كانت أكثر ذيوعا وانتشارا كالتنجيم والكيمياء. وكان لمجهود هؤلاء العلماء الأثر الأكبر فى نهضة أوروبا، التى كانت غارقة فى بحار الجهالة فى العصور الوسطى حيث أيقظتهم من غفلتهم وأنارت لهم سبل علومهم التى كانوا أغفلوها، وهى علوم اليونان وفلسفتها” (د. أحمد فريد رفاعى/ عصر المأمون/ ط2/ مطبعة دار الكتب المصرية/ 1346هـ- 1927م/ 1/ 399- 400).و أصل هذا الكلام موجود فى كتاب المستشرق البريطانى وليم موير: “THE CALIPHATE: ITS RISE, DECLINE, AND FALL FROM ORIGINAL SOURCES”، وهو متاح لمن يريد مراجعته بنفسه فى الفصل السادس والستين المخصص للحديث عن المأمون وعصره تحت عنوان فرعى هو: “Development of science and literature”. وهذا نصه بالإنجليزية: “His reign was without question a glorious one, ushering in, as it did, the palmy days of literature, science, and philosophy. He was himself addicted to poetry… At his Court were munificently entertained men of science and letters, poets, physicians, and philosophers. Besides philo¬logists and grammarians, it was the age also of the collectors of tradition, such as the great Bokhari, and of historians, as Al-Wakidi to whom we owe the most trustworthy biography of the Prophet; and of Doctors of the law, as Esh-Shafi’i and Ibn Hanbal. Moreover Jews and Christians were welcome at the Court not only for their own learning, but as versed both in the Arabic tongue and in the language and literature of Greece. The Monasteries of Syria, Asia Minor, and the Levant were ransacked for manuscripts of the Greek philosophers, historians, and geometricians. These, with vast labour and erudition, were translated into Arabic; and thus the learning of the West was made accessible to the Muslim world. Nor were their efforts confined to the reproduction of ancient works; in some directions they extended also to original research. An Observatory, reared on the plain of Tadmor, furnished materials for the successful study of astronomy and geometry. In other walks of literature, we have books of Travel and History, and, above all, of Medicine; while much attention was paid to the less practical, but more popular, branches of astrology and alchemy. It was through the labours of these learned men that the nations of Europe, then shrouded in the darkness of the Middle Ages, became again acquainted with their own proper but forgotten patrimony of Grecian science and philosophy”.وفى مادة “EGYPT” من “The International Standard Bible Encyclopedia” نقرأ أن مصر بعدما وصلت إلى أشد درجات الافتقار أصبحت فى ظل الحكم العباسى أغنى بلد حول البحر المتوسط. وبطبيعة الحال كان المأمون والمعتصم، الذى تصور الكاتبة عصره هو أيضا بصورة قاتمة، خليفتين عباسيين. أى أن مصر فى عصريهما كانت بلدا مزدهرا. وهذا هو النص فى لغته الإنجليزية: “By about 800 AD a strong government was established from Bagdad, and Egypt rapidly advanced. In place of being the most impoverished country it became the richest land of the Mediterranean. The great period of medieval Egypt was under the guidance of the Mesopotamian civilization, 800-969 AD”.كذلك هل القضية التى أثارتها الكاتبة فى روايتها وأبرزتها إبرازا عنيفا، وهى الظلم الذى يقال إن بعض ولاة مصر بعيدا عن أعين الدولة والخلافة قد أوقعوه بالمصريين فى جمع الخراج، هل هذه القضية هى مما يناسب السياق الحالى فى بلادنا أو فى أى بلد إسلامى؟ إن المسلمين الآن فى مصر مثلا يسمعون من كثير من نصارى البلاد أنهم أجانب عن المحروسة وعليهم أن يعودوا من حيث أَتَوْا، وهو ما بدأت مقدماته بقوة منذ أوائل السبعينات من القرن المنصرم، فلماذا لم توح تلك الدعوة الإجرامية إلى الكاتبة برواية تعالج أسبابها؟ وهل تأكدت الكاتبة من أن المصريين قد أسلموا فى ذلك العصر، كما تقول الرواية، هربا من الخراج (ص183 مثلا)؟ ترى على أى مصدر اعتمدت فى هذا الكلام الغريب؟ بطبيعة الحال على المصادر النصرانية. فهل محصت هى هذا الكلام وتيقنت أنه حق لا ريب فيه؟ أم تراها تبنته ورددته بعُجَره وبُجَره دون أى اهتمام بمدى صدقه أو كذبه أو حتى مبالغاته؟وفى صفحة 151 وما يليها يلاحظ القارئ انتشاء الكاتبة العارم بتعديد ألوان الظلم الخراجى المبالغ فيها على نحو مضحك، حتى ليزعم الراوى أن الحال قد وصل بالمصريين إلى أنْ قد نَهَشَ أحد الرجال جسد فتاة صغيرة حية بسبب الجوع والفقر الناشئين من كثرة الخراج المفروض عليه وعلى أمثاله، وأن مشاهدة البشمورى لهذا المنظر هو الذى أيقظ ضميره ودفعه إلى ترك العمل جابيا للأموال مع الوالى المسلم (الذى يستأهل طبعا الحرق بالنار)، وإلى التمرد على الدولة وظلمها الفاحش، وتجميع الثائرين حوله ومنازلته لجيوش الخلافة، إذ تقول الرواية إنه كان يسير ذات يوم عائدا إلى داره فإذا به يسمع، بين أعشاب الحلفاء فى مستنقع من المستنقعات التى تنتشر فى بلاده، أنينا واهنا لطفلة صغيرة تترجى شخصا يصرخ فيها بعنف وغلظة، فنزل عن دابته واتجه إلى ناحية الصوت ليجد رجلا متوحشا ينهش بأنيابه من لحمها. وكان قد أكل ذراعيها وفخذيها والمواطن الطرية منها دون أن يلين له قلب لتوسلاتها واسترحاماتها، فانقض البشمورى على الرجل وانتزع الصبية منه وهى بين الحياة والموت، ثم أجهز عليه “بحلول بركة الله وقوته فى ذراعيه” رغم أن الكاتبة قالت قبيل ذلك إن الرجل المتوحش كان ضعيفا واهنا، أى أن انهزامه أمام البشمورى أمر ليس فيه أية غرابة ولا يحتاج إلى عون إضافى من السماء، بل رغم أن الضعيف الواهن لا يمكنه نهش لحم بنتٍ يفترض أنها بعافيتها وتستطيع أن تدفعه عن نفسها. ثم إن البشمورى قد عالجها ورباها حتى بلغت فتزوجها فى الكنيسة، واضعا خاتم الزواج فى إصبع قدمها لفقدانها يديها، وهو ما أثار قلوب الحاضرين وفجر الدمع من عيونهم جميعا بما فيهم القسيس الذى قام بتزويجهما وهو يُجْهِش بالبكاء… إلى آخر هذا الفلم الهندى المتخلف الذى لا أستطيع أن أدرى كيف واتت المؤلفة نفسها على نقله عن “تاريخ البطاركة” لساويرس بن المقفع المفعم بالخرافات والأضاليل (انظر تاريخ مصر من بدايات القرن الأول الميلادى حتى نهاية القرن العشرين من خلال مخطوطة “تاريخ البطاركة” لساويرس بن المقفع/ إعداد وتحقيق عبد العزيز جمال الدين/ مكتبة مدبولى/ 2/ 403).إننا كثيرا ما نسمع من بعض الشخصيات النصرانية المصرية هذه الأيام، هنا وفى المهجر، أن نصارى المحروسة يبلغون عشرين مليونا أو أكثر رغم ما يعرفونه هم قبل غيرهم من أنهم لا يزيدون عن خمسة أو ستة بالمائة على أكثر تقدير، وهو ما تقوله كل المصادر والمراجع حتى الغربى منها ككتاب إدوارد وليم لين عن المصريين المحدثين وعاداتهم وتقاليدهم: “An Account of the Manners and Customs of the Modern Egyptians”، أو كتاب مسز بوتشر عن تاريخ الأمة القبطية، الذى ترجمه النصارى أنفسهم ونشروه فى بداية القرن الماضى، أو كتاب “Égypte depuis la conquète des Arabes jusqu’à la domination de Méhémet Aly” لعدد من المؤلفين الفرنسيين، حسبما بينت فى بعض دراساتى السابقة، وكذلك المؤسسة الأمريكية التى أعلنت هذه النسبة منذ عدة شهور، ودعنا من إحصاءات السكان التى كانت تقوم بها دولة الاحتلال البريطانى، ومع هذا لم يرعو من يكذبون ويبالغون فى تلك النسبة مبالغة لا تدخل العقل ولا تراعى الذوق، ويتخذون من ذلك مسوغا للتوسع غير المفهوم ولا المقبول فى بناء الكنائس التى لا يؤمها أحد لا لشىء سوى التحرش بالمسلمين واستفزازهم، فضلا عن هتافهم جهارا نهارا ومن قلب الكاتدرائية ذاتها بقادة الصهاينة الأوباش المجرمين أن يأتوا ويحتلوا مصر، فى الوقت الذى لا يقول المسلمون المصريون أبدارغم الأغلبية الكاسحة الماسحة التى يتمتعون بها إنه ينبغى اقتلاع النصرانية أو ترحيل أتباعها من البلاد، بل كل ما يقولونه هو أن النصارى كافرون مثلما يقول النصارى عنهم إنهم هم الكافرون، وهو ما لا ينبغى أن يثير حفيظة هؤلاء أو أولئك، إذ إن ما يؤمن به أحد الفريقين يناقض ما يعتقده الفريق الآخر، فمن الطبيعى أن يرى كل من الطرفين أن الطرف الثانى كافر بما يؤمن هو به. بل إنهم لا يفكرون فى استخدام سلاح المقاطعة الاقتصادية، التى يستطيعون عن طريقها أن يقصموا ظهر الطرف الآخر الذى بيده مقاليد جزء ضخم من اقتصاديات البلاد، وهم عليها قادرون لو أرادوا، مما يدفع بالإنسان إلى الخوف من أن يأتى اليوم الذى يندم المسلمون على هذا كله ندما لا يمكن تداركه لأن الأوان سيكون قد فات منذ زمن طويل. وخَلِّهِْْم نائمين فى المجارى يشخرون، والطرف الآخر يسن لهم السكاكين، وهم ولا هم هنا!ومع هذا نسمع فى كل مكان الاتهامات الباطلة المبطلة لهم من قِبَل النصارى بالتعصب والاضطهاد مع كل ما تغدقه الدولة على هؤلاء من تدليل وما تعاملهم به من خوف (أو “تواطؤ” كما يقول كثير من المسلمين) فلا تستطيع (أو “لا تريد”) أبدا أن تطبق قوانين الطوارئ عليهم ولا أن تزج بأحد منهم فى المعتقلات فى الوقت الذى يقبع فيها عشرات الآلاف من المسلمين، كما لا يمكنها أن تفكر فى إغلاق كنائسهم مثلما تفعل بالمساجد عقب كل صلاة، دعك من أنها لا يخطر فى بالها مجرد التفكير فى اقتحامها أو أن تمس أحدا ممن يتظاهرون بداخلها ويقذفون رجال شرطتها بالحجارة ويسبونهم أقذع سباب داعين أمريكا وإسرائيل إلى احتلال البلاد، على حين يحرّم القانون على المسلمين التظاهر فى مساجدهم حتى ولو تضامنا مع إخوانهم المظلومين المحاصرين فى غزة أبشع حصار وأشنع ظلم عرفه التاريخ. ويستطيع القارئ أن يقيس الماضى على الحاضر.وحتى لو كان ما تقوله الرواية قد حدث على النحو الذى صورته الكاتبة، وكان دخول النصارى الإسلام راجعا إلى ثقل الخراج مع أن الخراج لم يشكل فى يوم من الأيام أى عبء على أحد لأنه فى واقع الأمر مبلغ تافه كما هو معروف، ويقابله عند المسلمين إخراج الزكاة والانخراط فى الجيش مما لا يجب شىء منه على النصارى، فهل شكا لها أحفادهم الحاليون (الذين هم أنا وأنت وهو وهى أيها القارئ الكريم) مما حدث آنذاك وقالوا لها إنهم يريدون العودة إلى دين أجدادهم الأصلى؟ ولماذا صورت النصارى كلهم تقريبا على أنهم ملائكة أطهار، وخصت المسلمين بالعيوب إلا الشاذ النادر الذى لا يقاس عليه؟ وهل كان حكم المسلمين فى مصر فى تلك الفترة بهذا السوء؟ ومن الذى اختار لها تلك الفترة، وهى فترة تاريخية لا يعرفها إلا المتخصصون فى تاريخ مصر؟ ومن الذى نبهها إلى المراجع النصرانية التى تعالج تلك الفترة وتشوه سيرة المسلمين والإسلام؟ ذلك أن الكاتبة غير متخصصة فى هذا الموضوع. من هنا يمكننا أن نفهم مغزى ما قرأتُه فى أحد المواقع التى تعلن عن الترجمة الإنجليزية للرواية (IPM- International Publishers Marketing) من أنها قد لقيت ترحيبا هائلا لأنها فتحت الباب فتحًا لمعالجة بعض الجوانب المهملة فى التاريخ المصرى الوسيط: “Hailed as a groundbreaking treatment of otherwise neglected aspects of medieval history”، أو فى موقع “the tanjara” بتاريخ 27 أكتوبر 2008م من ثناء شديد أغدقته إحدى اللجان التى عُهِد إليها النظر فى الروايةِ وترجمتِها على شجاعة الكاتبة فى استكشافها علاقة مصر المعقدة بمواطنيها النصارى فى القرن التاسع الميلادى: “Bakr’s courageous novelistic exploration of Egypt’s complex relationship with its Christian (Coptic) community during the 9th century AD”.وبسبب حرص الكاتبة على تصوير النصارى فى معظم الأحيان تصويرا رومانسيا حالما كنت أحس أننى أقرأ لساويرس بن المقفع لا لمصرية مسلمة من عصرنا. ودعنا من أن ذلك قد تم على لسان الراوى، الذى كان قد أسلم قبل ذلك بزمن غير قصير، لكنه يتكلم ويتصرف طوال النصف الأول من الرواية وكأنه لا يزال نصرانيا حتى إن القارئ لا يتنبه أبدا إلى أن من يحكى له وقائع الرواية ويحكم على أشخاصها ويقيّم تصرفاتهم وأفكارهم وكلامهم هو شخص مسلم. فما دلالة هذا؟ كذلك يلاحظ القارئ حرص الكاتبة على إنطاق بدير الرواى وثاونا رفيقه فى الرحلة بنصوص الكتاب المقدس كما هى فى ذلك الكتاب وكأنهم أشخاص مسلمون يستشهدون بالقرآن. ومعروف أن موقف الكتابيين من كتابهم يختلف عن موقف المسلمين من القرآن المجيد، فكثير من المسلمين يحفظون قرآنهم عن ظهر قلب، وهو تقليد لا يعرفه أهل الكتاب، ومن ثم فليس من عادتهم ولا فى مقدروهم أن يسوقوا نصا كتابيا طويلا كما يصنع كثير من المسلمين. ومن هنا فإن القسيس حتى فى صلاته يوم الأحد مثلا يضطر إلى القراءة من كتاب دينه ولا يعتمد على ذاكرته كما يفعل أى شيخ فى صلاة الجماعة على ما هو معروف. ثم مَنْ مِنَ النصارى يا ترى كلما سعل أو بصق أو التفت يَمْنَةً أو يَسْرَةً يستشهد على ما يفعل بنصوص العهد الجديد أو القديم كما تفعل شخصيات الرواية النصرانية؟ترى هل ما صنعته الكاتبة فى روايتها مما يقوى الوحدة الوطنية التى يتداعى إليها الكثير من المسلمين هذه الأيام، على حين يصر كثير جدا من رجال الدين على الطرف الآخر على الزعم الإجرامى الكاذب بأن المسلمين فى مصر ما هم إلا عرب غزاة لا ينتمون إلى أرض النيل، وينبغى بناء عليه أن يعودوا من حيث أتَوْا، أى إلى “جزيرة المعيز” حسبما يقول الأوباش من نصارى المهجر، يقصدون بلاد العرب؟ أم هل هو مما يملى للمتطرفين منهم بمواصلة تحدى المصريين المسلمين والتساخف عليهم والتباذؤ فى حقهم؟ وهلا كتبتْ رواية عن خروج النصارى المصريين على مقتضيات الأخوة الوطنية أيام الاحتلال الفرنسى أوائل القرن 19 مثلا؟ أم هلا خصصتْ رواية لما فعله الصليبيون عند دخولهم القدس وتذبيح عشرات الألوف من المسلمين الأبرياء؟ أم هلا خصصتْ رواية لمحاكم التفتيش فى الأندلس؟ أم هلا خصصتْ رواية لاضطهاد النصارى فى مصر قبل الإسلام للوثنيين وتحويلهم معابدهم إلى كنائس؟ أم هلا خصصتْ رواية لتعصبهم المفرط وتقتيلهم من لم يخضع للكنيسة كلما شاموا قوة فى أنفسهم كما فعلوا مع هيباتيا على سبيل المثال، إذ جَرُّوها على الرصيف جَرًّا وحشيًّا فسلّخوا جلدها، ثم مزقوا جسدها تمزيقا، مما فصل القول فيه المؤرخون والأدباء انتهاءً بالدكتور يوسف زيدان فى روايته: “عزازيل”؟ أم هلا خصصتْ رواية تدافع بها عن بنات جنسها من السيدات النصرانيات اللاتى اختطفهن الكنيسة ووثقتهن بالأغلال أو قتلتهن فى الأديرة حسبما نسمع لأنهن رأين أن يسلمن بمحض إرادتهن كوفاء قسطنطين مثلا؟ والآن أمام السيدة المؤلفة، بل تحت سمعها وبصرها ولا تحتاج من ثم أن تذهب فتقرئى فى الكتب القديمة، أمامها قضية كاميليا شحاتة، بل ملحمتها الجبارة التى أثبتت فيها تلك السيدة العظيمة أنها بطلة من عيار نادر. ثم هى امرأة مثل المؤلفة، ولا بد أن تتعاطف معها. فهل ستكون على مستوى الاحداث وتكتب ملحمة تلك السيدة المؤمنة؟ أم هل ستتخَلي عنها كما تخلى الجميع تقريبا، وتخيب الظن فيها؟ هذا هو السؤال.لقد اتخذت الكاتبة وجهة نظر النصارى: فى تسمية المتمردين فى شمال الدلتا بـ”البشموريين”، وفى الإكثار من استخدام مصطلحاتهم، وفى تحليلهم للحوادث، وفى إجراء الرواية على لسان خادم سابق من خدمة الكنيسة ينطلق من منطلق نصرانى رغم أنه، كما سبق أن أوضحت، قد أسلم فى منتصف الرواية، إذ نجده مستمرا فى النظر إلى الأشياء والوقائع والأشخاص والأفكار والأديان من زاوية نصرانية، وهو ما يثير العجب والاشتباه. ومما يلفت النظر فى هذا السياق أن المؤلفة لم تذكر مثلا ثورة نصارى البشمور على عدد من أساقفتهم فى تلك الفترة طبقا لما كتبه فى هذا الصدد ساويرس بن المقفع ذاته فى كتابه: “تاريخ البطاركة”. ولا أريد أن أقول إننى أخشى أن يكون مردّ ذلك إلى سياسة تلميع صورة النصارى وتشويه صورة المسلمين بوجه عام.وهذا نصّ ما سجله ابن المقفع فى كتابه عن الثورة المذكورة بأسلوبه الركيك المملوء بالأخطاء، وإن كنت قد أَثْبَتُّ الهمزات ونَقَّطْتُ التاءات المربوطة وشكّلتُ كثيرا من الكلمات والحروف واستخدمت علامات الترقيم، وهو ما لا وجود له فى الكتاب. قال: “كان أسقفٌّ على كرسى تنيس اسمه إسحاق، وكان شعبه قد سعى به دفعات بكلام ردىء، وقالوا للأب يوساب: إذا لم تقطع هذا الأسقف وتُزِلْه عنا، وإلا خرجنا عن دين الأرتدكسية. وكان أيضا بمصر أسقف آخر اسمه تادروس قد ذكر شعبه عنه مثل هذا، وكتبو المصريون إلى البطرك يقولون له: إن لم تقطعه وتبعده عنا، وإلا رجمناه وقتلناه. فلما نظر البطرك القديس قيام الشعب حزن جدا وقلق وقال: ما الذى فى هذا البلاء؟ وكان يدعو ويقول: يا رب، ثَبِّتْ شعبك لرُعَاتهم، ولا تَدَعْ فى أيامى بغضا. ولم يفتر من مكاتبة الشعب فى تنيس ومصر المدينتين ويقول من قول بولس: ما تفرحون أنتم إذا اعتللنا نحن، وتكونون أنتم أقويا. هذا الذى أدعوه من أجلكم لتخلصو وأكاتبكم به، ولا أحضر عندكم كأننى حاضر عندكم، ولا أصنع حَرْمًا ومنعا، كما أمرنى الرب أن أبنى ولا أهدم. وبقى الشعب متمادين على فعلهم يقولون بقول واحد ولا يتغيرون عنه: أنه إن لم ينقطع هذان الأسقفان، وإلا فما بقى منا إنسان واحد فى الأمانة الأرتدكسية، بل نعود إلى المخالفين، وأنت المطالَب عنا. فلما سمع هذا أسرع إلى تنيس وسألهم أن يعودو عن غضبهم، فلم يفعلو، بل زادو فى غضبهم، وكذلك مدينة مصر مع أسقفهم. فلما رأى ذلك أنفذ وأجمع الأساقفة من كل موضع وعرّفهم الخبر وقال لهم: أنا برى من هذا، وأنتم كذلك. أخيرا نكتب ونمنع الأسقفين: إسحق أسقف تنيس، وتادرس أسقف مصر، وحطوهما عن كرامتهما وأبعدوهما عن الأسقفية. ولم يتخلّ أبونا الرَّحُوم من دوام الصلاة وسكب الدموع الغزيرة والتنهد على قطع هذين الأسقفين” (تاريخ مصر من بدايات القرن الأول الميلادى حتى نهاية القرن العشرين من خلال مخطوطة “تاريخ البطاركة” لساويرس بن المقفع/ 2/ 818 وما بعدها). لقد كان بمقدروها أن تدير روايتها على المظالم البشعة التى كانت الدولة الرومانية لا تعرف سواها فى تعاملها مع المصريين قبل الفتح الإسلامى. وقد عرفت مصر ثورات غير قليلة ضد الظلم الرومانى، ومنها تلك الثورة التى انفجرت فى ذات المناطق التى اشتعل فيها تمرد البشموريين، وهى مناطق شمال الدلتا. وعنها يقول د. حسين فوزى فى كتابه: “سندباد مصرى”: “وفى عهد مرقس أوريليوس قيصر الفيلسوف الرواقى المشهور (161- 180م) تنشب ثورة مصرية فى برارى الدلتا وبحيراتها تزعمها الكاهن إيزيدورس، وقام بها على رأس الفلاحين بمنطقة شرقى الإسكندرية تعرف باسم “بوكوليا”، أى مرعى البقر، وكسر الجند الرومانى وبلغ أبواب الإسكندرية، فأنفذ إليهم الإمبراطور جحافله الرومانية التى تحتل سورية بقيادة حاكمها فقضى على الثورة بالحيلة والوقيعة بين الثوار” (د. حسين فوزى/ سندباد عصرى/ ط3/ دار المعارف/ 1990م/ 127). وبعد هذا بقليل يورد فوزى نص ما كتبه البابا إثناسيوس عام 356م فى وصف واحدة من فظائع الرومان، الذين لم يشفع للمصريين اتحادهم معهم فى الدين أن يعامَلوا على أيديهم بشىء من الإنسانية. يحكى بابا الإسكندرية ما وقع لَدُنْ حصار كنيسة العذراء بتلك المدينة من قبل آلاف الجنود الرومانيين وقت الغروب: “أما أنا فجلست على الكرسى الخاص بى وأوعزت إلى الشماس أن يتلو المزمور السادس والثلاثين بعد المائة، وكان المصلون يرددون قائلين: “هو الرحيم إلى أبد الآبدين”. وحان وقت الانصراف، وكان الظلام قد بدأ يهوى على خارج الكنيسة، وشرع العسكر يطرقون أبوابها طرقا عنيفا… ثم فتحوا الباب عَنْوَةً. واقتحم الجيش الرومانى الكنيسة، ورجاله يزعقون كمن فتحوا مدينة حصينة. وكانت سيوفهم تلمع فى ضوء أَسْرِجَة الكنيسة، واندفعوا كالسيل الجارف متجهين إلى حيث أجلس، فوقفت وأمرت الناس أن ينجوا بأنفسهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ولكن بعضهم حاول اعتراض الجند فى طريقهم إلىَّ، فذبحهم الجنود ذبحا وداسوهم بأقدامهم وتعقبوا الفارّين منهم. وألح القساوسة علىَّ كى أنجو بنفسى، فأَبَيْتُ قائلا: ليست نفسى أعزّ علىَّ من نفوس الآخرين. وكنت موقنا بأن ثباتى فى مكانى أمام الساعين إلى حتفى سيجعل الجنود ينصرفون إلى شخصى ويتركون الآخرين، فعوّلتُ أن أبقى حتى ينجو الشعب… ولما انصرف أكثر الناس جاء الرهبان مع من تخلفوا من القساوسة وحملونى خارجا” (المرجع السابق/ 128).والآن لا بد أن نورد وجهة النظر الإسلامية فيما وقع على عهد المأمون وصورته الكاتبة على نحو يوحى بأن المسلمين وحوش مفترسة. قال ابن القيم فى كتابه: “أحكام أهل الذمة” (تحقيق يوسف بن أحمد البكرى وشاكر توفيق العارورى/ رمادى للنشر/ 1418 هـ- 1997م/ ج1): “وأما المأمون فقال عمرو بن عبد الله الشيبانى: استحضرنى المأمون فى بضع لياليه ونحن بمصر فقال لى: قد كثرت سعايات النصارى، وتظلم المسلمون منهم وخانوا السلطان فى ماله. ثم ثال: يا عمرو، تعرف من أين أصل هؤلاء القبط؟ فقلت: هم بقية الفراعنة، الذين كانوا بمصر، وقد نهى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن استخدامهم. فقال: صف لى كيف كان تناسلهم فى مصر. فقلت: يا أمير المؤمنين، لما أخذت الفُرْس المُلْك من أيدى الفراعنة قتلوا القبط، فلم يبق منهم إلا من اصطنعته يد الهرب واختفى بأنصنا وغيرها، فتعلموا طبا وكتابة، فلما ملكت الروم مُلْك الفُرْس كانوا سببا فى إخراج الفرس عن ملكهم، وأقاموا فى مملكة الروم إلى أن ظهرت دعوة المسيح… وبقى فى نفس المأمون منهم. فلما عاد إلى بغداد اتفق لهم مجاهرة فى بغداد بالبغى والفساد على معلمه على بن حمزة الكسائى…”.وعلى أية حال لم يكن المسلمون على النحو الذى صورته المؤلفة، كما لم يكن النصارى ملائكة أطهارا كما تحاول إيهامنا. ولقد كتب ابن القيم فى كتابه: “أحكام أهل الذمة” عن بعض أفعال النصارى فى العصور القديمة، فقال مثلا عما صنعوه بالمسلمين أيام الخليفة العباسى الآمر بالله: ” وكذلك فى أيام الآمر بالله امتدت أيدى النصارى وبسطوا أيديهم بالجناية وتففنوا فى أذى المسلمين وإياصل المضرة إليهم، واستعمل منهم كاتب يُعْرَف بالراهب، ويلقَّب بالأب القديس، الروحانى النفيس، أبى الآباء، وسيد الرؤساء، مقدم دين النصرانية، وسيد البتركية، صفىّ الرب ومتاره، ثالث عشر الحواريين، فصادر اللعين عامة من بالديار المصرية من كاتب وحاكم وجندى وعامل وتاجر، وامتدت يده إلى الناس على اختلاف طبقاتهم، فخوّفه بعض مشايخ الكتّاب من خالقه وباعثه ومحاسبه، وحذره ن سوء عواقب أفعاله، وأشار إليه بترك ما يكون سببا لهلاكه. و كان جماعة من كتّاب مصر وقبطها فى مجلسه، فقال مخاطبا له ومسمعها للجماعة: نحن ملاّك هذه الديار حربًا وخَرَاجًا، ملكها المسلمون منا وتغلبوا علينا وغصبوها واستملكوها من أيدينا، فنحن مهما فعلنا بالمسلمين فهو قبالة ما فعلوا بنا، ولا يكون له نسبة إلى من قُتِل من رؤسائنا وملوكنا فى أيام الفتوح، فجميع ما نأخذه من أموال المسلمين وأموال ملوكهم وخلفائهم حِلٌّ لنا، وبعض ما نستحقه عليهم. فإذا حملنا لهم مالا كانت الـمِنَّة عليهم. وأنشد:بِنْت كَرْمٍ غصبوها أمّها * فأهانوها، فدِيسَتْ بالقَدَمْثم عادوا حكّموها فيهمو * ولناهيكَ بخصمٍ يحتكمْفاستحسن الحاضرون من النصارى والمنافقين ما سمعوه منه، واستعادوه وعضوا عليه بالنواجذ حتى قيل إن الذى اختاطّ عليه اللعين من أملاك المسلمين مائتا ألف واثنان وسبعون ألفا ما بين دار وحانوت وأرض بأعمال الدولة إلى أن أعادها إلى أصحابها أبو على بن الأفضل، ومن الأموال ما لا يحصيه إلا الله. ثم انتبه الآمر من رقدته، وأفاق من سَكْرته، وأدركته الحميّة الإسلامية، والغيرة المحمدية، فغضب لله غَضَبَ ناصرٍ للدين، وبارٍّ بالمسلمين، وألبس الذمة الغيار، وأنزلهم بالمنزلة التى أمر الله أن ينزلوا بها من الذل والصَّغار، وأمر ألا يُوَلَّوْا شيئا من أعمال الإسلام وأن ينشئوا فى ذلك كتابا يقف عليه الخاص والعام…”.وفى عهد الملك الصالح أيوب حدث ما يلى طبقا لما قصه علينا ابن القيم أيضا فى الكتاب المذكور، إذ قال: “ولو علم ملوك الإسلام بخيانة النصارى الكتاب، ومكاتبتهم الفرنج أعداء الإسلام، وتمنيهم أن يستأصلوا الإسلام وأهله، وسعيهم في ذلك بجهد الإمكان، لَثَنَاهُمْ ذلك عن تقريِبهم وتقليدهم الأعمال. وهذا الملك الصالح أيوب كان في دولته نصراني يسمى محاضر الدولة أبا الفضائل بن دخان، ولم يكن فى المباشرين أمكن منه. وكان المذكور قذاةً في عين الإسلام، وبثرة في وجه الدين. ومثالبه في الصحف مسطورة، ومخازيه مخلدة مذكورة، حتى بلغ من أمره أنه وقَّع لرجل نصراني أسلم برده إلى دين النصرانية، وخروجه من الملة الإسلامية. ولم يزل يكاتب الفرنج بأخبار المسلمين وأعمالهم وأمر الدولة وتفاصيل أحوالهم. وكان مجلسه معمورا برسل الفرنج والنصارى، وهم مكرمون لديه، وحوائجهم مقضية عنده، ويحل لهم الأدرار والضيافات وأكابر المسلمين محجوبون على الباب لا يؤذن لهم، وإذا دخلوا لم يُنْصَفوا في التحية ولا في الكلام. فاجتمع به بعض أكابر الكتاب فلامه على ذلك وحذره من سوء عاقبة صنعه، فلم يزده ذلك إلا تمردا. فلم يمض على ذلك إلا يسير حتى اجتمع في مجلس الصالح أكابر الناس من الكتاب والقضاة والعلماء، فسأل السلطان بعض الجماعة عن أمر أفضى به إلى ذكر مخازي النصارى، فبسط لسانه في ذلك، وذكر بعض ما هم عليه من الأفعال والأخلاق، وقال من جملة كلامه: إن النصارى لا يعرفون الحساب ولا يدرونه على الحقيقة لأنهم يجعلون الواحد ثلاثة، والثلاثة واحدا… ثم قال: كيف تأمن أن يفعل في معاملة السلطان كما فعل في أصل اعتقاده، ويكون مع هذا أكثر النصارى أمانة، وكلما استخرج ثلاثة دنانير دفع إلى السلطان دينارا، وأخذ لنفسه اثنين، ولا سيما وهو يعتقد ذلك قربة وديِانة؟ وانصرف القوم. واتفق أن كَبَتْ بالنصراني بِطْنته، وظهرت خيانته، فأريق دَمُه، وسُلِّطَ على وجوده عَدَمُه”.على أن هناك اعتبارا آخر يتصل بالطريقة التى تم بها سرد أحداث الرواية، ألا وهو أن الراوى يسوق لنا تفصيلات كثيرة بعد وقوعها بسنين طويلة، وهو ما لا يقتنع العقل معه بأن أحداث الرواية كانت لا تزال محفوظة فى ذاكرته كما وقعت بكل تفصيلاتها وألفاظها وأشخاصها وأماكنها لا تخرم منها شيئا. فعلى سبيل المثال نرى الراوى حريصا على ذكر تاريخ كل حجر أو سُلَّمة فى الكنيسة التى كان يشتغل قيما بها فى أول الرواية، متذكرا اسم كل شخص أهداها لها والظروف التى تم الإهداء فيها، بالإضافة إلى كل إناء من الأوانى الكنسية وكل ملبس من ملابس الكهنة مع ذكر وظيفته ودلالته (ص10- 14 مثلا). واضح أن المؤلفة هى التى تتكلم هنا، وكأنها تقول لنا: أنا أعرف موضوعى جيدا، وقرأت عنه قراءة مفصلة مستوعبة لم تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها وأَوْرَدَتْها. ودليلا على ذلك نرى الراوى يشرح لنا الألفاظ الكنسية على نحو يدل دلالة واضحة لا تخطئها الأذن على أنه يتجه بكلامه إلينا نحن القراء المسلمين الذين يجهلون هذا كـ”التونية” مثلا، وهى “ثوب الكتان الطويل الواصل حتى القدمين، والمزين بالصليب المقدس على الظهر والصدر والحواف، وكذا أطراف الأكمام. وكانت تونية الأب يوساب هى الوحيدة المطرزة صلبانها بالجواهر الكريمة من ياقوت وزمرد وماس وعقيق، بينما تونيات الإكليروس جميعا قد طرزت من خيط حرير كما هو متبع دائما” كما جاء فى كلامه نصا (ص13). فالكاتبة هى التى تتكلم كما قلنا، إذ إن بدير فى كلامه لنفسه، أو حتى فى كلامه إلى أبناء دينه وعصره أيام كان لا يزال نصرانيا لم يتحول إلى الإسلام بعد، لم يكن بحاجة إلى مثل هذا الشرح لأنه وإياهم كانوا يعرفون تماما ما هى التونية.ولتحقيق المزيدمن الفائدة، ولكيلا أبدو مقصرا عن السيدة المؤلفة، هأنذا أسوق ما يقوله “قاموس الكنيسة” (الموجود فى “موسوعة الكتاب المقدس” الضوئية فى إصدارها الرابع) عن هذا المصطلح الكنسى. تقول المادة التى تحمل اسم “تونية” فى ذلك القاموس: “تونية باليونانية (ό χiτών)، وبالإنجليزية (dalmatic, tunic, shirt): ربما كانت اللفظة “تونية” من الكلمة اللاتينية “tunica” (تونيكا). أما الاسم الدّارِج عند الأقباط فهو “كولوبيون”، ومنها جاءت كلمة “جلابية” باللغة العربية. و”الكولوبيون” هي تونية، ولكن بأكمام قصيرة مُثَبَّتة فيها، بينما أن أكمام التونيه طويلة يمكن تركيبها أو فصلها من التونية. ويستخدم السريان تونية بيضاء مثل الأقباط واليونانيين، ويطلقون عليها اسم “kutina” (كوتينة- كوتينا). وهو اسم مُشتق من الكلمة اليونانية “خيوتونيون” حسب قول Renudot. والأرمن يطلقون عليها اسم “Shapich”. وهي تُعرَف في الكنيسة اليونانية باسم “إستيخارة”. وتُعرَف في الغرب باسم “Alb”، وهي في اللاتينية “L’aube”. والتونية رداء أبيض من الكتان أو الحرير يصل من الرقبة إلى رسغ القدم، ويرتديها الشمّاس أو الكاهن أو الأسقف. ولكنها للأسقف ذو أكمام يمكن تثبيتها أو رفعها. وفي الغرب لها حزام حول الخاصرة يرتديه الخدام أثناء القداس الإلهي. وهي بلونها الأبيض تمثل الطهارة والنقاوة حين يرتديها الخدام سائلين الرب قائلين: “قلبًا نقيًّا اخْلُقْ فيَّ يا ألله”. وقد عرفتها الكنيسة الشرقية والغربية كقميص تحتي “under tunic” عادي يرتديه العامة. وقد استُخدِمَت في العبادة المسيحية منذ زمن مبكر. ولكنها لم تصبح رداءً كنسيًّا رسميًّا إلا في بداية القرن الخامس مثل بقية الملابس الكهنوتيّة. وتُزَيَّن التونية بالصلبان، وعند الأطراف بُحلى وبألوان لبعض المشغولات، وتُسمى: apparels”.إلا أن هناك مشكلةً ما كان أغنى المؤلفة، وما كان أغنانا نحن أيضا معها، عنها والمعاناة فنيا منها. ذلك أن الثوب الكنسى الذى يتحدث عنه بدير لم يكن فى ذلك الوقت يسمى: “تونية”، إذ من الواضح، كما رأينا فى الشرح المار لتوه، أن اسم ذلك الثوب هو تعريب لكلمة أجنبية ربما كانت هى الكلمة اللاتينية “tunica” كما قرأنا فى المادة الخاصة به فى قاموس الكنيسة. فهل كانت تلك الكلمة قد عُرِّبَتْ فى ذلك الوقت المبكر؟ بل هل كانت هى الكلمة المستعملة بين النصارى حينئذ؟ ذلك أن الشرح الذى أوردناه لتونا يذكر أن الاسم الدّارِج لها عند الأقباط هو “كولوبيون”، وأنها لم تصبح رداءً كنسيًّا رسميًّا إلا في بداية القرن الخامس مثل بقية الملابس الكهنوتيّة، أى بعد أحداث الرواية بثلاثة قرون تقريبا.ليس ذلك فحسب، بل إن الرواية مملوءة بوصفات الأطعمة والأشربة والأدوية مغرقة فى دقائق الدقائق، مما لا يمكن أن يظل الراوى متذكرا إياه بعد كل هاتيك الأعوام الطوال، ومع ذلك نفاجأ بأن ذهنه كمبيوتر يابانى. صحيح أن الكمبيوتر اليابانى قد خرج أول من أمس من مسابقة كأس العالم حين فشل أحد لاعبيه فى تسديد ركلته الترجيحية وبكى بدموعٍ حِرَارٍ وغِزَارٍ خَشِيتُ والله معها أن يقوم بغرس السيف فى بطنه وإخراجه من ظهره أمامنا على شاشة المرناء على طريقة اليابانيين (وليس على طريقة المتبلدين ممن يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدى الأمريكيين والصهيونيين دون أن يختلج لهم ضمير بل دون أن يرفّ لهم هُدْب لسماكة جلودهم وتعطل آدميتهم وتلاشى أحاسيسهم. لكن هذه مسألة أخرى تفوّر الدم وتجلب ارتفاع الضغط، ونحن لسنا ناقصين، فلأعد إلى ما كنت بسبيله فأقول إننى خشيت أن يَبْخَع الولدُ اليابانىُّ نفسَه جَرْيًا على تقاليد اليابانيين) عندما يقصّرون فى حق أمتهم ولا يؤدون واجبهم تجاهها كما ينبغى، إلا أنى لا أقصد الكمبيوتر اليابانى البشرى الذى لم يستو تماما عوده فى كرة القدم بعد، وإن كان يسير على الطريق بخطا حثيثة منذ بدا له أن يشارك فى مسابقات كرة القدم العالمية، بل الكمبيوتر الآلى، الذى لا يهنّج ولا ينسى ولا يضطرب أبدا بخلاف شبيهه الصينى والتايوانى.ونظير ذلك أسماء العازفين فى الفرقة التى كان من المنتظر أن تحيى حفل عرس أخى الراوى لولا أن خطيبة الأخ، وهى حبيبة الراوى السابقة، قد انتحرت فانقلب الفرح غما، إذ نرى بدير (ص35- 36) ما زال يذكر أسماء أعضاء الفرقة، فضلا عن تفاصيل الأجور التى اتفق معهم عليها، وكأن الأمر لم يمر عليه سنوات وسنوات وسنوات وقع له فيها أحداث لم تكن تخطر له على بال أخذته من مصر إلى الشام فأنطاكية فالعراق فالشام مرة أخرى فمصر فى نهاية المطاف، وانتقل أثناءها من قَيِّمٍ فى كنسية قصر الشمع إلى أسير إلى خادم فى قصر المأمون ببغداد، كما ترك النصرانية وأصبح مسلما… إلخ. وهذه هى السطور التى نحن بصددها. قال بدير: “رحت أتذكر، وأنا جالس فى مطرحى ذلك، العقد وكيف أخذت، وأنا أبرمه آنذاك، فى مجادلة رئيس الفرقة الموسيقية أونفريس بن آمونيوس الجريكى ليخفض من أجر فرقته حتى وافق على أن يحصل على أربعين زوجا من الأرغفة المصنوعة من البُرّ والحلبة وتسع جِرَارٍ من النبيذ وأربعة أنصاف فضة لكل عازف من عازفيه الذين كانوا معه: تاسيوس وأفونجس بن هيراكليس وكوبروس وآرسينوى”، فضلا عن أورليوس، الذى سيذكره بعد قليل رغم أنهم لم يكونوا من مدينته، بل من مدينة بعيدة، إلى جانب أنهم لم يكونوا مصريين أصلا بل يونانيين.ولدينا كذلك (ص47) وصفة طبية عشبية من وصفات ذلك الوقت لعلاج نوع من الديدان يسمى: “بند”. والكلام فيها لثاونا رفيق الراوى فى رحلته إلى بلاد البشمورى، والخطاب موجه إلى أم صبى قابلاها فى الطريق كان ابنها مصابا بالدودة المذكورة. يقول ثاونا: “إن ولدك هذا مصاب بالدودة الشيطانية المسماة: “بند”، وقد تمكنتْ منه واستقرت فى جوفه، وهى تأكل ما يأكل جميعه. لذا فهو مصفر هزيل. لذلك عليك إعطاؤه شرابا من صمغ السليخ ممزوجا بزهر النعناع الفلفلى مع الصاس الذى يسمونه بلسان العرب الآن: الخروع، على أن يؤخذ قبل التريق بعد رجه جيدا فى القارورة لمدة ثلاثة أيام حتى تموت الدودة وتخرج من جوفه مع ما يخرج من فضلات. وإذا تقايأ مرة فلا تخافى، فهذا من الأمور المعتادة عند تناول مثل هذا الشراب. ومعناه أن الترياق قد بدأ يفنى الدودة، وهى فى سبيلها إلى الموت والنزول. ولو شرب الشيح المغلى قبل النوم كل ليلة فسوف يأتى النفع سريعا ويخلص الولد مما هو فيه”. فيا للعجب أن يظل الراوى متذكرا لكل شىء فى الوصفة بما فيها من عناصر ومقادير ومواعيد ونتائج تفصيلية، وكأنه قد رقن كل هذا على الكاتوب، الذى لا يضل ولا ينسى رغم هاتيك السنين التى مرت جميعها.وهناك ألوان الأطعمة، أو كما نقول اليوم: “أطباق الطعام”، التى تترى أسماؤها ووصفاتها على لسان الراوى كالخشكنانج والسفدية والأسفيذباجة والفالوذج والسكباجات والحنطيات والسلاقات وقلايات الطباهج وإحبارية السمك والمأمونية وجواذب الدجاج وبهطات الأرز والخبز الأفلاعمونى والخبز الماوى… إلخ (ص274). وفى موضع آخر نسمع بدير يصف بالتفصيل، جريا على عادته، كيفية صنع “العكيكة”، وهى لون من الطعام كان يُقَدَّم إلى المأمون، يصنعه له حسين الطباخ من اللحم السمين وإلية الخروف. وفى وصفة الطبق تقابلنا ألوان من الأبازير والتوابل التى تضاف بمقادير غاية فى الدقة وتتطلب شرحا على قدر من التعقيد، كالكمون والفلفل والدارصينى والملح والمصطكى والثوم واللبن الفارسى (ص281). كذلك هناك خريطة بغداد التى رسمها له حسين الطباخ لتساعده على الوصول إلى أشخاص ينتمون مع حسين إلى بعض الجماعات السرية المناهضة للنظام فى عاصمة الإمبراطورية (ص315- 316). وهى خريطة دقيقة لا تناسب ما كانت عليه الخرائط فى ذلك الوقت، فضلا عن أنه من المستبعد أن يستعين الناس آنئذ بالخرائط فى الوصول إلى ما يبغون من أماكن. إننا لا نفعل هذا الآن فى مدننا العصرية، فما بالنا بأجدادنا فى ذلك الزمن البعيد الذى لم أسمع أن أحدا فيه ولا فيما بعده بقرون قد استعان بتلك الأداة فى الاهتداء إلى ما يبغى بلوغه من الأحياء والمبانى فى مدينة كبغداد؟كذلك لا ينبغى أن ننسى الأشعار العربية الكثيرة التى كان الراوى يسمعها مرة واحدة يتيمة فيحفظها فى الحال ولا تغادر ذاكرته أبدا رغم أنه لم يكن عربيا. بل لم يكن وقتذاك يستعمل العربية فى غالب الأحيان. وهنا لا بد أن نذكر ما لاحظناه فى هذه الأشعار من أن الألفاظ مشكَّلة تشكيلا خاطئا مما يدل على ضعف الكاتبة فى قراءة الشعر. ومن تلك النصوص التى التقطتها حافظة راوينا فلم تخرم منها حرفا الأبيات التالية التى ذكر أنه سمع أحد صوفية المسلمين ينشدها لدن إبحاره مع سائر الأسرى البشموريين من تنيس مغادرين الديار المصرية (ص205):أفي كلِّ عام غربة ونزوحُ * أما للنّوى من منيةٍ فتريحُ؟لقد طلح البينُ المشتُّ ركائبي * فلا أرين البينَ وهو طليحُوأرّقني بالري نوح حمامة * فناحتْ، وذو الشجو الحزين ينوحُعلى أنها ناحتْ، ولم تَذْرِ دمعةً * ونُحْتُ، وأسرابُ الدموع سفوحُومنها كذلك الأبيات التالية التى لم ينسبها الرواى إلى شاعر معين كعادته، وهى من بحر الطويل، وصاحبها هو العَكَوَّك الشاعر العباسى، وكان معاصرا للخليفة المأمون:أَلا رُبَّ هَمٍّ يُمنَعُ النَومُ دونَهُ * أَقامَ كَقَبْضِ الراحَتَيْنِ عَلى الجَمرِبَسَطْتُ لَهُ وَجهي لأَكْبِتَ حاسِدًا * وَأَبدَيْتُ عَن نابٍ ضَحوكٍ وَعَن ثَغْرِوَشَوقٌ كَأَطرافِ الأَسِنَّةِ في الحَشَا * مَلَكتُ عَلَيهِ طاعَةَ الدّمعِ أَن يَجريبل إن الأمر ليبلغ مبلغا لا يطيقه العقل، وذلك حين يخبرنا بدير (ص224) أن أمه كانت تغنى أمامه وهو صغير الأبيات التالية. ووجه العجب أن هذه الأبيات لا يمكن أن تكون من نتاج العصر العباسى المبكر الذى تدور أحداث الرواية فيه. كما أن أم بدير لم تكن عربية أصلا، بل لم تكن تعرف العربية حتى تردد شعرا عربيا. تقول الأبيات الغريبة غير المنتظمة عروضيا:صيرنى حزنى على أحبابى * عليلا بلا علةوكاد الأسى والنوح * يخرجنى من الملةودهر يروح يا عين وشوقى * لخلى لا توصف له خلةومع هذا فلا نكران أن لكثير من الشعار التى أوردتها المؤلفة على لسان بدير عُلْقَةً بالقلب. وآخر تلك الأشعار هى الأبيات الثلاثة التى اختتمت المؤلفة بها روايتها، وهى:حسبي اللّه توكّلتُ عليهِ * مَنْ نواصي الخلق طرًّا بيديهِليس للهارب في مهربه * أبدا من راحة إلاّ إليهِرُبَّ رامٍ لي بأحجار الأذى * لم أجد بدًّا من العطف عليهِوعلى عادتى فى التنقيب عن صاحب تلك الأبيات أقول إنها لبهلول المجنون، الذى كان يعيش فى عصر الرشيد. وكتب ابن شاكر الكتبى صاحب “فوات الوفيات”، من أهل القرن الثامن الهجرى، فى ترجمته ما يلى، وهذا الذى كتبه مؤلم أشد الألم: “بهلول بن عمرو، أبو وهيب الصيرفي المجنون، من أهل الكوفة. حَدَّثَ عن أيمن بن نابل وعمرو بن دينار وعاصم بن أبي النجود. وكان من عقلاء المجانين ووسوس، وله كلام مليح ونوادر وأشعار. واستقدمه الرشيد أو غيره من الخلفاء ليسمع كلامه. توفي في حدود التسعين والمائة. قال الأصمعي: رأيت بهلولا قائما ومعه خبيص، فقلت له: أيش معك؟ قال: خبيص. فقلت: أطعمني. قال: هو ليس لي. قلت: لمن هو؟ قال: هو لحمدونة ابنة الرشيد بعثتْه لي آكله لها. وقال محمد بن أبي إسماعيل ابن أبي فديك: رأيت بهلولا في بعض المقابر، وقد أدلى رجليه في قبر، وهو يلعب بالتراب، فقلت: ما تصنع ها هنا؟ قال: أجالس أقواما لا يؤذوني، وإن غبت لا يغتابوني. فقلت: قد علا السعر مرة، فهل تدعو الله فيكشف عن الناس؟ فقال: والله ما أبالي، ولو كان حبة بدينار. لله علينا أن نعبده كما أمرنا، وعليه أن يرزقنا كما وعدنا. ثم صفق يده، وأنشأ يقول:يا من تمتّعُ بالدنيا وزينتها * ولا تنام عن اللذات عيناهُشغلت نفسك فيما لست تدركه * تقول للّه ما ذا حين تلقاهُ؟وقال الحسن بن سهل: رأيت الصبيان يرمون بهلولا بالحصى، فأدمته حصاة، فقال:حسبي اللّه توكّلتُ عليهِ * مَنْ نواصي الخلق طُرًّا بيديهِليس للهارب في مهربه * أبدا من راحة إلاّ إليهِرُبَّّ رامٍ لي بأحجار الأذى * لم أجد بُدًّا من العطف عليهِفقلت له: تعطف عليهم، وهم يرمونك؟ فقال: اسكت. لعل الله يطلع على غمي ووجعي وشدة فرح هؤلاء فيهبُ بعضنا لبعض. وقال عبد الله بن عبد الكريم: كان لبهلول صديق قبل أن يُجَنّ، فلما أصيب بعقله فارقه صديقه. فبينما بهلول يمشي في بعض طرقات البصرة إذ رأى صديقه. فلما رآه صديقه عدل عنه، فقال بهلول:اُدْنُ منّي ولا تخافنَّ غدري * ليس يخشى الخليل غدر الخليلإنّ أدنى الذي ينالك مني * ستر ما ُيتَّقَى وبثّ الجميلقال الفضل ابن سليمان: كان بهلول يأتي سليمان بن علي فيضحك منه ساعة ثم ينصرف. فجاءه يوما، فضحك منه ساعة ثم قال: عندك شيء نأكل؟ فقال لغلامه: هات لبهلول خبزا وزيتونا. فأكل ثم قام لينصرف، وقال لسليمان: يا صاحب، إن جئنا إلى بيتكم يوم العيد يكون عندكم لحم؟ فخجل سليمان. وجاء إلى بعض أشراف الكوفة وقال له: أشتهي آكل عسلا بسرقين (أى عسلا بالزبل)، فدعا بهما، فأكل من العسل وأمعن فيه. فقال له الرجل: لم لا تأكل السرقين كما قلت؟ قال: العسل وحده أطيب. وعبث به الصبيان يوما ففر منهم والتجأ إلى دارٍ بابها مفتوح فدخلها، وصاحب الدار قائم له ضفيرتان، فصاح به: ما أدخلك داري؟ فقال: “يا ذا القرنين، إن يأجوجَ ومأجوجَ مفسدون في الأرض”. وسأله يوما علي بن عبد الصمد البغدادي: هل قلتَ شيئا في رقة البَشَرة؟ فقال: اكتب:أضْمر أن أُضْمِر حبي له * فيشتكي إضمار إضماريرَقَّ فلو مرّت به ذرّةٌ * لخضّبته بدمٍ جاريفقال: أريد أرقّ من هذا. فقال:أضمر أن يأخذ المرآة لكي * يبصر وجها له فأدناهافجاز وهم الضمير منه إلى * وجنته في الهوى فأدماهافقال: أريد أرقّ من هذا أيها الأستاذ. فقال: نعم، وما أظنه. اكتب:شبّهته قمرا إذ مرّ مبتسما * فكاد يجرحه التشبيه أو كلماومرّ في خاطري تقبيل وجنته * فسيّلت فكرتي في وجنتيه دمافقال: أريد أرق من هذا. فقال: يا ابن الفاعلة، أرقّ من هذا كيف يكون؟ رويدك لأنظر إن كان قد طبخ في المنزل حريرة أرق من هذا. رحمه الله تعالى”.وسر تألمى هو أن هذا الرجل يرينا أن البشر شديدو الضعف حتى إن حالهم لتنقلب من الصحة إلى الجنون لو حدثت لهم اختلالات معينة فى النسب التى بنيت أمخاخهم أو نفوسهم مثلا وفقا لها فيصيرون مساكين يُرْثَى لحالهم كما هو الأمر مع بهلول، الذى كان من الممكن أن يكون الواحد منا مثله وأسوأ حالا لو أرادت الأقدار، لكنها لم تُرِدْ، والذى كنا نعرف أمثاله فى طفولتنا، فكنا نداعبهم أحيانا، ونقسو عليهم ونؤذيهم أحيانا أخرى. ومن هؤلاء من كنا نسميه: “محمد معروف نمرة 8” لأنه كان يرتدى سترة عسكرية قديمة عليها شريط على هيئة هذا الرقم. وكان يلوذ عادة بالمقابر، فيتتبعه الصبيان هناك ويقذفونه بالحجارة، والماهر من يصيبه فى رأسه أو وجهه فيُدْمِيه. ولم يكن يجد وَزَرًا أو ملجأً من أولئك الشياطين سوى أن يمعن فى التغلغل بين المدافن لعلها تستره عنهم وتحميه من قذائفهم، وهم وراءه لا يريدون أن يتركوه. وحين أتذكر هذا الآن، ولا أدرى هل كنت أقذفه مع القاذفين أم هل كنت أكتفى بالجرى مع الصبيان أتفرج على ما يصنعون، أتألم أشد الألم لما كان ينزل بهذا المسكين من تعذيب لا يملك إزاءه شيئا سوى أن يتحمل ما يصيبه منه قدرا مقدورا لا مهرب منه. ولا أدرى إلام صار أمر ذلك الرجل الذى كان من قرية شِفَا المجاورة لقريتنا كُتَامة، رحمه الله. كان ذلك فى خمسينات القرن الماضى.هذا، وفى الرواية تفاوتات كثيرة بين الحقيقة والواقع، فى العقيدة والتاريخ والجغرافيا واللغة والسلوك. مثلا قول الراوى (فى أول الرواية): “السما السابعة” هل هو تعبير نصرانى؟ المعروف أنه تعبير إسلامى، إذ تحدث القرآن الكريم عن السماوات السبع عدة مرات، أما فى الكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى فليس ثَمَّ ذِكْرٌ له. ومثله كلام بدير عن غسل جسمه سبع مرات وحرصه على الإشارة إلى الرقم سبعة فى هذا السياق. ولقد بحثت فى مادة “سبعة” بـ”دائرة المعارف الكتابية” فلم أجد ذكرا لتطهير الجسد فى أى ظرف سبع مرات. ثم لم أكتف بذلك بل بحثت فى “موسوعة الكتاب المقدس” فى كتاب “اللاهوت العقيدى” تحت عنوان “أسرار الكنيسة” حيث يوجد كلام عن المعمودية، وهى أول تلك الأسرار وأهمها، إذ هى مدخل الشخص إلى الدين نفسه، فوجدت عدد التغطيسات فى الماء ثلاثة لا سبعة. وهذا نص ما قرأت: “سر المعمودية: به نولد ميلادا ثانيا بتغطيسنا فى الماء ثلاث دفعات على اسم الثالوث القدوس: الآب والابن والروح القدس. ويعتبر هو الباب الذى يدخل منه المؤمن إلى الكنيسة وملكوت الله، طبقا لقول الرب يسوع: “إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو3: 5)”. وبهذا لا أفهم كيف يحرص بدير على غسل جسده سبع مرات وكيف يحرص على ذكر ذلك. وفى الصفحة الرابعة والعشرين نسمع بدير يقول لثاونا يطمئنه بأن أحدا من المسلمين لن يتعرض لهما لأنهما “فى المعمودية”، مفسرا ذلك بأنهما سيكونان فى “لبوسٍ كهنوتية” بنص عبارة الكاتبة، وكأن كلمة “لَبُوس” كلمة مؤنثة، على حين هى كلمة مذكرة. فتكون الكاتبة قد أخطأت مرتين: مرة عندما فسرت المعمودية بارتداء ملابس كهنوتية مع أن هذا المصطلح إنما يعنى دخول الشخص فى النصرانية حقيقة أو اعتبارا، ومرة عندما أنثت الكلمة، وهى مذكَّرة.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. اذا كنت تعتقد ان الهكسوس قد انتهى من زمان فانت غلطان فهذا الكاتب من احفادهم وليس مصري اصيل

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى