مقالات

أزمة النخب الثورية في سوريا

سامي محمد عادل- كاتب سوري

شهدت سوريا حرباً ضارية تعد من أكبر المآسي التي شهدتها البشرية، ولكن المميز في هذه الحرب أنها وحتى بعد عشرة سنوات لا تزال أبعد ما تكون عن حل سياسي أو حسم عسكري يضمن الآمان لملايين السوريين الذين يرفضون حكم الأسد ولا يزال أحد أكثر أنظمة العالم إجراماً وفساداً يمسك بزام السلطة في بلد مدمر بالكامل اقتصاده في قاع الحضيض، وقد شهدت هذه السنوات العشر صراعات دولية ونزاعات إقليمية حولت جميع القوى السورية إلى أحجار شطرنج تتحرك وفق الأوامر بكل ما في الكلمة من معنى مع تحجيم ومحاربة لكل الشخصيات والكيانات التي كانت تحاول أن يكون لها قرار مستقل بغض النظر عن أجندتها

يؤرخ د. برهان غليون في كتابه عطب الذات للأشهر الأولى من الحراك السياسي في الثورة السورية ويشرح عن الخلافات والنزاعات بين القوى السياسية، ويسهل على من قرأ الكتاب أو كان مراقباً لتصرفات الشخصيات والقوى السياسية المؤيدة للثورة السورية في تلك المرحلة بالذات، يسهل عليه ملاحظة الطفولية والتشظي في هذه التصرفات وكيف افتقرت النخب السياسية في الثورة السورية للرؤية الشاملة والموضوعية للمستقبل أو كان لديها وتجاهلته بالإضافة لانفصال النخب السياسية عن القوى العسكرية المؤثرة على الأرض، فبينما كانت القوى السياسية في معظمها ذات خلفيات يسارية أو لبرالية كانت القوى الإسلامية المحافظة هي المؤسسات الأقوى على الأرض والمتفوقة عسكرياً وتنظيمياً، مقابل افتقارها الشديد للتمثيل السياسي وبدائيتها الواضحة في مزاولة السياسة.

ولا يمكن أغفال دور النظام خلال سنوات حكمه الطويلة في هذا ضعف الكفاءة السياسية لدى السوريين فالسياسة بالنسبة للسوريين كانت ذات سمتين أساسيتين، إما خطر الملاحقات الأمنية والاعتقالات والتعذيب، أو النفاق للسلطة والتسلق والفساد لتحقيق منافع شخصية تحت مظلة النظام الذي كان الفساد سمة أساسية في كل مؤسساته بأنواعها السياسية والإدارية والاقتصادية والعسكرية والأمنية، وهذا ما جعل السياسة مجالاً مكروهاً شعبياً لا يفقه معظم السوريين منه شيئاً وكانت النخب السياسية التقليدية قبيل الثورة أبعد ما تكون عن التأثير في الشارع.

ولا شك أن هذه كانت هي المشكلة الأهم والأبرز في جسد الثورة، فبينما كانت القوى المؤثرة على الأرض تفتقر للتمثيل والخبرة افتقرت القوى السياسية للقوة الحقيقية على الأرض، ووقع الطرفان في فخ الدعم والسيطرة الإقليمية والدولية فأصبحت القوى السياسية ضائعة حبيسة المؤسسات التي تتحكم بها القوى الخارجية وتعطل أي محاولة لتفعيلها، وأصبحت القوى العسكرية ضحية الدعم الذي سيطر أصحابه على قراراتها وأجبروها على خدمة أجندتهم ومصالحهم ومع تقهقرها العسكري غاصت أكثر في المستنقع، وأدركت القوى الإقليمية والدولية نتائج ذلك متأخرة، وبدأت سياسة المصالح تدفعها للتقرب من المنتصر (نظام الأسد).

وكان الخاسر الأكبر في ما حصل هم السوريون النازحون إلى المناطق المتبقية تحت سيطرة قوى المعارضة، والتي تتآكل شيئاً فشيئاً بفعل الاتفاقات الدولية التي لم يعد للسوريين (حتى نظام الأسد) أي يد فيها، وأصبحت ثروات البلاد ومؤسساتها نهباً للدول المسيطرة؛ فأمريكا تسيطر على النفط في شرق سوريا وروسيا وإيران تتقاسمان مناطق سيطرة الأسد بكل ما تحويه من موارد ومؤسسات وموانئ ومطارات وتركيا تسيطر على الشمال لحماية حدودها الجنوبية من قسد (الفرع السوري للPKK)، وهذا ما ترك جميع مناطق سوريا (المدمرة أصلاً من المعارك الطويلة) في حالة شلل اقتصادي وتنموي، وهو ما يخلق كوارثاً جديدة للشعب السوري على مختلف الأصعدة.

ولعل المشكلة الأساسية التي نقلت الثورة لهذا الوضع لا تزال مستشرية، ولكن الآن في كيانات مشلولة تحركها القوى الدولية بالكامل، ألا وهي ضعف الرؤية السياسية وعدم إدراك أهمية الإخلاص الكامل للهدف الأساسي وهو إزاحة النظام قبل العمل على اقتسام السلطة، وتحقيق المكاسب الفئوية والشخصية، لدى النخب والقيادات الثورية بنوعيها من المعارضة التقليدية، وقوى المعارضة الجديدة (التي تشكلت في الثورة دون خبرات سياسية سابقة)، ومع الفرق الجوهري المذكور سابقاً المتمثل بأن كلاهما لا يمتلك أي قوة على الأرض.

لم يدرك أي من قيادات الثورة العسكرية والمدنية حتى الآن أن الانتصارات العسكرية دون استغلال صحيح من مفاوضين متمرسين هي أشبه بانتفاضات الدجاجة بعد ذبحها، وأن القوى السياسية التي لا تمتلك تأثيراً على الأرض عندما تجلس على طاولة المفاوضات لا يمكنها إلا تحقيق الانبطاح والتنازلات، وغاب عن كثير من القوى الميدانية المؤثرة على الأرض قياس التوازنات الدولية واللعب عليها لاستجلاب المصالح للثورة والشعب السوري ودرء المفاسد عنهما، وعاش كثير من الإسلاميين في أحلام مجنحة عن نظام الحكم الإسلامي الرشيد دون أي تصور أو رؤيا واقعية لتحقيق هذا الحكم، بينما عاشت النخب السياسية في عزلة عن الشارع والجبهات إما بإرادتهم أو بسبب تمدد القوى التي لا توافقهم على الأرض، بينما اشتغل بعضهم الآخر في عد زلات خصومه، وتوثيق انتهاكاتهم دون إدراك أو اكتراث لخطورة هذا التصرف الآن.

وكان الطرفان يقومان بالخطط ويرسم كل منهما طريقه بعيداً عن الأخر فضاعت النخب السياسية بين أروقة جنيف ومؤسسات الثورة المترهلة، وخلافات على كعكة لم يحصلوا عليها بعد ومؤامرات وخطط كفيلة في بهدم أكثر الدول استقراراً (فما بالك بمؤسسات ناشئة لبلد يعيش حرباً)، وتقهقرت قوى الثورة العسكرية بفعل النزاعات الداخلية والدعم الروسي الإيراني للنظام، وبفعل داعش والتنظيمات التكفيرية الأخرى التي كانت تتمدد على حساب الثورة، وتشوه صورة الثورة الدولية في نفس الوقت.

لا شك أن الوضع السوري الآن من في أسوء حالاته ولكن ولكن لا يزال هناك أمل، أمل ضعيف لا شك، ولكن موجود، أمل في أن ينظم السوريون الذين خاضوا كل هذه التجارب أنفسهم من جديد في مؤسسات جديدة قادرة على استغلال التوازنات الدولية والنزاعات لمصلحة الاستقرار في سوريا هذا الاستقرار الذي تحاول كل دول العالم الآن التوصل إليه بعد أن أنهكتها ملفات اللاجئين والأزمات الإنسانية وتجارة المخدرات التي أصبحت سوريا بؤرة لها، ولكن هذا يجب أن يتم على يد وجوه جديدة شابة تعلمت من الماضي دون أن تتعنت له، وجوه قرأت تاريخ الثورة السورية ودرست أسباب ضعفها، وستخوض المرحلة القادمة بمعطيات الحاضر وليس بالأحلام اليوتيوبية لفترة بداية الثورة ومعطياتها، وجوه تعيش الحاضر بمعطياته ووقائعه وتسعى نحو المستقبل وفق هذه المعطيات والوقائع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى