فنجان سياسي

مجرد اعتياد وبوح فراتي


فراس العبيد _ رسالة بوست
توقفت رنات الهاتف المعتادة، تدريجيًا، وبعضها على الفور، حتى الكلمات والهمسات، أدركت سريعًا أنّ المحطات التي ضمتنا لم تخرج عن كونها “مجرد اعتياد”… أمّا ما تبقى من ذكريات فكانت حاضرةً معلنةً لم تتبخر.
وجدتني مرغمًا على البوح في سكونٍ غامض، لحظتها خرجت عن كوني ذاك “السياسي”، إلى “ثورتي وعشقي”، كانت تتوارد الصور أمام عيني… والحنين يذيب جمود الحروف، فترصف الكمات على سطور “رسالة”، لست أدرك لمن أكتبها… ﻷمي، أم للشهيدين، أم لصغيري أم لحبيبتي… (حتمًا لست زير نساء، ولم أكن يومًا، ولن أكون)، لكنني أعشقها تلك المدينة التي غاصت يدي في شعرها، وداعبت تفاصيلها؛ فاﻷول والثاني ضمتهما إليها، (في ترابها)، وانتظر يقينًا أنها ستغلبني وتعانقني ولو بعد حين، ﻷغفو بين ذراعيها.
تحدثت وبحت كأنما صوت الناي بمعزوفةٍ صوفيةٍ عثمانيةٍ للموسيقار “عمر فاروق” من أجمل ما قدّم، أو سمعت… أخبرتها عن غيابي … رحيل مؤقت… رفضها للأمر كان قاطعًا… معلنةً مسبقًا أنها “ستموت دوني”…!!
كنت ساذجًا يومها، لم أعي أن العبارات ساحرة أو خداعة إلى تلك الحدود، مددت إليها يدي معانقًا راحتها الناعمة كجناح فراشة… ذرفت شيئًا من “الدموع”… ابتسمت مودعًا… والوداع مقصلةٌ… لكن فرط إيماني بها… أرغمني على المضي…
لم أغلق الهاتف الجوال… تركته ﻷسمع نغمات الرنين بينما أغيب عنها… هل كانت تذكرني؟ اﻹجابة و ردت سريعًا… ما بالك تختنق… أجل… اذهب إلى الهاتف… انظر كم مرةً اتصلت بك… وكم رسالة شوقٍ وعتب….
يومها كنت مفرطًا في يقيني… وبعد شهرين… مجموع اﻻتصاﻻت والرسائل كانت ثمان مرات، أربعة، فثلاثٌ، فواحدة… ثم آخر ظهورٍ اﻵن، ولم “تمت دوني”… ببساطة “مجرد اعتياد”… تأقلمٌ على “الغياب”… ﻻ ألومها… ألوم كل قصيدةٍ كتبتها باسمها… وتوجتها بالياسمين الشامي.
عابرٌ… مثل بائع الورد، غريبٌ… مثل مصطفى… هل يعرف أحدٌ صاحبي… أجزم أنّ من يعرفهم قليل… لكونهم “غرباء”… طوبى لهم، وما أسعدني بهم.
باﻷمس مرّ طيفهم… وحديثٌ لم يكن عابرًا… كان بوحًا فراتيًا… وحكايةً شاميةً، وليتها تنتهي عند نهاية المطاف بنقطة التقاء، وعناق.
أتيت وفي الحشا ألم ثقيل .. ومن عيني أنهار تسيل 
أنا الموجوع من ألم الخطايا  .. بكيت فهل سينقذني الدليل
إلهي قد أتيتك في رجاء .. وجفني دمعه سكب هطيل 
فقير لست أدري ما جزائي  .. أأمضي في سكوني أم أميل
إلهي خطوتي تاهت وألفت  .. صحاري التيه يملئها العويل 
فأين أفر من وجع المعاصي  .. وأين يكون حبلك يا وكيل 
طرقت الباب يا جزل العطايا  .. أروم به الدخول فهل تنيل 
مددت يدي ولا أنوي رجوعاً  .. أأرجع والعظيم هنا يقيل 
أقلني يا كريم ففي بكائي  .. مماتي إذ يعاجلني الرحيل
أنا الموؤود في حفر المعاصي  .. فأين يكون ياسندي السبيل 
دعوتك والرجاء يخط دمعي  .. وما زال الرجاء بكم طويل 
فهب لي منك عوناً لآ يبارى  .. وجد بالخير كي يمضي الأفول
ويا سندي أنر لي الدرب خطواً  .. يبلغني فيغمرني المسيل 
أطلت وفي الإطالة منك من  .. لأنك تصطفي عبداً يطيل
“مجرد اعتياد”… الحضور والغياب… ما بين لافتةٍ مكتوب فوقها إعلانٌ عن “البدائل”… هذا في الحياة الدنيا… حتمًا ثمةً من يهبني “حبًا بصمتٍ وجنون”… إﻻ أنّ عشقي مختلف، فأنا مثل بائع الورد والغريب، اتكأنا على السمراء، وعانقنا “البندقية”… فهم “يستبشرون” وصاحبهم يرجو “الثبات”…
وقطعًا تعلق قلبي بها… كما تعلّقت بي تلك الأنثى العاصمة، لكن ثمة حقيقة أﻻ أحد سيموت لغيابي، وإنما سيتأثر، فالمسألة بالمحصلة، “فعل اعتياد”… أمّا الأهم أنني سأترك في نهاية القصيدة قطعة ورقٍ بلونٍ أحمر… وشيءٍ من تراب بلادي… ووصيةً… أنّ “التوحيد” أسمى ما عرفت… فلا وطنٌ وﻻ أنثى… فكن وكوني يا حبيبة (لابني وابنتي، حبيبتي، أمي)، عابرون غرباء….
والله غالبٌ على أمره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى